الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

نكبة فلسطين.. مذبحة السبت

علي حبيب الله *

“يا جمال رفاق الحِمل المُثقلة بدموع الكبت… يا رِمال زُقاق الرمل المبللة بدماء السبت”

خلعوا اسم قريتهم السابق “اليهودية” عنهم، فصاروا عبّاسيين، وصارت قريتهم “العبّاسية“، وكلاهما نسبة لشيخ مقامهم، المجاهد منذ حروب صلاح الدين على الصليبيين، الشيخ عباس(1). أدارت العباسية وجهها عن غربها حيث مقام النبيّ هوذا، وبلا رجعة، وصارت قِبلة وجوه أهلها ووجهتم إلى الناحية الشمالية حيث الشيخ عباس، ومقامه الذي صار خطًّا للنار وحاجزا يفصل ويحمي العباسية عن مُستعمرة “بيتح تكفا” (ملبس)، ونوايا يهودها.

ما مِن قرية فلسطينية يصعب على أهلها نسيان شهدائهم، مثلما يصعب على أهالي العباسية، بل يصعب على القرية إحصاء شهدائها حتى، فشريان الدم مفتوح في العباسية منذ إقامة مستعمرة بيتح تكفا على أراضي ملبس، وجزء من مراعيهم في ثمانينيات القرن التاسع عشر، مروراً بمقتلة أيار/ مايو سنة 1921، حيث زفّتْ القرية في حينه أربعة عشر شهيداً من أبنائها.

كانت الحاجة ’’ريّة‘‘ في حينه، صبية “مطبوخ عليها”، لأحد شُهداء أيار، واسمه يوسف. ومصطلح “مطبوخ عليها” بلغة أهالي العباسية، يعني مخطوبةً له بصفة رسميّة. ظلّت ’’ريّة‘‘ إلى أن صارت مُسنّة تروي من على الحصير مُتحسّرة على يوسف في آخر وداع له ودّعته مذبوحاً ودمه مسفوح، بينما كان شاليش (غرّة) شَعره الأشقر مُدمى ومجبولاً بالرمل(2).

ظلّت العباسية تنزف أبناءها طوال العشرينيات والثلاثينيات من القرن العشرين، ففي سنة 1933 ظهر فيها تنظيم قسّاميّ سريّ مُبكّر قام عليه مُجاهد عباسي اسمه طه نمر إسماعيل(3). وبعد استشهاد القسّام وقيام الثورة الكبرى سنة 1936، قامت في العباسية منظّمة جهادية وقف على رأس قيادتها ثلاثة من رجالات العباسية، هم: زكي عبد الرحيم، والشيخ محمود درويش، ومحمد عبد الحميد. وأطلق عليهم أهالي القرية، اسمَ ثُلاثيّ “إخوة الجهاد”(4).

انتهت الثورة الكبرى في سنة 1939، بينما لم يعرف العباسيون كيف انتهت فيهم وعندهم تلك الثورة، لأنّ شريان الدم ظلّ مفتوحاً فيهم طوال فترة الأربعينيات، لتكون العباسية على موعدٍ مع حكاية أخرى.

“الشلفوط” أو “أبو مشلفط”، فدائيّ مُطارَد من أهالي العباسية ظهر من بياراتها في سنة 1946(5). وقد دَبَّ الرعب في مستعمرتي تل أبيب وبيتح تكفا، بسبب الرجل.

كان اسمه الحقيقيّ، سعيد البدوي. قُتل ‘البدوي’ في الأخير، وظلّت سيرة حياته ومماته حبيسة في صدر رجل آخر يُقال له البعبول(6).

ما إن كُتب للعباسية التقاط أنفاسها، إلا وقد وجدت نفسها مجدداً أمام منعطفٍ آخر من تاريخ نهش لحم ودم أبنائها. كان ذلك في الثالث عشر من كانون الأول/ ديسمبر سنة 1947، في زقاق رمل القرية، وتحديداً في يوم سوق السبت.

