علي حبيب الله *
لا يزال مسمار ضبط الوقت، مشكوكاً على لوح مزولة جامع الجزار الصخري، إلى يومنا. وعلى واجهة المزولة نقشٌ يقول: “هذه مزولة جامع الأنوار الأحمدية الموقوف لنفع البرية وقف الوزير المكرم الشهير المفخم الحاج أحمد باشا الجزار أثابه الملك الغفّار- عمل إبراهيم الفرضي الكردي سنة واحد ومائتين وألف من الهجرة النبويّة”.
بحسب النقش، تُسمّى الساعة الشمسيّة “مزولة”، كما هو متعارَف عليها في نظام التوقيت التقليديّ، لمعرفة وقت الأذان، وتحديداً أذانيّ الظهر والعصر. غير أن أهمّ ما يُذكِّر به النقش هو مُسمّى الجامع؛ “الأنوار“، فهذا هو اسمه عند بنائه، وليس “الجزار” كما صار يُعرف إلى يومه هذا.
أتمّ الجزار بناء جامعهِ “الأنوار” في سنة 1782م. وأُقيم الجامع على أنقاض كنيسة “الصليب المقدّس” التي بناها الصليبيون أثناء احتلالهم للمدينة، والذين كانت عكا آخر معقل لهم على ساحل فلسطين والمتوسّط، بعد أن خلّصها السلطان المملوكيّ الأشرف خليل بن قلاوون، منهم، سنة 1291م، ثمّ تخلّص من عكا ذاتها بهدمها عن بِكرة أبيها، كي لا يعاود الصليبيون استردادها. كما يُذكَر أن تلك الكنيسة أُقيمت في حينه على أنقاض جامع “يوم الجمعة” الذي بناه العرب مع الفتح العربيّ – الإسلاميّ للمدينة في القرن السابع للميلاد.
إنّ تشييد المعابد الدينيّة على أنقاض بعضها، سواء كانت كنائس على أنقاض مساجد أو العكس، تقليدٌ متعارَف عليه، وخصوصا في مدينة مثل عكا بإرثها الأمنيّ – العسكريّ، وتداوُل الدول والحروب عليها على مَرّ التاريخ. ومع أنّ بناء معبد كفيل بمحو معالم معبد آخر سابق له، إلا أنّ النقوش وحدها، تظلُّ الشاهد الحيّ والمتبقي على حكاية تقليد الهدم والبناء هذا، إذ إنه على أحد جدران جامع الرمل المُشيَّد سنة 1704م، نَقْشٌ باللاتينيّة يقول بما معناه: “أيها المارّ من الشارع، أرجوك أن تطلب الرحمة لباني هذه الكنيسة”.
أُطلِق على جامع الأنوار هذا الاسم في حينه، نسبة لأنوار مئذنته، التي كان يمكن للقادم رؤيتها مُشِعّة ليلا، من على بُعد أميال في البحر، فيهتدي بها لعكا ومينائها. كانت عكا قبل بناء جامع الأنوار (الجزار)، تبدو للقادمين من البرّ والبحر، أشبه بحصن عسكريّ أو “مدينة ثكنة”، نظرا لسورها المنيع المُحاطة به، والجوامع التي كان معمارها أقرب للصوامع فيها، ومنها ما كان بلا مآذن حتى! إلى أن أُنشِأ “الأنوار” بمئذنته السماويّة، ممّا بات يعطّي منذ نهاية القرن الثامن عشر، للمدينة، هوية مدينيّة، ومسوحا تُبشّر السائحين والقادمين، بأن بشرا غير الحرس والجُند يقطنون عكا.
في عكا إرثٌ من الأمثال والأقوال المأثورة، التي صارت محلّ تندُّر على ألسُن الناس إلى يومنا، منها: “العكاوي بس يطلع برّا (خارج) السور بصير (يصبح) يحلف بغربته” وفي مثَل آخر مسجوع عن اغتراب العكيين: “إذا وصلت الميّة للخلخال بقول آه يا يا خال، وإذا وصلت ركبتو بحلف بغربتو”.
لم تأتِ هذه الأمثال، عن حلف العكاوي بغربته من الحائط، إنما هي متصلة بالإرث الأمنيّ للمدينة وطابعها الثكنيّ (حِصن)، فعكا مدينة ظَلّ يُمنع أهلها من البناء خارج سورها طوال فترات الحكم العثماني عليها، حتى مطلع القرن العشرين، بعد أن سمح العثمانيون لأهلها سنة 1909، بفرمان سُلطاني، البناء والإقامة خارج السور.
