لم يكن النظام الانفصالي ديمقراطياً و لا شعبياً، إن ديمقراطيته البرلمانية لم تستغرق أكثر من ثلاثة شهور ونيف، تم في نهايتها حل المؤسسات الديمقراطية، وحين سقط هذا النظام كان لا يزال يحكم بقانون الطوارئ (تم رفعه في الأول من آذار/مارس 1963) وسقط النظام في 8 آذار/ مارس؛ والذي صاغ هذا القانون بـ «حيلة» دستورية كان هو الليبرالي الديمقراطي «خالد العظم»، وهو نفسه القانون الذي استمر العمل به في سوريا بعدها، ولم يكن شعبياً، فلقد عزل المد الوحدوي والشيوعي، كما أنه تراجع عن الخطوات الشعبية المتمثلة بحقوق العمال وبالإصلاح الزراعي.
لقد اخذت القوى الوحدوية تتهيأ للانقضاض على النظام الانفصالي، وتوجيه رصاصة الرحمة له، كان مؤتمر أيار/ مايو البعثي في عام 1962 هو المؤتمر الذي انعقد للاستيلاء على السلطة في سوريا والعراق، وكان للبعث جناحاً عسكرياً منظماً في الجيش السوري عُرف باسم «اللجنة العسكرية» التي اختارت بموافقة القيادة القومية والامين العام «ميشيل عفلق» الاستقلالية التنظيمية الذاتية، الكاملة عن التنظيم المدني بدعوى عدم انتقال استقطاباته وصراعاته إليها؛ وما أن تمكن البعث في العراق من الإطاحة بحكم «عبدالكريم القاسم» في 8 شباط/ فبراير 1963 حتى أخذ يُعد الخطوط الأخيرة لإسقاط الانفصال؛ وتم ذلك في سوريا في 8 آذار/ مارس 1963 عبر انقلاب أبيض رشيق، لم يقاومه الانفصاليون قط ـ كان الانقلاب في حقيقة قواه انقلاباً ناصرياً ـ بعثياً قام به الجيش؛ فبعد اختفائه لمدة عام كامل خوفاً من اعتقاله بعد محاولة انقلابه في 3 نيسان/ أبريل 1962ظهر العقيد «جاسم علوان»، فيعود للمشاركة في انقلاب أطاح بحكومة الانفصال في 8 آذار/ مارس 1963 والذي قام به مجموعة من الضباط الوحدويين الناصريين والبعثيين والمستقلين والذي كان من المفترض أن يتلوه إعادة الوحدة مع مصر، لكن الضباط البعثيين قاموا بحملة من التسريحات في الجيش شملت الكثير من الضباط الوحدويين والمستقلين كان أشهرهم قائد انقلاب 8 آذار/ مارس اللواء «زياد الحريري» أثناء زيارته للجزائر واللواء «راشد قطيني» رئيس أركان الجيش السوري؛ ومن هنا تشكلت أول حكومة لحركة 8 آذار/ مارس 1963 برئاسة «صلاح الدين البيطار» بوصفها حكومة «جبهة قومية»، ضمت ممثلين عن “البعث وحركة القوميين العرب والجبهة العربية المتحدة والحركة الوحدوية الاشتراكية”؛ وطار وفد منها للتو إلى القاهرة للبحث في عودة الوحدة.
