عبد الله السناوي *
بتقادم السنين قد تبهت في الذاكرة العامة المعاني الكبرى التي قاتلنا من أجلها ذات يوم، كأن أجيالاً كاملة لم تحلم باستقلال الجزائر، وعروبة الجزائر. فى معركة التحرير، التي امتدت بين عامي (1954) و(1962)، استشهد مليون ونصف المليون، كان ذلك ملهماً بذاته وداعياً للتساؤل عما يمكن أن يفعله أي عربي من أجل الجزائر.
في (5) تموز/ يوليو (1962)، قبل ستين سنة بالضبط، نالت الجزائر استقلالها بدماء شهدائها بعد (130) سنة من الاحتلال الفرنسي، الذي مارسَ بحق شعبها أبشع الجرائم والمجازر دون أن يعتذر حتى الآن.
«الحمد لله الذى أعطانا هذه الفرصة لنرى الأماني وقد تحققت.. الحمد الله فقد كنا نحلم بالجزائر العربية وقد رأينا اليوم الجزائر العربية».
بتلك الكلمات ابتدأ «جمال عبدالناصر» خطاباً مقتضباً ألقاه فى العاصمة الجزائرية يوم (٤) أيار/ مايو (١٩٦٣).
لم يَمنْ على الثورة الجزائرية بحرف واحد، أو بإشارة عابرة.
لا قال إننا أمددنا الجزائر بالسلاح، ولا ناصرناها بالمال، ولا ساعدنا ثورتها فى بناء أطرها السياسية والعسكرية، ولا أن فرنسا شاركت في حرب السويس للانتقام من دورنا في نصرتها.
قال نصاً: «جمال عبدالناصر لم يفعل أي شيء لشعب الجزائر».
لم يكن ذلك صحيحاً على أي وجه، لكنه خاطب الكبرياء الجزائري.
كانت الجزائر تعرف الحقيقة وتقدرها، ولم تكن في حاجة إلى من يذكِرها.
في خطابه المقتضب أشار إلى المعنى القومي الكبير لاستقلال الجزائر، وركز أغلبه على القضية الفلسطينية.
في الكلام إدراك عميق لطبيعة الشخصية الجزائرية، التي تنفر من المن عليها.
في ذلك اليوم الاستثنائي زحف مليون جزائري من أنحاء البلاد إلى العاصمة لرؤيته، افترشوا الطرقات العامة وناموا فوقها بالقرب من الميناء، ملايين أخرى سدت الطرق وكادت تحطم السيارة التي كان يستقلها مع الرئيس «أحمد بن بيلا»، فاضطرا لأن يصعدا إلى أعلى عربة مطافئ مضت بين الجموع الحاشدة.
كان انفصال الوحدة المصرية السورية قد وقع لكن المشروع ظل ملهِماً.
كان الجرح لا يزال غائراً لحظة تحرير الجزائر لكنه تبدى حلم جديد.
المعنى أكبر من الرجل والحلم- حتى لو انكسر- أبقى في ذاكرة التاريخ.
المشهد التاريخي يُقرأ في سياق تحدياته ومعاركه وعصره، وقد كان عصر التحرر الوطني.
في وقت مقارب تحررت القارة الإفريقية من ربقة الاستعمار.
كان دور القاهرة محورياً في قيادة القارة.
وكان تأثيرها نافذاً في آسيا وأمريكا اللاتينية.
لهذا السبب- بالذات- جرى الترصد للمشروع الناصري والعمل على اصطياده من بين ثغرات نظامه، أو باستخدام القوة المسلحة- كما حدث فى حزيران/ يونيو (1967).
في أيام الهزيمة نهضت الجزائر للوقوف بجانب مصر.
ذهب الرئيس الجزائري «هوارى بومدين» إلى موسكو، وتفاوض على شحنات أسلحة عاجلة، عرض دفع ثمنها فوراً لكن «ليونيد بريجنيف» الرجل القوى في الكرملين كان له تقدير آخر، أن هناك التزامات على الاتحاد السوفييتي تجاه مصر.
ثم قاتل لواء جزائري مع الجيش المصري فى حرب تشرين الأول/ أكتوبر (١٩٧٣).
فى تلك الحرب تأكدت مرة أخرى رفقة السلاح.
اختلف الرجلان الكبيران «أحمد بن بيلا» و«هوارى بومدين» في قضية السلطة، لكنهما كانا يدركان كلٌ بطريقته معنى «وحدة المصير العربي».
