مارك لينش
ترجمة: عبد القادر نعناع
لم تسفر زيارة الرئيس الأمريكي جو بايدن إلى الشرق الأوسط، شهر يوليو/تموز الماضي، عن نتائج مبهرة بقدر ما أسفرت عن تذمر واضح. وأثبتت أن المكاسب التي حصل عليها بايدن لقاء قبضته مع ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، تكاد لا تذكر. إذ لم تلتزم السعودية بزيادة إنتاج النفط، ولم يتم الإفراج عن أي من المعارضين، ولم تظهر مسائل حقوق الإنسان إلى العلن، إلا عندما رفض الأمير محمد بن سلمان الانتقاد الموجه له بخصوص مقتل الصحفي جمال خاشقجي، وذلك عبر الإشارة إلى الصمت الأمريكي تجاه مقتل شيرين أبو عاقله، الصحفية الفلسطينية الأمريكية التي قُتلت في مايو/أيار الماضي في الضفة الغربية على يد الجيش الإسرائيلي، كما لم تعلن السعودية عن تحركات واسعة نحو التطبيع مع إسرائيل، ولم يتبلور تحالف أمني جديد في المنطقة.
لكن على ما يبدو، فإن لدى إدارة بايدن طموحات أوسع من تلك الزيارة، لا يمكن رصدها من خلال ملاحظة سجل الإنجازات قصيرة الأجل. حيث تعتقد الإدارة الأمريكية أنها بحاجة إلى إعادة العلاقات مع السعودية والحلفاء الإقليميين الآخرين، والعمل من منظور مصلحتهم في التعامل بشكل أفضل مع مجموعة متنوعة من القضايا. ما زاد في إلحاح هذه النظرية، هو احتمال الإخفاق الوشيك لمفاوضات إحياء اتفاقية نووية مع إيران، فضلاً عن الصدمات الناتجة عن الغزو الروسي لأوكرانيا. في حين أن الشائعات الإعلامية التي سبقت الزيارة حول إنشاء تحالف عسكري رسمي مع الدول العربية وإسرائيل، وأن القصد من الرحلة هو دفع المنطقة نحو نظام إقليمي جديد قائم على التعاون الإسرائيلي العربي ضد إيران، بتوجيه من الولايات المتحدة، لم تكن سوى تصريحات سابقة لأوانها. ورغم أن الزيارة أنجزت بعض الخطوات الصغيرة في هذا الاتجاه، لكن لا يبدو أن هذه الإجراءات قادرة على زيادة مستوى الاستقرار الإقليمي، ولن تكون البنية الأمنية التي تصورتها الإدارة جديدة قابلة للتحقق حالياً.
يتنامى اصطفاف إسرائيل مع الدول العربية ضد إيران منذ عقود، فيما جعلت اتفاقات أبراهام، التي تم التوصل إليها تحت إدارة الرئيس دونالد ترامب، التعاون رسمياً وعلنياً، وأزالت صراحة مسائل فلسطين وحقوق الإنسان من المعادلة. وفي ذات الوقت، تراهن الولايات المتحدة على قدرة الدول العربية الأتوقراطية على تبني نظام إقليمي يشمل إسرائيل، دون القلق بشأن كيفية استقبال الجماهير العربية لهذه السياسات. لكن هذه مخاطرة في وقت تتصاعد فيه الأزمة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية في معظم أنحاء المنطقة، ومن المرجح أن تأتي بنتائج عكسية، كما حدث في الماضي.
طالما كان ضبط نظام إقليمي في الشرق الأوسط، بقيادة الولايات المتحدة، سلوكاً أمريكياً (أشبه بالتسلية) منذ عام 1991، عندما نجحت الولايات المتحدة بقيادة عملية عسكرية لإخراج صدام حسين من الكويت. لكن الشرق الأوسط الحالي لم يعد يأتمر بأوامر واشنطن كما كان حينها. حيث أصبح قادة الشرق الأوسط، أكثر تحوطاً في المراهنة على الولايات المتحدة، في وقت يُلاحِظ فيه هؤلاء القادة صعود عالم متعدد الأقطاب بشكل متزايد، وهذا واضح في رفضهم الانحياز مؤخراً إلى جانب الولايات المتحدة وأوروبا ضد روسيا.