زقاق الرمل:

كان زقاق الرمل بمثابة الحيّز العموميّ الأكبر والأشهر الذي تتصل به ذاكرة العباسيين عن قريتهم، ففي غرب القرية على الطريق المؤدي إلى مدينة يافا، شهِد هذا الزقاق قيام أكبر سوق لأهالي القرية، مرة في كل أسبوع، والتي أُطلقت عليها مسمّى “سوق السبت“، لأنها كانت تقام في كل يوم سبت. كانت سوقاً زراعيًّا بالدرجة الأولى، تُعرض فيها كافة أنواع الحبوب والخُضار والفواكه، كما كانت تُباع وتُشترى فيها الحيوانات، فضلاً عن كلّ ما يتعلّق بموادّ التموين وأدوات الاستخدام المنزليّ.

لم تكن سوق السبت تقتصر على العبّاسيين من أهل القرية، إنما كان يقصدهُا جميع أهالي القرى المجاورة للعباسية. واعتُبرت سوق السبت أهمّ مرفق اقتصاديّ للعباسية، فالمجلس القرويّ الذي أُقيم في العباسية لإدارة شؤونها، كان يجري تمويله وتمويل مشاريعه من عائدات سوق السبت(7).

المذبحة:

أسبوعان بالتمام كانا قد مرَّا على صدور قرار التقسيم، فالقرار قد صدر في يوم 28 تشرين الثاني/ نوفمبر سنة 1947، وكانت البلاد قد بدأت تنزلق نحو مصيرها المشؤوم.

في وضح نهار يوم السبت الموافق 13/12/1947، وعند الساعة الثانية بعد الظهر، وفيما كانت سوق السبت قد “خرّبت” ساعتها على حد تعبير السيدة ريّة بنت حميد، أي بعد أن خفّت حركة المتسوقين فيها(8)؛ دخلت العباسية ثلاث سيارات إنجليزيّة من نوع “بيك-أب”(9)، فيما قالت رواية أخرى إنه دخلت القرية من ناحيتها الشمالية، أربع سيارات، ثلاث منها إنجليزية – عسكرية، ورابعة من نوع “بيك-أب”(10).

بحسب المصادر، فإن السيارات قد حملت في داخلها ما بين 20 و30 رجلاً(11)، يرتدون زيًّا عسكريًّا بريطانيًّا، تبيّن لاحقاً بأنهم يهود من مستعمرة بيتح تكفا، وليسو من الإنجليز، كما ظنّ أهالي القرية.

كان العباسيون معتادين على حركة دخول إنجليز وحتى يهود من المُستعمرات المجاورة، وتحديداً في يوم السبت، لغرض التسوّق. كما كانت مركبات اليهود تدخل العباسية أحياناً في الأيام العادية، لجلب عُمال مُياومين، أو لإيصالهم(12)، ممّا يفسر عدم اكتراث أهالي العباسية لدخول المركبات، القرية.

وبحسب شهادة السيد حسن الكنش، الذي يقول إنه رغم سوء الظروف الأمنية، وارتفاع وتيرة التوتّر بين العرب واليهود على إثر صدور قرار التقسيم في حينه. إلا أن أهالي العباسية كانوا على عِلمٍ مُسبق بأنّ دوريّة تفتيش بريطانيّة ستدخل القرية في ذلك اليوم، لغرض التفتيش، وذلك على إثر أحداث وقعت في اليوم الذي سبق يوم السبت، إذ اشتبك بعض أهالي العباسيّة مع دوريّة عسكريّة بريطانيّة، بعد أن قطعوا الطريق على بعض المارّين من يهود مُستعمرة بيتح تكفا، عند مرورهم على الطريق المؤدي من شرق العباسيّة إلى مطار اللد.

