ياسمين عبداللطيف زرد *
نشر موقع Eurasia Review مقالاً بتاريخ 26 تموز/ يوليو الماضي للكاتب “مانجو جوشي”، تناول فيه العوامل التي أثرت على قوة الولايات المتحدة، والانتكاسات التي تعرضت لها مما أعطى مساحة لمنافسيها، الصين وروسيا، للتقدم. كما أكد أنه وإن كانت مكانة الولايات المتحدة العالمية موضع شك، فإنها ستظل قوة عالمية رئيسية وإن لم تكن مهيمنة. داعياً إلى تبنيها طرقا للعيش مع حقيقة وجود قوى أخرى مهيمنة كالصين.. نعرض من المقال ما يلى:
دخلت الولايات المتحدة في ما يمكن تسميته بـ«حرب باردة جديدة» ضد روسيا والصين. وعلى الرغم من وصف هذا على أنه صراع بين الديمقراطية والاستبداد، فإنه لا أحد يؤمن بذلك، فيبدو جلياً أن السبب وراء سياسات الولايات المتحدة هو الرغبة في الحفاظ على تفوقها العالمي في مواجهة التحدي الصيني.
بشكل عام، من السابق لأوانه الحديث عن تراجع مكانة الولايات المتحدة. فلا تزال الدولة تتمتع باقتصاد نابض بالحياة، مدعوما بالثقل المالي وبراعة البحث والتطوير، كما أنها مستقرة من الناحية الديموغرافية. ناهيكم عن أنها القوة العسكرية الرائدة في العالم.
كما تُظهر مقاييس الازدهار مثل الناتج المحلى الإجمالي (GDP) أن هناك تغيراً طفيفاً في الحصة الأمريكية على مدى الأربعين عاماً الماضية حيث لا تزال تمثل نحو 25٪ من إجمالي الناتج المحلي العالمي. في عام 1980، كانت حصة الولايات المتحدة كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي العالمي 25.16٪. تنفق الولايات المتحدة نحو 27.3٪ من الإنفاق العالمي على البحث والتطوير مقارنة بـ 21.9٪ تنفقها الصين، من هنا تأتي الجاذبية المستمرة للولايات المتحدة باعتبارها الوجهة الدولية الأولى للبحث والتعليم مما يمنحها القدرة على اكتساب المواهب من جميع أنحاء العالم.
ومع ذلك، فقد تأثرت قوة الولايات المتحدة الناعمة بالتطورات في الداخل وسلوكها غير المتسق على مستوى العالم. كما أن الانتكاسات الأمريكية- بدءا من الحرب فى فيتنام وما بعدها بالتدخلات الكارثية فى العراق وأفغانستان- قد أتاحت مساحة لمنافسيها (الصين وروسيا) للتقدم.
* * *
كانت النكسة الحقيقية للولايات المتحدة في قوتها الناعمة وقد تجلى ذلك بطرق مختلفة. أحد مقاييس ذلك هو الانقسام السياسي العميق في سياساتها الداخلية، حيث تظهر استطلاعات الرأي باستمرار أن 70٪ من الناخبات والناخبين الجمهوريين لا يرون بايدن هو الفائز- بشكل قانوني- في الانتخابات الرئاسية لعام 2020. كما ازداد عدم المساواة في الدخل في الولايات المتحدة منذ عام 1980 وهو أكبر مما هو عليه في البلدان النظيرة. بمرور الوقت، افترضت البلاد أن نظامها الديمقراطي سيحميها من أي منافسة. ومع ذلك، يبدو أن هذا النظام أصبح ميؤوساً منه. فلم يعد نظامها السياسي- من خلال العمل عن طريق حزبين- فعالاً.
بالنظر إلى هذا الوضع، يبدو أن البلاد غير قادرة على التعامل مع مشاكلها الاجتماعية المزمنة، بدءاً من إطلاق النار الجماعي والعنف المرتبط بالأسلحة النارية إلى الفقر المزمن والتشرد وتعاطى المخدرات. وقد أدى هذا إلى ظهور وجهة نظر مفادها أن الولايات المتحدة في حالة تدهور لا رجعة فيه.
* * *
يرتبط بالنقطة السالفة النهج المتعثر للولايات المتحدة تجاه العولمة. هي ساعدت على تشكيل ما يسمى بالنظام الدولي الليبرالي؛ وهو يقوم على ثلاث ركائز: نظام الأمم المتحدة للحفاظ على النظام الدولي، والوكالات المنتسبة لتعزيز معايير الصحة والعمل، وأخيراً، وكالات مثل منظمة التجارة العالمية، وصندوق النقد الدولي، والبنك الدولي لتنظيم النظام الاقتصادي العالمي. قامت الولايات المتحدة أيضا بصياغة سلسلة من التحالفات العسكرية العالمية للتعامل مع التحدي المتمثل في الاتحاد السوفييتي السابق مثل منظمة حلف شمال الأطلسي (الناتو)، ومنظمة المعاهدة المركزية (حلف بغداد)، ومنظمة معاهدة جنوب شرق آسيا، لكن لم يكتب البقاء سوى للأولى.