لكن إن نجح بايدن وبشروطه، في خلق تحالف إقليمي رسمي موجه ضد إيران، يضم إسرائيل والأنظمة الأوتوقراطية العربية، فإن ذلك لن يؤدي إلا إلى تكرار أخطاء الماضي. وقد يقود إلى تسريع الانهيار التالي للنظام الإقليمي من خلال عكس مسار التقدم نحو خفض التصعيد، وتشجيع القمع المحلي، وتمهيد الطريق للجولة التالية من الانتفاضات الشعبية.
ميثولوجيا/أساطير عام 1991
يمكن اعتبار السلوك الأمريكي القائم على إقامة نظام إقليمي تقوده الولايات المتحدة، هو سلوكي جيني في تكوين السياسات الأمريكية. وعلى وجه الخصوص، هناك جيل من صنّاع السياسة الخارجية الأمريكية، ينظر إلى عام 1991 والنظام الإقليمي الذي تم بناؤه في الشرق الأوسط آنذاك، باعتباره النموذج الأمثل الذي يجب محاكاته. من السهل معرفة أسباب هذه النظرة، وخصوصاً أن تلك الحقبة التي أعقبت انهيار الاتحاد السوفيتي مباشرة، كانت تمثل ذروة تفوق الولايات المتحدة على العالم. وقد بدأت فعلياً بعد تدخل الولايات المتحدة عامي 1990-1991 لعكس نتائج احتلال العراق للكويت. وأطلقت إدارتي جورج بوش الأب وبيل كلينتون جهوداً طموحة لإعادة ربط المنطقة بالقطبية الأحادية للولايات المتحدة، والحفاظ على نظام إقليمي ملائم لمصالح الولايات المتحدة.
وللحظة وجيزة من التاريخ، كانت كل الطرق تؤدي إلى واشنطن. إذ أطلقت الولايات المتحدة عملية السلام في مدريد لإنهاء الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني، ولإنشاء نظام إقليمي بقيادة الولايات المتحدة، يمكن أن يشمل كلاً من إسرائيل والدول العربية. فيما بحث حلفاء السوفييت السابقون –مثل سورية– طرق الدخول إلى هذا النظام الجديد، من خلال مفاوضات السلام مع إسرائيل. حتى إيران –المنهكة من عقد من الحرب مع العراق– سعت هي الأخرى إلى إعادة بناء علاقاتها بأوروبا ودول الخليج، وإطلاق “حوار الحضارات” في الأمم المتحدة، واتخاذ خطوات محدودة في التعاون مع واشنطن، بل والتراجع عن سياستها التدخلية في الإقليم.
ولفترة وجيزة، ظهرت أسس معيارية إيجابية أخرى، إلى جانب الأساس العسكري، لنظام إقليمي تقوده الولايات المتحدة. تمثل ذلك في شرعية العملية العسكرية التي قادتها الولايات المتحدة لتحرير الكويت، والتي كانت عملية متعددة الأطراف حقاً، في ظل شرعية ممنوحة من مجلس الأمن الدولي وجامعة الدول العربية. كما قدّم الاستثمار الأمريكي المكثف في صنع السلام العربي-الإسرائيلي بعد عام 1991، والإشراف على عملية أوسلو للسلام، رؤية إيجابية محتملة لمستقبل الشرق الأوسط.
لكن تلك الأسس المعيارية لم تتجذر في البيئة الإقليمية، وثبتت صعوبة إدارة النظام الإقليمي المتصور. ورغم الحنين العميق لواشنطن إلى الشرق الأوسط إبان التسعينيات، لكن تلك الفترة لم تكن كما تُصوِّرها الميثولوجيا/الأسطورة الأمريكية. حيث فشل النهج الأمريكي لعام 1991 في إنتاج نظام إقليمي مستقر وشرعي بقيادة الولايات المتحدة، حتى عندما كانت في ذروة قوتها العالمية، وهو ما يزودنا بدروس بالغة الإفادة اليوم.
لا شيء يمكن استعراضه
لم يقم النظام الإقليمي بعد عام 1991 بإدارة نفسه بنفسه، فيما تطلبت سياسة الاحتواء المزدوج لإيران والعراق إنشاء قواعد عسكرية أمريكية شبه دائمة في جميع أنحاء المنطقة، وخاصة في الخليج العربي. كان هذا تحولاً هائلاً عن السياسة الأمريكية في العقود السابقة، التي قامت على أساس الموازنة الخارجية للإقليم، من خلال مراقبة المنطقة، واستخدام حلفائها المحليين، وتجنب إقامة قواعد عسكرية دائمة واسعة النطاق. شمل هذا التحول، تكريس قدر غير متناسب من الطاقة الدبلوماسية لمشاكل المنطقة، حتى بدا أن كل أزمة في الإقليم تتطلب اهتماماً أمريكياً أكبر. وأدت سياسة التعامل مع الأزمات التي لا نهاية لها بهذه الطريقة، إلى تجاهل أو حتى تعزيز الأنظمة الأوتوقراطية التي كان من شأنها أن تقوض النظام الإقليمي في نهاية المطاف.