تدخّلت دوريّة عسكريّة إنجليزيّة من حرس المطار، وأطلقت يومها النار على العباسيين، وقتلت منهم أحمد الحاج محمود المقدادي، وهو أول شهيد من أهالي العباسية في سياق حرب النكبة. وأصدر القائد العسكري في مطار اللد أمراً يقضي بتفتيش العباسية، فتوقّع أهالي العباسيّة التفتيش في اليوم التالي، أي السبت(13).

عبَرت المركبات من شمال القرية إلى غربها نحو زقاق الرمل، عند مدخل سوق السبت، حتّى وصلت ووقفت مقابل مقهى رشيد الحاج حسين(14). نزل معظم من كان في السيارات وشرعوا في زرع الألغام على الأرض الرمليّة، وأثناء ذلك، كان حسن عبد العزيز المقدادي يجلس في مقهى رشيد الحاج، وقد لفتته سيارة “بيك-أب” مرافِقة لباقي المركبات الإنجليزيّة، فانتبه إلى أنها تعود لمستوطن يهوديّ من بيتح تكفا يُدعى “برورمان”، فاستوقفه الأمر. ثمّ صاح بصوتٍ عالٍ، قائلاً: “برورمان… سيارة برورمان… هذول يهود”(15)، وعندها أطلق اليهود النار على كل المارّين ومن في المقهى، وكان حسن المقداد نفسه أول الشهداء.

كان عباس عبيد أوّل من سحب سلاحه وبدأ بإطلاق النار ردًّا على المُقتحِمين، لأنّه وبالصدفة، كان يقف على سطح بيته عندما بدأ إطلاق النار على العبّاسيين. جرى اشتباك اضطر على إثره المجرمون اليهود على الانسحاب، وتركوا خلفهم سيارة الـ”بيك-أب” التي أحرقها أهالي العباسية(16)، بينما تقول المصادر المكتوبة إن السيارة المتروكة كانت ملَغّمة، وتُركت عمداً، فانفجرت بعد بضعة دقائق، ممّا أحدث دويًّا سمعه كل أهالي الساحل(17).

راح ضحيّة هذه المجزرة 9 شهداء و13 جريحاً، معظمهم من أهالي قرية العباسيّة، ومن بينهم نساء. من شهداء المجزرة: يوسف الحوراني، ويوسف الديريني، وفاطمة أبو زايد، وحسن المقدادي، وآمنة حسين فرح، وحسن (العُدّلي أو العَدلي)، ومحمود زيدان (مُسن) وعلي أبو زايد، ومعهم بائع الزيت السلفيتيّ في سوق السبت(18).

بحسب روايات أهالي العبّاسية، فإنّ خسائرَ قد وقعت في صفوف المستوطنين اليهود المُعتدين، إلا أنه لا ذِكر لعدد قتلى أو جرحى اليهود، ولا حتى في المصادر المكتوبة عن تلك المجزرة في حينه، وإن كانت بعض الروايات الشفوية تبالغ في عدد قتلى المستوطنين(19).

كما لم تتدخّل القوات البريطانيّة على إثر هذه المذبحة، إلا لإخلاء المصابين من المستوطنين اليهود، ومعاينة السيّارة المتروكة المُحترقة(20).

في الأخير:

لم تكن مذبحة السبت، الأشدّ فتكاً في تاريخ العباسية والعبّاسيين لناحية عدد الشهداء، فقد دفعت القرية في اشتباكاتٍ قبلها وبعدها، من لحمها، ما يفوق ما دفعته في مذبحة السبت، لناحية عدد الشهداء والجرحى. إلّا أنّ وقْع مذبحة السبت في نفوس أهالي القرية، يظلُّ الأكثر أثراً وتأثيراً، وذلك لأمريْن، الأول: لأنها المرة الأولى التي يُهاجم ويقتحم فيها مستوطنو مُستعمرة بيتح تكفا واليهود عموماً، القرية، حيث قُتل بعض أهلها داخلها.

