أحمد مظهر سعدو
“الحرية تعطي للفضاء اتساعاً بلا حدود، تحول الغرفة الصغيرة إلى سماء، والحلم إلى ضياء”.
هذه هي الحرية التي تحدث عنها الروائي الجزائري (واسيني الأعرج)، وهي نفسها التي شبهها بعض المفكرين بالماء والهواء والأوكسجين، التي لا حياة للبشر بدونها، ويبدو أنها اليوم أكثر حاجة لنا من أي وقت مضى بما تعني من الاتساع الفضائي الذي لا تحده حدود ولا تعوقه أسباب أو حجج، لكن النظم الاستبدادية عامة التي تعتبر نفسها ذات حق في تعطيل الديمقراطية، فتعتدي على الحريات السياسية للمواطنين، وتحتكر السلطة لنفسها.. والنظم الاستبدادية العربية- التي تحدث عنها الدكتور جمال الأتاسي- لا تستند لقاعدة اجتماعية، “إنها سلطة فئوية طائفية أو عشائرية أو فردية تعمل دائماً على تفتيت السلطة الاجتماعية.. وتفكيك عرى المجتمع، وتعمل على تغييب الصراع الاجتماعي والأيديولوجي، والسياسي لمصلحة صراع ثانوي هدفه الوحيد تقوية الانسجام الفئوي، وتأكيد نفوذه على المجتمع”. وهذا هو بالضبط حال النظام الفاشي الحاكم في دمشق.
يضيف الأتاسي: “السلطة المملوكية لا تملك ايديولوجيا بل تجريد ومتناثرات فكرية تزويريه، لطبقة فئوية تابعة وضعيفة، ولكنها تقدم نفسها مكتملة وكلية العلوم والقدرة، وهي غير قابلة للانقسام بل تفرز زعامات عديدة منبثقة عن (العائلة أو العشيرة أو الطائفة) وهذا يفسر تعدد الجيوش والميليشيات المسلحة، التي يقودها الأقرباء والمحاسيب، إنها شبيهة بالفترة المملوكية في صراعاتها.. وفي أساليبها وتخلفها.. خاصة فترة الانهيار.. إن هذه النظم تدفع بحركة المجتمع للاتجاه المعاكس.. فتتحول كل أشكال الصراع مع الخارج، إلى صراعات داخلية، وتعرض المجتمع لاضطهاد وقمع متواصل، بينما تحرض فيه عوامل التفتت والانقسام ليواجه بعضه بعضاً، مما يجعل الحرب الداخلية في حالة كمون دائم، وقابلة للانفجار في كل لحظة، وتبقى الفئة الحاكمة – عائلة أو طائفة – متماسكة ومسيطرة.. والمعيار الوحيد لعمل الدولة والأجهزة هو الحفاظ على وجودها وتماسكها في مواجهة ضعف المجتمع.
وتقوم بمحاصرة الطبقات والطوائف والأحزاب، والمنظمات الشعبية، والنقابية وتطالبها بأن تلغي دورها وتذويب شخصيتها ضمن هيئات الفئة الحاكمة.. وتخضعها لمراقبة أمنية مباشرة، وتعدم حرياتها السياسية والفكرية.. وتمادت في هذا الاستبداد حتى أصبحت تتقن فن الإذلال المجاني لغالبية المواطنين.. إجمالاً، هذه السلطة المملوكية.. فئوية.. تعيش على التفسخ العام للمجتمع، وعلى توسع قوتها الذاتية وفوقيتها واستعلائها، واستخدامها الاضطهاد والتعسف طريقة للحكم أكثر منه وسيلة للسيطرة، وتمارس نمطاً من الاستعمار الداخلي وتقوم بعملية نهب الثروة المجتمع واستنزاف موارده.