في وقت مبكر من ثورة تموز/ يوليو كان التفكير الاستراتيجي المصري يعمل على «فتح الجبهة الجزائرية في موقع القلب من الشمال الإفريقى لتوجيه ضربة قاضية للاستعمار الفرنسي الذي سيجد قواته مطالبة بمواجهة واسعة على ساحة الشمال الإفريقى كله يرغمه أن يخفف ثقل قواته على الجناحين الآخرين تونس ومراكش»- كما كتب نصاً «جمال عبدالناصر» في وقته وحينه.
من هنا بدأت «صوت العرب» أعظم معاركها، ألهمت وأثرت وكانت المتحدث الإعلامي الرسمي باسم ثوار الجزائر، اكتسب مؤسسها «أحمد سعيد» شعبية كبيرة في العالم العربي باعتباره صوت الثورة الجزائرية، التي استقطبت المشاعر حولها.
تقدمت مصر لنصرة قضية الجزائر بكل ما تملك وتقدر عليه من دعم مالي وسياسي وعسكري وإعلامي وفني.
صنع «يوسف شاهين» فيلم «جميلة بوحريد» مجسداً بطولة المرأة الجزائرية الجديدة، وتبارى الشعراء وكبار الملحنين والمطربين في التغني بالجزائر المقاتلة التي تستحق الاستقلال والحرية، ولحن الموسيقار المصري «محمد فوزى» في غمرة الصراع المسلح النشيد الوطنى الجزائري.. «نحن ثرنا فحياةٌ أو ممات.. وعقدنا العزم أن تحيا الجزائر.. فاشهدوا.. فاشهدوا.. فاشهدوا».
تحول «صندوق أحمد سعيد»، كما كان يطلق على جهاز الراديو في العالم العربي، إلى أيقونة للثورة وصوته واصل إلى كل بيوت الصفيح وفوق جبال «الأوراس».
كان يوم الجمعة الثانى من تموز/ يوليو عام (١٩٥٤) أول إطلالة للزعيم الجزائري «أحمد بن بيلا» على أثير «صوت العرب».
«أخٌ جزائري في حديث من العقل والقلب إلى الضمير والوجدان».
هكذا قدمه «أحمد سعيد».
لم يكن أحد يعرف اسم قائد الثورة، التي توشك أن تعلن.
«أحدثكم من صوت العرب من القاهرة مدينة الأزهر الشريف».
كانت تلك الجملة الأولى في بيان إعلان الثورة الجزائرية.
مال «عبدالناصر» إلى اعتقاد راسخ في النظر إلى العالم العربي، قضاياه وأزماته، يربط ما بين تطلعات المصريين للاستقلال الوطنى في عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية، وتطلعات العرب للهدف ذاته.
إنها وحدة المصير العربي. هكذا بكل الوضوح وكل الحسم.
كان ذلك الاعتقاد أساس الدور الإقليمي المصري في خمسينيات وستينيات القرن الماضي.
في معركة الجزائر تأكد الدور المصري في عالمه العربي بلا مَنٍ أو ادعاء.
القاهرة تابعت أدوارها من الرصاصة الأولى في تشرين الثاني/ نوفمبر (١٩٥٤) حتى استقلت الجزائر في تموز/ يوليو (١٩٦٢) حاضرة في قلب التخطيط السياسي والإعلامي والعسكري شريكاً كاملاً فى المعركة.
هذه الحقيقة صنعت رفقة ثورة ورفقة سلاح بين مصر والجزائر.
كانت لشحنات السلاح المصرية، التي هُربت إلى جبال الجزائر عبر البحار أو الحدود الليبية، وتدريب المقاتلين عليها، دور محوري في حسم حرب التحرير.
كان «هواري بومدين»، الذى كان طالبا بجامعة الأزهر، أحد الذين تدربوا في القاهرة قبل أن يجري تهريبه إلى داخل الجزائر على متن يخت مصري يحمل شحنات سلاح.
قوائم السلاح والذخائر تفاصيلها مودعة في وثائق رئاسة الجمهورية.
وقد تضمن كتاب «فتحي الديب»، الذى ربطتهُ أوثق العلاقات بقادة الثورة، «عبدالناصر وثورة الجزائر» حصراً كاملاً لشحنات السلاح.
بعد ستين سنة من انتصار الثورة الجزائرية فإن التحية واجبة لذكرى رفاق الثورة والسلاح، الذين أدركوا في الميدان معنى وحدة المصير العربي.
* كاتب صحفي مصري
المصدر: الشروق
التعليقات مغلقة.