في قلب تلك السياسات الأمريكية، كانت عملية احتواء العراق، التي تطلبت الحفاظ على نظام عقوبات صارم وغير مسبوق تاريخياً. لكن حرمان العراق من وارداته وصادراته كان بدوره مسؤولاً عن أعداد لا حصر لها من الوفيات المتزايدة، ومسؤولاً عن البؤس الإنساني الذي قوّض بشدة الادعاءات الأخلاقية الأمريكية، بنظر العرب.
في حين أدت الاشتباكات حول عمليات التفتيش على الأسلحة إلى أعمال عسكرية متكررة، منها مثلاً عملية ثعلب الصحراء، والتي كانت عبارة عن حملة قصف لأهداف عراقية استمرت أربعة أيام نفذتها الولايات المتحدة والمملكة المتحدة في ديسمبر/كانون الأول 1998. لكن في النهاية، لم تنجح تلك الجهود، واستغل صدام برنامج النفط مقابل الغذاء التابع للأمم المتحدة لتأمين نظامه، فيما تآكل الامتثال الإقليمي للعقوبات الدولية.
ورغم المجهود الدبلوماسي، فشلت الولايات المتحدة في الوفاء بوعدها بتحقيق سلام إسرائيلي–فلسطيني. ورغم أن إدارة كلينتون بذلت جهداً في المفاوضات، لكنها لم تتمكن من التغلب على تداعيات اغتيال رئيس الوزراء الإسرائيلي إسحق رابين عام 1995، أو الموجات المتتالية من إرهاب حماس، أو التوسع الإسرائيلي المستمر في سياسة الاستيطان في الضفة الغربية. وبالمثل، فشلت واشنطن في تحقيق سلام إسرائيلي-سوري.
كما شهد عقد التسعينيات أيضاً، التقليل من أهمية الديمقراطية في المنطقة، خوفاً من فوز الإسلاميين في صناديق الاقتراع. وبدلاً من ذلك، تظاهرت واشنطن بالاعتقاد بأن الحكام العرب الأوتوقراطيين سيعملون على تطوير المجتمعات المدنية لتهيئة شعوبهم ليكونوا على أهبة الاستعداد للديموقراطية الحقة يوماً ما. هذه بالطبع، هي نفس الحجة التي ساقتها وتسوقها معظم الأنظمة الأوتوقراطية العربية اليوم، وهو ادعاء لم يُظهر فريق بايدن أي جهد للتشكيك فيه. إذ تمت مقايضة الترويج للديمقراطية بالحصول على نظام إقليمي مستقر وترسيخ الأوتوقراطية العربية بكل عللها. وعليه، لم يكن من قبيل الصدفة أن عقد التسعينيات كان أيضاً فترة تمرد إسلامي في مصر والجزائر وفترة حضانة القاعدة.
محصلة ذلك، أن الأيام المجيدة لقيادة الولايات المتحدة للشرق الأوسط، هي أقل بكثير مما تبدو عليه. حيث فشلت جهود احتواء العراق، وفشلت الجهود الأمريكية لتأمين سلام عربي-إسرائيلي. ولم تفلح أطروحة بناء شروط الديمقراطية من خلال العمل مع الأوتوقراطيين العرب. وعليه يمكن القول إن بروز دور الولايات المتحدة في كل هذه الإخفاقات، جعلها هدفاً جذاباً للقاعدة، والتي حولت نشاطها من “العدو القريب” إلى “العدو البعيد” في الحادي عشر من سبتمبر/أيلول.