عاد الصراع القديم الذي أحبط حركة 28 آذار/ مارس ـ الأول من نيسان/ ابريل 1962 حول الوحدة الفورية والوحدة المدروسة، وانضم البعث في العراق إلى المحادثات، وصدر في 17 نيسان/ ابريل 1963- إثر مفاوضات مضنية- ميثاق الدولة الاتحادية بين مصر وسوريا والعراق؛ سلم عبدالناصر للبعث في العراق بالسلطة باعتبار أنه من قام بإسقاط «قاسم»، لكنه لم يُسلم للبعث في سوريا بذلك، بحكم أن له شركاء أساسيين ناصريين؛ وبدلاً من أن يقوم البعث بإجراءات تنفيذ ميثاق نيسان/ابريل، فإن نخبته العسكرية المُهيمنة في ما يسمى مجلس قيادة الثورة، وتمكنها من جذب المستقلين، قامت بتسريح الضباط الناصريين الواحد تلو الآخر وبشكل متسارع في نوع من خطة تطهيرية منهجية؛ أدى ذلك إلى قيام اضطرابات 8 أيار/ مايو 1963 التي انهارت فيها حكومة «البيطار»، بعد ان انسحب منها الوزراء الوحدويون، ومعهم عدد من الوزراء البعثيين مثل الدكتور «جمال الأتاسي» و «عبدالكريم زهور» و«سامي الدوربي»، وشكل «البيطار» حكومة ذات أغلبية بعثية؛ كان في البعث يومئذ التيار القومي المرتبط بالقيادة القومية ويطرح الوحدة المدروسة ويوافق عليها ضمن رؤية بعثية للوحدة، لكن تشكّلَ فيه تيار حاقد جداً على عبدالناصر عُرف باسم تيار القطريين (وصدّروا فيه «رياض المالكي»)؛ في حين يتبين أن المُمسك بزمام السلطة الفعلية هو تنظيم اللجنة العسكرية الطائفية الانفصالية العميلة، التي كان معظم أعضاء نخبتها المسيطرة قريباً مع وجهة نظر القطريين؛ فيعود الزمن لعقابيل حركة الثامن من آذار/ مارس 1963، ذلك الانقلاب العسكري الذي أنهى حكم الانفصال، تحت رايات إعادة الوحدة السورية المصرية، حيث كان التحالف ثلاثي الأطراف: الضباط البعثيون والناصريون والمستقلون الذين احتلوا الواجهة، باعتبارهم يحملون رتباً عسكرية أعلى.. ذلك التحالف الهش لم يصمد طويلًا، فبعد نجاح الانقلاب بأيام، وبدء ما يُعرف بمباحثات الوحدة الثلاثية بين مصر وسورية والعراق – التي كان البعث يحكمها أيضاً- ظهر الخلاف جليًا بين البعثيين والناصريين، وبين البعث وعبد الناصر.
كان الناصريون يُصرّون على إعادة الوحدة الاندماجية فوراً، ويعتبرون أن الانفصال ليس سوى مؤامرة، وحالة طارئة، بينما يتوقف البعثيون، عند تلك التجربة مطالبين بتقييمها وعدم تكرار الأخطاء المزعومة التي قامت عليها وظهرت فيها، إن كان لجهة حلّ الأحزاب، أو بروز تفاوتات قطرية يجب أخذها بالحسبان، أو لطبيعة النظام الفردي، وبالتالي البدء بوحدة اتحادية متدرّجة، وكان عبد الناصر حذراً في التعامل مع البعثيين الذين انفضّوا من الشراكة، كما هو معروف، وقاموا بتوجيه انتقادات كبيرة إليه وإلى نظام حكمه، ويُعدّهم من العوامل المساعدة لقيام الانفصال، وهو يخشى وجودهم في قطرين مهمين، لذلك كان أقرب إلى التريّث، فكان “ميثاق 17 نيسان/ أبريل 1963” محاولة التفافية لاحتواء الضغط الشعبي، في وقتٍ كان الناصريون يُعِدون لانقلاب تمّ تنفيذه صباح 18 تموز/يوليو 1963، وانتهى بالفشل، وبجملة من الضحايا، والإعدامات، وانفكاك عرى ذلك التحالف، واشتعال الصراع بين البعث وعبد الناصر والمتحدة.