كان الدافع وراء هذا المنع هو “الأمن” حتى في أيام السِّلْم، وذلك منذ أن استقرّ ظاهر العمر في المدينة وأقام سورها في أواسط القرن الثامن عشر، ما جعَل الخروج خارج السور بالنسبة للعكيين اغترابا، ومن هنا جاءت الأمثال والأقوال المأثورة عن اغتراب العكيين لمجرّد خروجهم من سور مدينتهم.
في النقش ومعناه:
النقوش عموما وعلى اختلاف أنواعها وأشكالها تُعتبر وثيقة تاريخية بذاتها، فقد يُصحّح النقش خطأ تاريخيا تناقلته المصادر المكتوبة، أو يؤكد حقيقة تاريخية متعارف عليها. وأحيانا يذكِّر النقش بما لم يعد يتذكره الناس، تماما مثلما يذكّر نقش المزولة بتسمية جامع “الأنوار”. كما تعتبر النقوش موضعا للجمال والفن، لناحية أشكال نقشها على شكل آيات من كتب مقدسة، أو أبيات شعرٍ، فضلا عن أنواع الخطوط وزخرفتها إلى حدّ باتت فيه بعض النقوش الباقية على واجهات عكا تتطلّب خبيرا فيها، كي يتمكن من قراءتها، مثل تلك المنقوشة على “سبيل الطاسات” المُقام على يمين درجات مدخل جامع الأنوار/ الجزار.
يُشير نقشان من نقوش سبيل الطاسات الخمسة، إلى زمن بناء السبيل بالتقويم الهجري سنة 1208هجرية، في زمن الوالي الجزار، وآخر إلى ترميمه في عهد سليمان باشا، بينما نقوشه الباقية تصعب قراءتها كاملةً، مع أن واحدا منها يتضمن تعبير “الكابري”، في إشارة إلى قرية الكابري وقناتها، التي جرى جرّ المياه منها للسبيل ولمدينة عكا عموما.
بعض النقوش يصعب قراءتها نظرا لشكل خطوطها وتداخلها، بينما يصعب فك الأخرى في عكا بسبب إهمالها، وأثر عوامل الطقس والمناخ في محو بعض عباراتها المنقوشة، مثل ذلك النقش على باب مبنى السرايا الواقع إلى يسار جامع الأنوار/ الجزار.
هذه النقوش المُشار إليها، تُصنَّف كنقوش “إنشائية”، أي تلك المتصلة بالتعمير والبناء، وتكثُر في جامع الأنوار، وداخل المسجد تحديدا، إذ ساهم بقاء الجامع بوصفه حيّزا عموميا – عربيا في مدينة عكا إلى يومنا، في الحفاظ على النقوش فيه، وهذا ينسحب على كثير من المنشآت، وبخاصة الجوامع. كما حافظت النقوش “الشاهدية”- نسبة لشواهد القبور- على بقائها في عكا، مثل تلك المنقوشة على شاهد قبر الجزار في ضريحه، بجانب مسجده، حيث نُقش باللغتين العربية والتركية على قبره.
على باب مدخل مسجد الأنوار/ الجزار نقشٌ مقروء، يتضمن مجموعة أبيات من الشعر، غير أنه ظلّ بمثابة طلسم استعصى على أهالي عكا فهمه، وفكّ معناه طوال التاريخ الحديث، إلى أن تمّ ذلك في السنوات الأخيرة عبر مكالمة هاتفية مع أحد لاجئي مدينة عكا في اللجوء، تبين فيها، أن نقش القصيدة هو نصّ وصيّة، كان قد بعث بها الشيخ الفقيه يوسف بن أحمد الريماوي، قاضي جامع الأنوار في عهد الجزار، لابنه الشيخ أحمد الريماوي، يستحثّه فيها على التبكير في قدومه للمسجد لتسلّم منصب القضاء.
مثل هذا النقش، يصنَّف ضمن ما يُعرف بالنقوش “الإعلامية”، أي تلك التي تتضمن إعلام الناس، بما يختصّ بشؤون حياتهم. والنقوش الإعلامية أنواع، أهمها ما يُعرف بنقوش “الصوى” أو “أحجار المسافات” والتي تُعلم الناس، وبخاصة المسافرين والحجاج، بالمسافات على الطرق. لم يعُد أي أثرٍ في عكا في داخلها ولا خارجها لمثل هذه النقوش بعد أن جرى مسحها بفعل الاحتلال الإسرائيلي للبلاد منذ عام 1948، فالفضاء كلّه مُحتلّ حتى في أماكنه التي بقي العرب فيها.