تكرار الأخطاء
حاولت كل الإدارات الرئاسية التي أعقبت كلينتون، إعادة تصميم النظام الإقليمي في الشرق الأوسط. فبعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر/أيلول، شرعت إدارة جورج دبليو بوش في استراتيجية التفوق الأمريكي، ليكون محور هذا النظام الإقليمي الجديد هو “الحرب العالمية على الإرهاب”، والتي تضمنت في الشرق الأوسط تعاوناً وثيقًا بين الولايات المتحدة وأجهزة الأمن الإقليمية، وتوسيعًا هائلًا وتدخلياً للوجود الأمريكي في المنطقة. لكن غزو العراق للإطاحة بصدام، أثبت بكل تأكيد مدى كارثية هذا النهج الذي خلق فراغاً من الاستقرار في قلب الشرق الأوسط. وأطلق الاحتلال الأمريكي للعراق العنان للطائفية المتوحشة، ومكّن كلاً من إيران والحركات الجهادية السنية مثل الدولة الإسلامية الوليدة، وتسبب في تدفق ملايين اللاجئين. وحيث استنفدت حرب العراق الرغبة والقدرة الأمريكية على العمل عسكرياً في الشرق الأوسط، فإنها انتهت بانتصار إيران الباهظ –إلى حد ما– وتمكنها من ترسيخ حلفائها في مواقع مهيمنة في الدولة العراقية.
تلك الفوضى، هي ما أطلقت عليه وزيرة الخارجية الأمريكية كوندليزا رايس خلال ذروة حرب إسرائيل على لبنان “الشرق الأوسط الجديد”، ورغم أنه كان عنيفاً وتنافسياً مفرطاً، لكن من الناحية الهيكلية هو مشابه تماماً لما هو عليه الشرق الأوسط اليوم.
فمن جهة، كان هناك ما أسماه المسؤولون الأمريكيون “محور المعتدلين”، والذي شمل إسرائيل ومعظم الدول العربية تحت المظلة الأمنية الأمريكية، في مقابل “محور المقاومة” الذي شمل إيران وسورية والجهات الفاعلة غير الحكومية مثل حماس وحزب الله. وغالباً ما يتم تجاهل حقيقة أن وسائل الإعلام المملوكة للسعودية دعمت في البداية هجوم إسرائيل عام 2006 على حزب الله، بسبب كراهيتها للحركة الشيعية المدعومة من إيران، إلى أن أجبرها رد عام معادٍ على تغيير خطها التحريري. فيما قادت عدم شعبية التدخل الأمريكي، مثل الحروب في العراق وأفغانستان، إلى تعظيم مكاسب تركيا وقطر السياسية، من خلال التصرف كدول متأرجحة الموقف، متخذة مواقف أكثر انسجاماً مع الرأي العام العربي بشكل عام.
بدوره، قدّم الرئيس باراك أوباما، رؤية مختلفة حقاً للنظام الإقليمي، تستند إلى خلق توازن قوى مستقر وقابل للتطبيق بين إيران وجيرانها، من خلال الدبلوماسية النووية، وتقليص الوجود العسكري الأمريكي. لكن إسرائيل والسعودية والإمارات العربية المتحدة، جميعها، عارضت عملياً كل ما حاولت إدارة أوباما تطبيقه، بما في ذلك الاتفاق النووي الإيراني، ونظروا إلى مشروع أوباما على أنه النقيض لحالة الازدهار التي تشهدها دولهم في تلك الآونة.
لم ترغب دول الخليج العربي مشاركة المنطقة مع إيران (كما اقترح أوباما)، ولم تكن راغبة فيما اعتبرته أفكار أوباما الهرطقية حول تبني الديمقراطية وانتفاضات الربيع العربي. في الوقت نفسه، عارض القادة الإسرائيليون أفكار أوباما حول استئناف مفاوضات السلام التي من شأنها أن تعمل على إنشاء دولة فلسطينية، بل وعارضوا بشكل أكبر فكرة أن حل الدولتين سيكون ضرورياً لإقامة علاقات مع الدول العربية. كما أثبتت إيران أيضاً أنها غير راغبة في تعديل سياساتها الإقليمية بشكل هادف والتوقف عن استخدام وكلاء للقتال في أماكن مثل العراق وسورية واليمن بعد توقيع الاتفاق النووي. جميع هذه المواقف، أدت هذا إلى تقويض جهود أوباما في صياغة نظام إقليمي جديد.