فبسبب سياسة البعث التي هدفت إلى إقصاء كل القياديين غير البعثيين من الجيش عاد العقيد «جاسم علوان» في 18 تموز/ يوليو عام 1963 ليقوم بانقلاب جديد في وسط دمشق، كان هذا الانقلاب الأكثر دموية بين جميع الانقلابات التي سبقته إذ إن حجم الإعدامات التي قام بها البعث عبر وزير الداخلية «أمين الحافظ»، مؤيداً من اللجنة العسكرية، بعد فشل الانقلاب وسيطرة قيادات الجيش البعثية عليه، تلك المجازر التي استمرت لمدة عشرة أيام، تسبب الانقلاب بضجة في وسائل الإعلام والإذاعات العالمية؛ وهدأت الأمور بعد إلقاء القبض على العقيد «جاسم علوان» مرة جديدة؛ تلت عملية الانقلاب الفاشلة عملية تسريح شملت الكثير من الضباط وصف الضباط من غير البعثيين، وبسبب هذه الإجراءات قدم الفريق «محمد الصوفي» وزير الدفاع السوري استقالته، وبسبب عدم رضى الرئيس «لؤي الأتاسي» عن عمليات الإعدام والتسريح التي تمت بدون موافقته قام البعثيون بالانقلاب عليه ليُسلموا «أمين الحافظ» رئاسة الجمهورية؛ ميزة هذا الانقلاب للعقيد «جاسم علوان» هو أنه آخر انقلاب ضد البعثيين من خارج البعث، إذ تم بعدها تحويل الجيش السوري لأداة إرهابية والدولة السورية إلى دولة شوفينية بعثية، كذلك فهذا الانقلاب تميز بالرد الدموي وعدد التسريحات الهائل في الجيش من قبل البعثيين، فتم قمع الانقلاب بقسوة، وسالت الدماء في شوارع دمشق خاصة حول مبنى الإذاعة والتلفزيون، وارتُكبت المجازر بحق الوحدويين، عسكريين ومدنيين، واستمرت حملات التسريح والإبعاد مدةً طويلة، فأعلن عبدالناصر موت ميثاق 17 نيسان/ ابريل، وسار البعث في طريقه القاتل، طريق احتكار السلطة.. وتم القضاء على الحياة السياسة وتحول السوريون إلى متفرجين على الانقلابات بين الضباط البعثيين.
كما أظهر انقلاب «علوان» الأخير مدى التناقض الذي يعيشه البعثيون وزيف كل ادعاءاتهم، إذ إن شعار الوحدة العربية لم يكن سوى غطاء للوصول إلى السلطة فالاتهامات التي وُجهت لمن قاموا بالانقلابات عليهم كانت في منتهى السخافة فمرة اتهموهم عن طريق صحيفة البعث بالشعوبية ومن ثم بالانفصالية وأحيانا بالماسونية!
بعد إلقاء القبض على العقيد «جاسم علوان»إثر فشل انقلابه الأخير تم تعذيبه في السجون السورية بتهمة التآمر مع المخابرات المصرية، عقدت له بعد ذلك محكمة عسكرية استثنائية برئاسة المقدم «صلاح الضلي» “من أبناء دير الزور أيضاً مثل العقيد «علوان»” (مع مجموعة ممن شاركوا معه: اللواء «راشد قطيني» رئيس الأركان العامة سابقاً، والفريق «محمد الصوفي» وزير الدفاع السابق، واللواء «نور الله حاج إبراهيم» قائد سلاح الطيران سابقاً، والمقدم «حمزة الزعبي»، والرائد «بسام عبد النور»، والرائد «حكمت حسن»، والرائد «عبده ريا»، والنقيب «محمد البيطار»، العقيد «هشام شبيب» و«بحري كلش» و«جهاد الأطرش» و«حسين غنيم»، والمدني «عبد الرحمن عبد المطلب»، وكثير من العسكريين والمدنيين الآخرين وذلك بحضور المتهميّن: «رائف المعري» و«محمد نبهان» أيضاً)؛ حُكم عليهم جميعاً بالإعدام (عدا «محمد نبهان» الذي توسط له «محمد عمران» باعتباره جاسوس للبعث واللجنة العسكرية، باعتبار أن «عمران» واللجنة العسكرية قد دسوه مع آخرين بين أفراد الحركة) وقد نُفذ الإعدام رمياً بالرصاص بالكثيرين منهم؛ لكن الوساطات التي قام بها الرئيس جمال عبدالناصر عن طريق الرئيس الجزائري «بن بيلا» الذي كان يحظى باحترام من قبل البعثيين، خاصة العراقيين، نجحت بدفع «أمين الحافظ» بإصدار عفو عن «علوان» في العام 1964 ليتم ترحيله إلى مصر، وتجدر الإشارة هنا إلى أن «أمين الحافظ» هو أحد الضباط الـ 24 الذين وقعوا وثيقة الوحدة وكان على صداقة مع العقيد «جاسم علوان» إذ كانا من الدفعة ذاتها في الكلية الحربية.
تحول الناصريون في سورية إلى صف المعارضة، بعد أن تمت إزاحتهم كلياً عن السلطة إثر محاولة «جاسم علوان» الفاشلة في 18 تموز/ يوليو 1963، مع أن انقلاب الثامن من 8 آذار/ مارس كان بالأساس ناصرياً بحكم أن معظم الضباط المشاركين به كانوا منهم، كما أن الهدف المعلن للانقلاب كان يتمثل في عودة الوحدة مع مصر.