تم استخدام نظام التجارة العالمي الذي أنشأته الولايات المتحدة بمهارة من قبل الصين للظهور أولاً كمصّنع للعالم، ثم كقوة عسكرية متنامية باطراد. ومع تركيز الولايات المتحدة على الحرب على الإرهاب والكوارث في العراق وأفغانستان، بدأت في إهمال أجزاء كبيرة من العالم. داخل الولايات المتحدة ظهرت اتجاهات سياسية تشكك في الدور الأمريكي العالمي ومنطلقات الليبرالية، الأمر الذى زاد من التساؤل عن تحمل الولايات المتحدة حصة غير متكافئة أو عبء ثقيل لكل شيء، الأمن العالمي ونظام الأمم المتحدة. أدى ذلك إلى انتخاب دونالد ترامب رئيساً في عام 2016.
ركزت إدارة ترامب على الحرب التجارية مع الصين، وازدراء المنظمات الدولية، وخرجت من الشراكة عبر المحيط الهادئ (TPP). الأسوأ من ذلك، طالب الرئيس حلفاء أمريكا العسكريين وشركائها بدفع نصيب عادل من أجل أمنهم. وعندما ضرب العالم جائحة كوفيد-19، رفضت الولايات المتحدة تولي القيادة العالمية لمكافحته.
* * *
بالمقارنة مع الصين، شهدت الولايات المتحدة انخفاضاً. فمن حيث تعادل القوة الشرائية، انخفضت حصة الولايات المتحدة من الناتج المحلي الإجمالي العالمي من 50٪ في عام 1950 إلى 14٪ في عام 2018، في حين تجاوزتها الصين بنسبة 18٪. عدد سكان الصين أكبر بأربعة أضعاف من سكان الولايات المتحدة، واقتصادها ينمو بمعدل أسرع ثلاث مرات. المجالات الأخرى مثل البحث والتطوير والعلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات تنمو أيضاً بسرعة في الصين. وبناء على هذه الاتجاهات الحالية، يمكن للمرء أن يتوقع هيمنة الصين خلال سنوات.
كذلك توصلت الصين إلى مبادرة الحزام والطريق لتوفير بنية تحتية صلبة في جميع أنحاء العالم. وبين عامي 2001 و2018، قدمت الصين قروضاً بقيمة 126 مليار دولار أمريكي إلى البلدان الأفريقية واستثمرت 41 مليار دولار أمريكي. وإذا كانت الولايات المتحدة تحاول مضاهاة الصين، إلا أنها لا تمتلك ما تظهره حتى الآن. وبالنسبة للمقترحات الأخيرة لمجموعة السبع بإطلاق 600 مليار دولار فإنها لاتزال حبراً على ورق.
وإذا كانت إدارة ترامب قد حددت بوضوح الصين باعتبارها التهديد الرئيسي للهيمنة الأمريكية في المحيطين الهندي والهادئ مستخدمة مجموعة متنوعة من الوسائل مثل لوائح مراقبة الصادرات والقيود المفروضة على فئات معينة من الطلاب الصينيين، إلا أن إدارة بايدن لم تقدم بعد نسخة رسمية من سياستها تجاه الصين. لكن جهودها للقيام باستثمارات عامة ضخمة في البرامج الاجتماعية والبنية التحتية والبيئية فشلت في التغلب على الجمود السياسي في الكونجرس الأمريكي.
* * *
شكلت حرب أوكرانيا تحدياتها الخاصة. ففي الوقت الذي كانت فيه روسيا كياناً ضئيلاً بالنسبة للولايات المتحدة، برزت اليوم على أنها مصدر إلهاء كبير قادر على إخراج المشروع الأمريكي لتحدي الصين في المحيطين الهندي والهادئ عن مساره. لكن بعد مرور عامين، هل يمكن أن يؤدى وصول ترامب إلى السلطة مرة أخرى إلى إدخال حالة من عدم اليقين وعدم الاتساق في السياسة العالمية للولايات المتحدة بوقف الدعم لأوكرانيا؟
على كلٍّ، لا تزال الهيمنة العالمية، التي حصلت عليها الولايات المتحدة في عام 1945، مفتاحاً لمنظورها العالمي. لطالما كانت الولايات المتحدة صاحبة المركز الأول في المجالات الاقتصادية والعسكرية. لكننا في مرحلة ينمو فيها الاقتصاد الصيني بشكل هائل، وفي العشرين عاماً القادمة، قد يكون أكبر بعدة مرات، مما يمكن الصين من مواكبة النفقات العسكرية الأمريكية أيضاً.
* * *
صفوة القول، إذا كانت مكانة الولايات المتحدة العالمية موضع نقاش، إلا أنها ستظل بلا شك قوة عالمية رئيسية، وإن لم تكن مهيمنة، في المستقبل. ومع ذلك، للحفاظ على هذا الوضع والتنافس بنجاح مع الصين، تحتاج أمريكا إلى إعادة تعزيز قوتها الناعمة، بناء على جاذبية نظامها الاجتماعي والسياسي والاقتصادي. يجب أن تصبح رائدة في القضايا المتعلقة بالأمن والتجارة، وحقوق المرأة، وحماية البيئة، والنضال من أجل الديمقراطية والمساواة العرقية. لديها بالفعل صيغة للهيمنة، لكنها تحتاج إلى جعلها أكثر شفافية وقابلية للتطبيق. أكثر من ذلك، يجب أن تجد طريقة للعيش مع قوى أخرى مثل الصين، وهو مسار لا يعتمد بالضرورة على هيمنتها العالمية.
……………….
النص الأصلي:
ـــــــــــــــــــــــــــ
* كاتبة صحفية ومترجمة مصرية
المصدر: الشروق
التعليقات مغلقة.