وهذا يفسر سبب ترحيب إسرائيل والسعودية والإمارات العربية المتحدة –مثل العديد من القادة العرب الآخرين– بعودة إدارة ترامب إلى نموذج بوش الابن: “الشرق الأوسط الجديد”. حيث تبنى ترامب وجهات نظرهم على أنها وجهة نظره هو، وتوقف عن الضغط على الدول العربية بشأن سجلاتها الحقوقية، أو دفعها لحل القضية الفلسطينية. كما تخلت إدارته عن الاتفاق النووي الإيراني، وواصلت بدلاً من ذلك ما وصفته بحملة “الضغط الأقصى” على إيران. لكن مرة أخرى، جاءت محاولات فرض نظام إقليمي بنتائج عكسية، إذ شجع احتضانه الشديد لهذه الدول العربية وإسرائيل على أسوأ غرائز تلك الحكومات، بما في ذلك التدخل العدواني الذي أدى بشكل حتمي إلى تسريع الحروب الأهلية وفشل الدولة في جميع أنحاء المنطقة، من اليمن إلى ليبيا وسورية. وأدى القمع المتصاعد داخل تلك الدول، إلى زيادة عدم الاستقرار الداخلي وخطر تجدد الانتفاضات، بينما أدى تسارع سياسة إسرائيل في مصادرة الأراضي الفلسطينية إلى حدوث أزمات متكررة.
كما ثبت أن تبني ترامب لنهج “الشرق الأوسط الجديد” له حدود، وهو ما أثار استياء الحلفاء الإقليمين. وخصوصاً مع رفض ترامب الرد على إيران بعد هجومها غير المسبوق على منشأتين نفطيتين رئيسيتين داخل السعودية عام 2019، وأشار ذلك إلى أن الشرق الأوسط بات مسألة تقع مسؤوليتها على حكمة قادة المنطقة. كان هذا بمثابة إثبات بأنه لم يعد بالإمكان الاعتماد على العلاقة المتينة بالإدارة الأمريكية للرد عسكرياً على مثل هذا الهجوم العدواني، فهل يمكن الوثوق بأي ضمانات أمنية أمريكية؟
لا أحاديث منمقة بعد الآن
يُظهر مفهوم بايدن للمنطقة أن هذه الرؤية للنظام الإقليمي ما تزال قائمة بين قادة المنطقة وفي دوائر السياسة في واشنطن، على الرغم من كل الصراع والبؤس الإنساني الذي ولّدته. لقد تكيفت الأنظمة العربية بشكل فعال في مواجهة مطالب واشنطن، وأثبتت فعاليتها في صد أي جهود أمريكية لتغيير السياسات. ورغم أن أعضاء فريق بايدن هم –في غالبهم– تمت صناعتهم من قبل إدارة كلينتون، ويعتقدون أنهم تعلموا الدروس الصحيحة من سنوات أوباما وترامب، لكن من المفارقة أن الشرق الأوسط الذي يأملون في تصميمه، يشبه بدرجة أكبر النظام الإقليمي الذي حاوله الرئيس جورج دبليو بوش الوصول إليه.
ولعل الفارق بين نموذج بايدن عن نموذج بوش الابن، هو ما تخلى عنه بايدن: “أجندة الحرية”. ربما يكون بوش قد تخلى عن أفكار الترويج للديمقراطية في الشرق الأوسط بمجرد فوز حماس في الانتخابات التشريعية الفلسطينية عام 2006، لكن خطاب إدارته حول التغيير الديمقراطي في المنطقة، قدّم على الأقل بعض الرؤية الإيجابية للنظام الإقليمي. في المقابل، فإن بايدن، في رحلته الأخيرة إلى السعودية، تخلى عن ذلك تماماً. وهذا ما يمكن اعتباره مفهوم بايدن لإدارة تريد إصلاح العلاقات مع القادة العرب وتجنب أي شيء قد يثير استعداءهم. لكن لها تكاليف حقيقية يتم التضحية بها.
كانت الأوتوقراطيات العربية الملاط الذي ربط النظام الإقليمي بقيادة الولايات المتحدة خلال عقدي التسعينيات والعقد الأول من هذا القرن. فيما أدت الانتفاضات العربية عام 2011 إلى تفكيك هذا الرابط بطريقة لم يتم استيعابها كاملة بعد. ولم يتم إنتاج تحولات ديمقراطية مستدامة في أي مكان في العالم العربي، فيما حسم الانقلاب الرئاسي في تونس في يوليو/تموز 2021 مصير واحدة من التجارب القليلة التي ظهرت.