أما التشكيلات أو التنظيمات الناصرية التي كانت موجودة على الساحة السياسية السورية عشية 18 تموز/ يوليو 1963 فقد كانت تتوزع على أربعة: الاتحاد الاشتراكي العربي (سامي صوفان» والجبهة العربية المتحدة «نهاد القاسم» والوحدويين الاشتراكيين «سامي الجندي» والقوميين العرب/فرع سوريا «هاني الهندي مع سامي وجهاد ضاحي»، اندمجت هذه التنظيمات الأربعة لاحقاً في 18 تموز/ يوليو 1964 بمؤتمر تأسيسي في بيروت بمناسبة الذكرى الأولى لحركة 18 تموز/ يوليو 1963 بموافقة من مصر، في تنظيم واحد تحت اسم الاتحاد الاشتراكي العربي- فرع سوريا، تيمناً بالتنظيم السياسي الذي أسسه عبد الناصر في مصر تحت نفس الاسم واختار له مكتب سياسي وأسندت أمانته العامة إلى الأخ «نهاد القاسم» وأعلن بيانه التأسيسي ملتزماً بأهداف الثورة العربية الواحدة وبقيادة عبد الناصر وليكون في سورية نواة لتلك الحركة العربية الواحدة كاستجابة للنداء الذي أطلقه عبد الناصر في عام 1963، وهو شعار الحركة العربية الواحدة، كقاعدة للثورة العربية الواحدة، وكأداة لا بد منها لتحقيق الوحدة القومية ولبناء وحماية دولتها الاشتراكية.. وكان هذا أيضاً يحمل تطوراً كبيراً، في مفهوم وحدة الثورة العربية ووحدة أداتها، أي الحزب الثوري..
وفي أيار/ مايو 1965عقد الاتحاد الاشتراكي العربي بالاقليم الشمالي مؤتمره الثاني في القاهرة واعتبر بمثابة مؤتمر تأسيس ثاني للاتحاد ونقل مقره من بيروت للقاهرة، واستقال الأمين العام، وألغي المكتب السياسي، وأُقرت صيغة جديدة تقوم على وجود “أمانة عامة” للاتحاد تقع تحت اشرافها ثلاث قيادات، منها قيادة تنظيم داخل الاقليم، وانتخبت أمانة عامة للاتحاد مؤلفة من أمين عام وأمينين مساعدين، وأقرت قيادة الاتحاد الجديدة المبادرات التي قررها مؤتمر الداخل حين الاعداد للمؤتمر الثاني، وخرج عنه نظام داخلي ومنهاج مرحلي، وأسندت أمانته العامة إلى الأخ «جاسم علوان» بعد خروجه من المعتقل بسوريا ووصوله للقاهرة؛ إذ تم ترحيله إلى مصر، كما بينا، نتيجة وساطات متعددة من زعماء عرب، بعد أن كان قد اعتقل إثر محاولته الثانية الفاشلة، وبذلك أصبح الثقل الرئيسي لتنظيم الاتحاد الاشتراكي الوليد للإقليم الشمالي متمركزاً في مصر ونواته هم اللاجئون السياسيون السوريون الذين فروا إليها بعد فشل محاولتهم الانقلابية لإعادة الوحدة مع مصر..
كان الجناح الأقوى والأكثر فعالية على الأرض هم القوميون العرب، التابعون للتنظيم القومي للحركة التي أسسها «جورج حبش في لبنان، والتي كان قوامها التنظيمي مماثلاً لحزب البعث من حيث وجود قيادة قومية وقيادات قطرية في كل قطر كان لها فيه تواجد؛ كانوا يتميزون بانضباطية حزبية عالية، ثم ما لبثوا أن انشقوا عن الاتحاد الاشتراكي العربي/فرع سوريا واستأنفوا نشاطهم المعارض في سوريا بشكل مستقل عن الاتحاد، لكنهم تعرضوا إلى ملاحقات شرسة وتصفيات جسدية، كما أن أمينهم العام القومي «جورج حبش» تم اعتقاله في سجن الشيخ حسن الشهير ثم جرى تهريبه منه، وفي النهاية انحسر وجود التنظيم على الساحة السورية بعد جملة الملاحقات والتصفيات المشار إليها وبعد أن شكّل «جورج حبش» الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين وحصر نشاطه ونشاط حركته في الساحة الفلسطينية.. هكذا كان أفول نجم حركة القوميين العرب في سوريا، كتنظيم معارض.