والحقيقة التي لا مناص منها، ولا تغريد خارجها، أن البعد الداخلي.. والإندراج في واقع حرياتي مع المواطن، هو مقدمة أولى للوطنية ذاتها، ولا يمكن بأي حال من الأحوال الحديث من نضال خارجي، ومواجهة خارجية، وممانعة، أو تصدي للإمبريالية، أو ما شابه ذلك من شعارات أممية براقة، دون الغوص في هم المواطن الداخلي، ودون إعطاء الحرية للناس كل الناس، بل دون الممارسة الديمقراطية الحقة لكل ألوان الحرية وهي حق من حقوق الحياة بالنسبة للبشر والإنسانية بشكل عام.
ولأن الوطنية الحقة والحقيقية مرتبطة بالوطن والداخل أولًا فإن قول الشاعر الهندي(طاغور) يصبح ملحاحًا وآنيًا وحاضراً عندما قال ((ليس لأحد أن يكون عالمياً، ما لم يكن قبل ذلك وطنياً)) وهو ما قال عنه أيضاً الزعيم الهندي (جواهر لال نهرو)، وهو يتحدث عن الحرية التي يعيشها الناس وتملأ حياتهم بالفرح والضياء وتربط الجميع بوطنهم.
هذا الفرح والضياء الذي يربط الجميع بوطنهم، يتناقض بالضرورة، ولا يمكن أن يلتقي مع الممارسة المناقضة للحرية التي تقع عبر إدخال الناس للسجون وحجز حرياتهم، وقتلهم بالبراميل، والكيماوي، ومن ثم تلك المعاناة المهولة داخل السجون، وما يمكن أن ينتج عن ذلك من حالات نفسية وجسمية لا يمكن تصورها، والقتل اليومي في الزنازين.. وحسب (انديرا غاندي) فإنه “لا أحد ممن لم يدخلوا السجن في حياتهم حتى ولو لفترة قصيرة يمكنه أن يتصور مقدار التخدير الذي يصيب الروح، كما يشعر به السجين حتى أن (أوسكار وايلد) كتب يقول: (كل يوم هو كالسنة، سنةُ أيامها كلها طويلة جداً)، إن كل أيام السجن رتيبة مملة، اذلال، حقد متعمد، وحسب (بيثيك لورانس) [الحقيقة الأساسية في حياة السجين هي أنه يعاني من حالة خاصة لا تليق بالبشر] يُجمع السجناء كقطيع الحيوانات، مجردين من شرف احترام الخصوصيات، محرومين، ليس فقط من لقاء الأصدقاء أو سماع الأخبار، بل حتى من الجمال والألوان والرقة والرحمة.. إن كل الأشياء حول السجين من أرض وجدران مصبوغة بالطين وكذلك ثياب السجن، حتى طعامنا كان مذاقة كالأحجار” .
الواقع أن “انديرا غاندي” بسجنها الذي تتحدث عنه، كان ما يزال البشر فيه يمتلكون الكثير من الرحمة.. فكيف بها في سجون هذا العصر الأسدي، وهذا السَحق لإنسانية الإنسان بقضه وقضيضه، ومن ثم التعدي على حرية البشر ضمن سياقات قمعية لا يمكن للمرء إدراكها، ولا يمكن للعقل الإنساني أن يستوعب مكنوناتها، أو عسفها، على الأنسنة بحد ذاتها.
من هنا فإن الحرية كانت وما زالت حلماً شعبياً سوريًا وعربياً بل عالمياً، لا غنى عنه، ولا غرو أنه الملاذ الآمن للناس كل الناس، الذين يحلمون بوطن حر، وإنسان حر، وحياة حرة، بلا قمع ولا إرهاب سلطوي، ولا تعديات على الحريات الشخصية للناس. فهل نحن مقبلون على تحقيق لهذا الحلم، بشكل ميداني وواقعي، أم أنه ما يزال حلماً طويل الأجل وفق المعطيات التي بين أيدينا جميعًا.؟؟!
أحمد مظهر سعدو
كاتب صحافي سوري، رئيس القسم السياسي في صحيفة إشراق
التعليقات مغلقة.