الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

جمال عبد الناصر.. الرمز والقضية

اسماعيل الراشد الجميلي *

لقد كانت نكبة العرب في فلسطين سنة 1948وهزيمة الجيوش العربية قد أثارت وهزت غيرة ورجولة ضباط وجنود الجيوش العربية وكانت هي المحرك الأساس لنشوء خلايا الضباط الأحرار ولقيام الثورات والانتفاضات والحركات الانقلابية في الدول العربية للتخلص من الحكام العرب الّذين ربطوا مصيرهم بالمستعمر، فبالنسبة إلى الجيش المصري كان رأي جمال عبد الناصر بعد فضيحة الأسلحة الفاسدة أن المعركة الأساس يجب أن تكون في مصر أولاً، أي تحرير مصر من حكم ملوكية فاروق الفاسدة، وهو ما دعاه إلى البدء بتشكيل خلايا الضباط الأحرار التي نجحت في الثالث والعشرين يوليو/ تموز سنة 1952 في إزاحة المَلكية وتأسيس الجمهورية، كذلك فان مقولة (ماكو أوامر) بالنسبة للجيش العراقي هي تعبير عن الحال التي وصل إليها الجيش العراقي والدافع لنشوء حركة الضباط الأحرار والتي أسسها رفعت الحاج سري، والذّي كان يلقب بالشيخ لورعه ونزاهته، والذي أعدمه عبد الكريم قاسم بعد حركة عبد الوهاب الشواف في الموصل، وقد نجحت حركة الضباط الأحرار في القيام بثورة الرابع عشر من يوليو تموز 1958 .

لم يكن موقف الأحزاب المصرية من الثورة حينها كما كان يتصوره عبد الناصر، حيث كان يخيّل إليه بأنه يسمع هدير هتاف الأمواج المتلاطمة من البشر في أذنه، فبعد نجاح الثورة طلبت الأحزاب ومنهم الأخوان والوفد من الجيش أن يعود إلى ثكناته وهم يتولون السلطة، حتى أن طلب الضباط الأحرار بقانون الإصلاح الزراعي كضمانة للمستقبل رفضته هذه الأحزاب مما أضطر هؤلاء الضباط إلى ممارسة السلطات الوزارية؛ وهو ما يتطلب زمنا للنضوج السياسي والمهني .

النفوس العربية:

لقد أثار جمال عبد الناصر العزة القومية والثقة في النفوس العربية والدعوة إلى أن خلاص العرب بوحدتهم التي كانت قائمةً قبل أن تتواتر عليهم أجناس متعددة من المحتلين، ولم تقف الدول الاستعمارية موقف المتفرج مما يجري على الساحة العربية وكان أنتوني إيدن رئيس وزراء بريطانيا يقول عن عبد الناصر بأنه ولادة جديدة لهتلر في الشرق الأوسط؛ إما هو أو عبد الناصر، وكان إيقاف تمويل السد العالي من قبل دول الغرب سبب تحول عبد الناصر  في كسر احتكار سلاح الغرب، والاتجاه لشرائه من دول الاتحاد السوفييتي، وكان تأميم قناة السويس كشركة مساهمة مصرية هو الحُجة للعدوان الثلاثي ( بريطانيا وفرنسا وإسرائيل ) على مصر، فشل العدوان وسقط أنتوني إيدن، حينها أصبح هناك فرز بين حكام دول عربية توصم بالرجعية والعمالة ودول توصم بالحرة والتقدمية.

لقد كانت نكسة العرب في 5 حزيران/ يونيو 1967 نقطة تحول في مسيرة جمال عبد الناصر لبدء محو آثار العدوان، وحرب استنزاف إسرائيل، وتحرير الأراضي العربية المحتلة.

لقد أثرت المواجهة الدامية بين المقاومة الفلسطينية والجيش الأردني في شهر أيلول/ سبتمبر 1970 ومقتل الكثير من الشعب الفلسطيني في صحة عبد الناصر، وكانت آخر أمجاده هو مؤتمر قمة لإيقاف هذه المواجهة التي قتل فيها الكثير من الأطفال والنساء  الفلسطينيين في مخيماتهم البائسة تحت قصف المدفعية الأردنية .

لم تودع البشرية يوماً أحد قادتها كما ودعت الجماهير المصرية والعربية باكيةً حزينةً جمال عبد الناصر ومنذ نشأته كان متعاطفاً مع الفقراء والمحرومين في بلده حين سأل والده: لماذا لا يأكل هؤلاء الناس اللحم؟! وكان حلمه أن لا يرى أي خادم في أي من البيوت المصرية، كان فطوره دائماً السلطة بالجبنة القديمة وغداءه الرز والخضار، ولم يتقلد أحد من أفراد عائلته أية مناصب سيادية، ولم يظهر الثراء على أي منهم ولم يصادف أن اشتكى أحدٌ منهم.

حين دخلتُ إلى منزل الرئيس جمال عبد الناصر سنة 1973 مع وفد يضم طالباً من كل دولة عربية للسلام على حرمه كتقليد سنوي تقيمه جامعة عين شمس في ذكرى وفاته نهاية أسبوع لمؤتمر وطني، كان المنزل كله عبارةٌ عن صالة واحدة للضيوف يلتصق بها سلم يؤدي إلى سكن العائلة؛ يمكن أن يوضع المنزل بكامله في حديقة أيٍ من القصور في بغداد.

الترف السياسي:

لقد مارست القوى القومية العروبية الترف السياسي زمن عبد الناصر وبعده، ولم تحتط لغيابه أو لغياب الاتحاد السوفييتي، ولازالت تمارس هذا الترف بل تخلى بعضهم عن مسيرة وفكر وأخلاق عبد الناصر بانضمامهم إلى أحزاب وقوائم طائفية، لا تمت إلى القوى القومية العروبية بأي صلة طلباً للسلطة كارتزاق، والكثير منهم لازال يمارس التنظير؛ والكثير منهم توفي ولم يترك من هو امتداد لفكره، وللإنصاف فأن من حاول لملمة القوى العروبية وإشاعة الفكر العربي الوحدوي التحرري كانت ولازالت تقف أمامه عقبة التمويل مقابل جبهات وأحزاب ممولة من الخارج وتملك كل أسباب الهيمنة.

رحم الله جمال عبد الناصر الذي كان رمزاً لأمة أعطت للبشرية أسس حضارتها، قوبلت بالجحود، وكان كل ذنبها كما قال رئيس الاتحاد السوفييتي “نيكيتا خروتشيف” لولده الذي تطوع للحرب مع الفدائيين في بور سعيد ضد دول العدوان الثلاثي (يا ولدي أن هذه أمةٌ عظيمة  كل ذنبها أنها تخلفت في صناعة البارود)، لم ينّصِف عبد الناصر إخوانه، وكان بعضهم أشد وأقسى عليه من أعدائه ومنهم من حاول اغتياله.

وفي سنة 1959 حين كنت أجلس في الفصل الدراسي الأول المتوسط كانت معلقةً على الجدران صور

 راقصات وضع بدل وجهها وجه عبد الناصر مع  مجموعة من الحبال وضعها الشيوعيون كرمزية لسحل البشر المعارضين حيث نصّب الحزب الشيوعي نفسه كوصي على الثورة وفرض مذهب كارل ماركس بقوة الدم.

* كاتب وباحث قومي عراقي

المصدر: الزمان الدولية

التعليقات مغلقة.