هذا الأمر أخّر عقد المؤتمر الثالث للاتحاد وفق التوصية من مؤتمره الثاني، بحيث تتم الدعوة خلال ستة أشهر لعقد مؤتمر نظامي منتخب داخل الاقليم وإذا لم يتم ذلك فيُدعى المؤتمر السابق للانعقاد من جديد؛ فقامت قيادة التنظيم في الداخل بإجراءات تنظيمية وعمليات دمج سريعة تواكب عقد مؤتمر منتخب مع رفض أية دعوة لمؤتمر يُشكل من أعضاء يقيمون في الخارج ولا صلة لهم بالممارسة الفعلية ومسؤولية العمل بالاتحاد؛ ولقد اصطدم العمل في الداخل بمشاكل تنظيمية كان أخطرها من قيادات القوميين العرب وعلاقاتهم التنظيمية السرية مع كادرهم داخل الاتحاد؛ فمن هنا كان التصادم والتناحر الذي أدى بالنهاية لخروج الموالين لحركة القوميين العرب من الاتحاد مما عطلَ أيضاً التخلص من العقلية الأخرى التي ظلت تعرقل مسيرة الاتحاد وتوقعه في المشاكل والتناقضات اليومية التي لا تنتهي في كل فرع وكل خطوة أو عمل؛ وبناءً على ذلك لم يُعقد المؤتمر الثالث للاتحاد الاشتراكي السوري إلا في أيلول من عام 1966، الذي انعقد في القاهرة وبشكل استثنائي وبدعوة من الأمانة العامة لمعالجة تلك الأزمة، وبعد أن خرج من الأمانة العامة عضو حركة القوميين العرب فيها؛ أبقى الأمانة العامة السابقة عدا ممثل القوميين العرب وكذلك أبقى على التوصية الخاصة بعقد المؤتمر القادم بعد ستة أشهر، مع إجراءات مهمة تخص العمل داخل الاقليم؛ ولم يكن هذا المؤتمر منتخباً بل جاء يمثل القيادات الفعلية التي كانت تقود العمل أُضيف لهم بعض العناصر المنتقاة من بعض المجالات العمالية والطلابية والفلاحية.
ومع زحمة الاهتمامات السياسية والنضالية، فقد كان للتثقيف والتنوير الفكري الدور الكبير، فبالإضافة للنشرة الدورية التي كان يصدرها حزب الاتحاد فقد كانت المحاضرات واللقاءات التي تتوزع على جميع الفروع والمراتب في سورية، ضمن برامج اسبوعية وشهرية وسنوية، بهدف رفع سوية الوعي بأهمية الفكر وتطبيقاته الثورية؛ وأن يكون الكادر والقيادات على مستوى متقارب من الأفكار والمصطلحات، وكان من أهم ما غطته هذه البرامج بالفترة الممتدة من بعد المؤتمر الثاني وحتى المؤتمر الرابع هي:
– الديمقراطية
– اليهود وأرض الميعاد
– الاشتراكية
– الصهيونية
– قضية فلسطين
– الرأسمالية
– الوحدة
– الحرية
إضافة للتركيز على دراسة ومناقشة المنهاج المرحلي والنظام الداخلي للحزب بشكل ينعكس بروح الالتزام والانضباط وروح المسؤولية.
سنقدم منها على الموقع ما يتيحه لنا الوقت مستقبلاً إن شاء الله.
وبالنسبة للبعث في سورية، فقد أخذ يبني دولته البعثية الشوفينية، معتمداً على نفسه الحافلة يومئذ بالاستقطاب والتفاوضات؛ فعقد مؤتمره القومي السادس في تشرين أول/ اكتوبر 1963 بدمشق، وظهر في المؤتمر تمركز الصراع حول موضوعات عديدة كان بينها الصراع بين ما سمي يمين الحزب ويساره، وسيطر ما يسمى يساره على المؤتمر ووثائقه النظرية؛ امتد هذا الصراع إلى البعث في العراق، وأخذ شكل صدام دموي ما بين الجيش الذي يسيطر عليه ضباط بعثيون وضباط قوميون محسوبون على الناصرية وبين الحرس القومي الذي يسيطر عليه مدنيون وعسكريون يساريون واستغل القوميون الناصريون هذا الانقسام فقاموا بحركة 18 تشرين ثاني/ نوفمبر 1963 بقيادة «عبدالسلام عارف»، وأسقط حكم البعث في العراق، فتم الرد بهذه الطريقة على نكسة الناصريين في 18 تموز/ يوليو 1963 في سوريا بل أخذ القوميون في العراق يتفقون مع القوميين في سوريا للقيام بغزو عسكري من المناطق الحدودية العراقية ـ السورية، واستنفرت حركة القوميين العرب تنظيمها لتنفيذ الخطة في سوريا، غير أن «ميشال أبو جودة» نشر هذه الخطة بشكل دقيق في جريدة النهار اللبنانية، فمات الغزو في مهده، وإن كان معروفاً ان اللواء «فؤاد شهاب» الرئيس اللبناني قد تفاهم مع المصريين حول نشرها واحباطها.