كما جرى مسح كثير من النقوش في المواقع الأثريّة العكيّـة التي وضعت بلدية عكا يدها عليها، مثل: “بستان الباشا” و”حمام الباشا”. وكذلك “قلعة عكا” المشهورة، التي باتت معظم أجزائها تابعة لوزارة الأمن الإسرائيلية، ففيها نقوش، منها ما حفره الأسرى والمُعتقلون السياسيون العرب على جدران سجنها الشهير أيام الاستعمار البريطاني على البلاد، تضمّن بعضها وصايا خطّها نقشا بعضُ الذين أُعدموا في القلعة.
الحسّ الأمنيّ والنقش:
إن مجرّد سؤالك لأيٍّ من أهالي عكا، عن النقوش ومواقعها، كفيلٌ بأخذك على سوء الظنّ عندهم. لا بل يُبقيكَ سؤالُكَ عن النقش، تحت طائل رقابتهم جميعا، ولا سيّما إذا ما كان السؤال، عن تلك النقوش المنقوشة على عتبات وجدران البيوت، التي يسكنها العكيون العرب في البلدة القديمة، حيث يصعب أن تجد من يدلّك إليها، خصوصا بعد أن تمّ إخفاء معظمها.
إنّ حكاية النقش المَخفيّ في عكا، غير ذلك النقش الممسوح فيها، فمسح النقش هو فعل استعماريّ بوصف النقش العربيّ، شاهدا على عروبة المكان، وقد مسحت بلديّة عكا عبر ما يُعرف بـ”شركة تطوير عكا القديمة”، كثيرا من نقوش بيوت عكا وأزقتها العربيّة أثناء ترميمها. بينما إخفاء النقش عن الأعين، هو فعل يمارسه أهالي عكا العرب، كتقنية أمنيّة ضمن صراعهم على البقاء في مدينتهم، وذلك منذ احتلال الإسرائيليين للمدينة سنة 1948.
يقتضي الحسّ الأمنيّ إخفاء النقش، لأن بعض النقوش البيتيّة تُسمّي أسماء أصحاب البيوت الذين بنوها، ثمّ تركوها أو تمّ تهجيرهم منها أثناء النكبة. ووفق قانون إسرائيل الاستعماريّ، فإنّ هذه البيوت تُعتبر ضمن ما يُعرف بـ”أملاك الغائبين”، وهو ما يُبيح للبلدية مصادرتها. ولأنّ معظم سكان مدينة عكا العربيّة بعد النكبة، هم نازحون نزحوا بعد النكبة من القرى المجاورة للمدينة، وقد توطّنوا بيوت العكيين المُهجّرين؛ فإنّ إخفاء النقش ضرورة أمنيّة بالنسبة لهم، كي لا يتمّ إخراجهم منها تحت غطاء قانون أملاك الغائبين.
في حارة “الشيخ غانم” الواقعة في الجهة الجنوبيّة من المدينة، مقام الشيخ غانم الذي تُنسب الحارة إليه، وهو مقام لمجاهد يُدعى غانم يُقال إنه عكيّ الأصل، ومن أشهر عوّامين (سباحين) المدينة في زمن صلاح الدين الأيوبي والاحتلال الصليبيّ لعكا، حتى أن حكايته تقول إنه قد مات غرقا في بحر المدينة، وقد أقيم مقامه بجوار البحر.
تسكن المقام إلى يومنا هذا، عائلة عكيّـة من آل زكّور، إذ تجاور صالة الضيافة التي اعتادت الحاجة زكور استقبال ضيوفها فيها، الغرفة التي يرقد فيها ضريح الشيخ غانم. وتهتمّ العائلة بالقبر وصاحبه، بما يليق بشيخ طريق، وكما لو أنّ أفراد العائلة من مُريديه.
المقام موجود، لكنه لم يعُد مكاناً عامًّا تؤمّه الناس، في ظلّ إقامة عائلة فيه. والأهمّ هو النقش، الذي يُشير إلى الضريح وصاحبه، فهو غير موجود! لم يُمسح النقش، لكن العائلة أخفته عن عيون الزائرين، كي لا يكون النقش حُجّة عليها، بعموميّة المكان، وبالتالي إخراجهم منه. كما حلّ بساكني بيوت الزاوية اليشرطيّة – الشاذليّة العرب، الذين أخرجتهم منها بلديّة عكا، لاعتبارها أن الزاوية مكان عموميّ.
تداوِم بلديّة الاحتلال على مسح نقوش مدينة عكا العربيّة، بوصف النقوش شواهدَ على عروبة المدينة تفضح وجودهم فيها، بينما يثابر أهالي عكا العرب وأصحاب المدينة على إخفاء نقوش بيوت مدينتهم، كوسيلة تقيهم شرّ تشريدهم منها، كما شُرِّد أهلها من قبل، منها.
* كاتب فلسطيني وباحث في التاريخ الاجتماعي
المصدر: عرب 48
التعليقات مغلقة.