ويسعى الأوتوقراطيون العرب اليوم، إلى إقناع واشنطن، بأنهم قد استعادوا النظام القديم كاملاً، وأن الديمقراطية أصبحت ملفاً غير قابلة للنقاش، وأنهم استعادوا سيطرتهم بشكل حازم. في حين أن المؤشرات الاقتصادية الكئيبة في معظم المنطقة، والتي تفاقمت بسبب كوفيد -19 وحرب روسيا في أوكرانيا، والانفجارات المتكررة للحشود الشعبية في أماكن غير متوقعة مثل الجزائر والعراق ولبنان والسودان، تشير إلى أن تصوراتهم هذه ما هي إلا تصورات مضللة.
عالم مختلف
وبغض النظر عن احتمالية اندلاع انتفاضات شعبية جديدة، تبدو المنطقة اليوم مختلفة تماماً عن تلك المرحلة السابقة للنظام الإقليمي بقيادة الولايات المتحدة. إذ أصبح الشرق الأوسط متعدد الأقطاب داخلياً، وتحولت مراكز القوى العربية عن المناطق التقليدية في قلب العالم العربي (بلاد الشام ومصر) باتجاه دول الخليج العربي، واشتركت دول غير عربية مثل إسرائيل وإيران وتركيا بشكل متزايد في معادلات القوة هذه. بينما أدى انعدام أمن النظام –بشكل وجودي– أعقاب صدمة عام 2011، إلى جانب انتشار الدول الفاشلة والحروب الأهلية، إلى تغيير منطق التدخل وتغيير ميزان القوى في المنطقة. بينما أدى رفض أوباما التدخل المباشر في سورية، ورفض ترامب الرد على الهجمات الإيرانية على المنشآت النفطية السعودية، وانسحاب بايدن من أفغانستان، إلى تغيير وجهة نظرة القادة العرب في الولايات المتحدة كضامن للأمن في المنطقة.
وعليه، لا يمكن اعتبار الفترة الحالية، فترة هيمنة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط. لكن هذا لا يعني أن هناك ما يشبه القطبية الثنائية الجديدة أو حتى التعددية القطبية في العالم. إذ لطالما كانت روسيا مُفسِدَة أكثر من كونها قطباً منافساً لقوة الولايات المتحدة، فيما تستهلكها حالياً حربها في أوكرانيا. وبدروها، لم تقدّم الصين بعدُ محاولة لترجمة وجودها الاقتصادي المتنامي بسرعة، إلى نفوذ سياسي أو عسكري، وفي الغالب، تشارك الصين الولايات المتحدة المصالح الأساسية مثل الحفاظ على تدفق النفط من الخليج.
ولكن حتى مع عدم وجود منافس حقيقي، فإن الولايات المتحدة، ببساطة، لا تملك الموارد أو القدرات السياسية للعب دور المهيمن في الشرق الأوسط. وفي الوقت نفسه، لم تعد القوى الإقليمية تعتقد أن الولايات المتحدة تستطيع أو ستعمل عسكرياً للدفاع عنها. إذ علّمت الانتفاضات العربية هؤلاء القادة الأوتوقراطيين أن واشنطن لا تستطيع ضمان بقاء الأنظمة التي تعمل من أجل المصالح الأمريكية. وعليه لا يمكن اعتبار مواقفهم القومية، وشكواهم المتزايدة من تخلي واشنطن، أنها مجرد موقف مساومة تهدف إلى تأمين المزيد من الأسلحة الأمريكية والدعم السياسي. بل مواقف هي تعكس القدرات المتزايدة للدول العربية ومشاعرها العميقة بعدم الأمان، ولن تثمر المحاولة غير الفعالة لطمأنة هذه الدول، فشكوكهم عميقة للغاية، في وقت يبدو فيه أن القدرات الأمريكية والإرادة السياسية غير كافية بشكل واضح.
يبدو هذا المشهد سيئاً، لكن لا يجب أن يكون كذلك. فبدلاً من محاولة إعادة بناء نظام تآكلت أساساته بشكل لا يمكن إصلاحه، فإن النهج الأفضل هو تشجيع التحركات التي تتخذها الدول بمفردها لتهدئة التوتر الإقليمي في غياب القيادة الأمريكية.
فخلال العام الماضي، أعادت دولة الإمارات بناء علاقاتها مع قطر وتركيا، فيما سرى وقف إطلاق النار في ليبيا واليمن، وعقدت السعودية محادثات أولية مع إيران. لذا فإن تحركات الولايات المتحدة لبناء جبهة موحدة ضد إيران –تصعيد مبيعات الأسلحة وإعادة تأكيد الضمانات الأمنية–، يمكن أن تكون ذات نتائج عكسية للغاية لهذه الجهود المحلية. فكلما تحركت واشنطن لتوسيع التزاماتها العسكرية والسياسية لقيادة نظام إقليمي جديد، كان من المرجح أن تصبح المنطقة أقل استقراراً.