بعد القطيعة الدموية ما بين البعث والناصريين في سوريا، بات النظام الذي وُلد من رحم حركة 8 آذار/ مارس 1963، يحمل اسم النظام الانفصالي باعتباره امتداداً للنظام الانفصالي السابق، فالمعيار هنا كان هو العودة إلى الوحدة لكن البعث كان يشهد صراعات معقدة بدوره، أدت إلى حسم القطريين- المسيطرين على اللجنة العسكرية وعلى المواقع الاساسية في التنظيم المدني المعركة- ضد القوميين (القيادة القومية) فيما عرف بحركة 23 شباط/ فبراير 1966، التي تبنت خطاباً يسارياً شعبوياً، ومفهوماً لمنظمة حزبية طفولية يسارية متطلعة، وأسلوب حرب التحرير الشعبية! لتحرير فلسطين. ففي حركة 23 شباط/ فبراير، أظهر حافظ أسد، المُرفّع استثنائياً إلى رتبة لواء، نوعاً من التردد في الموافقة على الحركة بتلك الطريقة، إنه كان مُخادعاً، ويضع قدَماً فيها وأخرى خارجها، وإن ذلك التردد لم يكن سوى تكتيكه الخبيث، ليبقى محتفظًا بمنصب قائد الطيران والدفاع الجوي، إلى جانب تكليفه كوزير للدفاع بالوكالة، والذي تحوّل إلى مهمةٍ ثابتة.
أدى تقارب عبدالناصر مع الفلسطينيين وتخلصَ الشُباطيون من «عفلق»، إلى جانب دوافع أخرى، واعتُبر قبول القاهرة سفيراً سورياً لديها هو الاستاذ البعثي الدكتور «سامي الدروبي» بمثابة اعتراف من القاهرة بنظام الانفصال السوري، في الوقت نفسه الذي حاول فيه القوميون «الناصريون» في العراق القيام بمحاولتين انقلابيتين فاشلتين ضد حكم «عبدالسلام عارف» ثم ضد حكم أخيه «عبدالرحمن عارف»، ووقعت النكسة (النكبة الثانية) في 5 حزيران/يونيو 1967، ووضعت التطور القومي العربي في مرحلة جديدة تتسم بالتراجع، وبتركيز القاهرة لأولوية إزالة آثار العدوان وإعادة بناء القوات المسلحة التي كان القبول بمشروع «روجرز» تغطيةً لعمليتها، ومحاولة بناء «الحركة العربية الواحدة»، عبر تنظيم ما سمي الطليعة العربية.