والثاني: الأثر النفسيّ الذي تركته هذه المذبحة على معنويات أهالي العباسية، القرية التي كان فيها قُبيْل أحداث النكبة، أكثر من 500 مسلّح، إذ زعزعت المذبحة أهالي القرية، وأربكت مقاتليها في حينه.

وبالرغم من أن معارك أحداث النكبة التي خاضها العباسيون في آذار/ مارس، ومطلع أيار/ مايو سنة 1948، كانت أكثر ملحميّة من حيث دفاع مقاتلي القرية عن عبّاسيتهم، وخصوصاً أنهم استطاعوا تحرير القرية بعد طردهم منها أول مرّة، واستردادها؛ إلا أن مذبحة السبت، تظلُّ حدثاً استثنائياً ومفصليًّا في ذاكرة العباسيّة العسكريّة في مواجهة الصهيونيّـة على أرضهم.

الهوامش:

  1. عن ذلك، راجع : حبيب الله، علي، “اليهودية”… حكاية قرية فلسطينية قررت خلع اسمها، في موقع “عرب 48″، تاريخ 19/6/2022.
  2. الكنش، حسن، العباسية (اليهودية)، مقابلة شفوية، موقع فلسطين في الذاكرة – ضمن مشروع تدوين الرواية الشفوية للنكبة الفلسطينية، تاريخ 15/3/2005.
  3. المقابلة السابقة.
  4. راجع: حمزة، أحمد موسى، العباسية (اليهودية)، مقابلة شفوية، موقع فلسطين في الذاكرة – ضمن مشروع تدوين الرواية الشفوية للنكبة الفلسطينية، تاريخ 27/10/2009. كما أشارت معظم الروايات الشفوية المتصلة بالعباسية إلى هذا الثلاثي في قيادة المجاهدين في القرية.
  5. بامية، محمد حامد، العباسية (اليهودية)، مقابلة شفوية، موقع فلسطين في الذاكرة – ضمن مشروع تدوين الرواية الشفوية للنكبة الفلسطينية، تاريخ 23/10/2009. وأيضا بالتفصيل عن حكاية سعيد البدوي، راجع: حسن الكنش، المقابلة السابقة.
  6. الكنش، حسن، المقابلة السابقة.
  7. راجع: حمزة، أحمد موسى، المقابلة السابقة.
  8. أبو حميد، ريّا، العباسية (اليهودية)، مقابلة شفوية، موقع فلسطين في الذاكرة – ضمن مشروع تدوين الرواية الشفوية للنكبة الفلسطينية، تاريخ 6/11/2004.
  9. راجع: “الإرهاب اليهودي الغادر”، تقرير منشور في صحيفة “فلسطين”، تاريخ 14 كانون الأول 1947، العدد 15، ص1+ 4.
  10. الكنش، حسن، المقابلة السابقة.
  11. “الإرهاب اليهودي الغادر”، صحيفة فلسطين، التقرير السابق.
  12. أبو حميد، ريّا، المقابلة السابقة.
  13. الكنش، حسن، المقابلة السابقة.
  14. صحيفة فلسطين، التقرير السابق.
  15. الكنش، حسن، المقابلة السابقة.
  16. أبو حميد ريا، وأيضا: الكنش، حسن، المقابلتان السابقتان.
  17. صحيفة فلسطين، التقرير السابق.
  18. بامية، محمد حامد، وأيضا: أبو حميد، ريّا، المقابلتان السابقتان.
  19. يبالغ حسن الكنش في روايته عن عدد قتلى اليهود، إذ يذكر وقوع 25 قتيل منهم، بينما عدد المستوطنين المهاجمين لم يكن كذلك.
  20. صحيفة فلسطين، القرير السابق.

ــــــــــــــــــــــ

*  كاتب فلسطيني وباحث في التاريخ الاجتماعي

المصدر: عرب 48

التعليقات مغلقة.