تعاني المنطقة من اضطراب عميق منذ عام 2011، وتعتبر مشاكلها كثيرة. لكن كيفية إعادة بناء نظامها الإقليمي له عواقب وخيمة، وستسهم مفاهيم النظام القديمة بسرعة في مزيد من الفشل. إذ أصبح الخليج اليوم، منطقة أكثر استقلالية، وأصبحت دوله العربية مستعدة وقادرة على التصرف دون اعتبار لقوة عظمى راعية لهم.
لكن خارج عدد قليل من دول الخليج الثرية، تعد المنطقة أيضاً مزيجاً من العمليات العسكرية ومكاناً بالكاد يستطيع فيه الأوتوقراطيون التمسك بالسلطة في مواجهة مشكلات اقتصادية هائلة ومتفاقمة. وعلى الرغم من وقف إطلاق النار الأخير، استمرت الصراعات في ليبيا وسورية واليمن في الاشتعال، ويمكن أن تشتعل في أي وقت. فيما يسعى الحكام الأوتوقراطيون والملوك في جميع أنحاء المنطقة لترويج فكرة الاستقرار واستعادة الحالة الطبيعية، لكن واقع الظروف الاقتصادية والسياسية على حد سواء اليوم، أسوأ مما كان عليه عشية انتفاضات 2011.
كما أنه في ظل غياب أي أمل في حل الدولتين أو أي قيود دولية جادة على الاحتلال الإسرائيلي، فإن توسع إسرائيل المستمر في الضفة الغربية والحصار المستمر لغزة يمكن أن يؤدي إلى أزمة أخرى في أية لحظة.
بدورها، فإن الولايات المتحدة نفسها في حالة من الفوضى، ويستنزفها الاستقطاب والتنافس السياسي الداخلي، فيما تخلت إلى حد كبير، حتى عن التظاهر، بتعزيز الديمقراطية أو حقوق الإنسان.
وفيما يجادل المدافعون في إسرائيل والخليج بأن اتفاقيات أبراهام توفر رؤية للمنطقة يمكن بناء نظام حولها، لكن كل الأدلة تشير إلى أن الجمهور العربي يرفض بأغلبية ساحقة فكرة التطبيع مع إسرائيل دون حل للقضية الفلسطينية. ما يعني بناء نظام إقليمي يعتمد على أنظمة أوتوقراطية لقمع الرأي العام بدلاً من بناء نظام تحكمه الشرعية خارج القصور، لن يكون مستقراً أو وثابتاً.
سيكون من السخرية حقًا، إن انتهى هذا النظام الإقليمي كما انتهى النظام الإقليمي لكلينتون في التسعينيات، عبر حرب غير ضرورية وكارثية. إذ أدى انسحاب ترامب أحادي الجانب من الاتفاق النووي الإيراني في عام 2018 إلى تقويض جهود أوباما لبناء نظام بديل، ولم يستطع بايدن التغلب على التداعيات السلبية لذلك. ومع طي الاتفاق النووي الإيراني، بات من السهل جداً تصور الانزلاق نحو مشروع أمريكي يهدف إلى شن حرب لتغيير النظام في إيران. من المؤكد أن بايدن تجنب مناقشة استخدام القوة ضد إيران، كما أن انسحابه من أفغانستان يعطي بعض المصداقية لتصميمه على تجنب حرب أخرى واسعة النطاق، لكن الضغط لاتخاذ إجراء حاسم سيزداد مع تضييق الخيارات إلى: قبول إيران نووية، أو العمل عسكرياً لمنعها. إن المسار الذي يسلكه بايدن لإعادة بناء النظام الإقليمي يجعل هذه النتيجة الكارثية أكثر احتمالية.
الكاتب: البروفيسور مارك لينش، أستاذ العلوم السياسية والشؤون الدولية بجامعة جورج واشنطن
المترجم: د. عبد القادر نعناع، باحث وأكاديمي مختص بالشرق الأوسط والعلاقات الدولية.
للاطلاع على النص الأصلي، انظر:
المصدر: “فورين أفيرز”
التعليقات مغلقة.