وفي حزب البعث كانت قضايا اليمين واليسار في العالم الثالث حالة اختلاطية، حسب البنى الطبقية المتداخلة، وانتساب الأغلبية إلى الطبقة الوسطى أو البرجوازية الصغيرة، مثلما التأثر بالنظام السوفيتي والاقتراب منه، ومن الماركسية، يعدّ من أبرز عوامل التصنيف، في حين أن الذهن المُحافظ الذي كان يقف ضد تطوير أفكار وبرامج الحزب عُدّ كجناح يميني تُكال له الاتهامات الثقيلة، والتي طالت بشدّة مؤسس الحزب «ميشيل عفلق»، وبعض السمات الأبوية التي اتصف بها، في تعامله مع الحزب ومساره، بينما كانت أوضاع الحكم، والتطورات الداخلية والخارجية، كطبيعة الصراع العالمي، والانقسام إلى معسكرين، تتطلب مواكبة نظرية بمستوى الحاجات والطموحات، وتشكل بيئة مناسبة لصراعات فكرية لم تكن صافية تماماً، فاختلطت بكثير غيرها مما يحمله الأشخاص من بيئاتهم وثقافتهم ومؤثراتها فيهم، بما في ذلك الانتماءات الدينية والمذهبية والعشائرية والجهوية وغيرها؛ وحين حلّت هزيمة حزيران/ يونيو المروّعة؛ تداعت جميع الشعارات والمقولات عن بناء الحزب الثوري، وعن اليسار، والشرعية الثورية، وأنبتت الهزيمة مفاعيلها القوية، داخل قيادة 23 شباط/ فبراير، وفي الحكم، وكانت أكثر بروزاً في المؤسسة العسكرية، حين أظهرت الحرب تخاذل وهروب العديد من الضباط، وترك قطعاتهم، بما أفسح المجال لاتهامات ثقيلة وخطيرة تتجاوز التقصير والتخاذل إلى تهم بالخيانة والعمالة، وتسليم الجولان، وسط أجواء مشبعة بالتشكيك، وإلقاء المسؤولية على هذه الجهة أو تلك، خاصة القيادة العسكرية ممثلة بوزير الدفاع «حافظ أسد» التي تتحمل المسؤولية المباشرة عن الهزيمة ومسارات الحرب التي أعادت للأذهان علاقاته، كقطبة مخفية، بالجاسوس الصهيوني «إيلي كوهين».. لقد فشل “الاجتماع المشترك” الذي يُعدّ أعلى قيادة في حزب البعث، في تغيير القيادة العسكرية ممثلة بوزير الدفاع ورئيس الأركان (حافظ وطلاس) على الخصوص، ومحاسبة المقصرين والهاربين والمتخاذلين، في ما اعتُبر – رسمياً- الانعطافة الكبرى لوزير الدفاع، باتجاه إيجاد وتوضع مع توضح تكتل خاص من الضباط المتخاذلين والطائفيين، لحماية وجوده، ومواجهة القيادة بهم، وقد نجح في تجميع الكثير، وتشكيل قوة ضاربة، ومنافسة راحت تتصرف خارج القرارات المتخذة بصلاحيات نقل الضباط وتعييناتهم، وترقياتهم.. حتى كان ما يُعرف بـ “الازدواجية”: أي وجود قوتين متصارعتين داخل الحكم، تتمثلان بالقيادة الحزبية من جهة، ووزير الدفاع «حافظ أسد» ورئيس الأركان «مصطفى طلاس» الذي عُيّن بديلًا لرئيس الأركان السابق اللواء «أحمد سويداني» الذي صُفيّ من الحزب، بتهم التآمر لقلب نظام الحكم !، من جهة أخرى .
في هذه الأجواء و التطورات السياسية الخطيرة، بعد نكسة حزيران، طرح الاتحاد الاشتراكي سلسلة دراسات و نشرات كان أهمها المتعلق بـ ’’ دروس النكسة وعواملها وسُبل مواجهتها ‘‘ وذلك قبل أن يعقد حزبنا: حزب الاتحاد الاشتراكي العربي في الاقليم السوري مؤتمره الرابع والمفصلي نهاية 1967 وبداية 1968؛ وبعد الكثير من الأخطاء التنظيمية الناتجة عن الأحكام الانتقالية التي عانى منها الاتحاد، وعدم الانسجام الكافي وعدم الوصول للوحدة الضرورية في الفكر والرأي والتنظيم، ومن عقم بعض العقليات، التي دفعها عقمها للانشقاق والخروج من الاتحاد.. للتخلص من عقابيلها واسباغ الشرعية على المؤسسات الحزبية و توطين قيادة الاتحاد بالداخل وطرق مواجهة نتائج النكسة/ الهزيمة وكيفية تحويل شعار (إزالة آثار العدوان) الذي طرحه عبد الناصر إلى واقع وممارسات.
***** ***** *****
هكذا وعبر /8/ أقسام قدمناها؛ منها ’’ /4/ أسميناها إرهاصات ما قبل التأسيس، وتلاها /4/ أسميناها الوحدة وما بعدها ‘‘؛ ربما كانت وقفتنا معها وعند هذه التفاصيل طويلة بعض الشيء، ولكن هذه الوقفة باعتقادنا كانت أمراً ضرورياً، لتغطي تلك الفترة الطويلة قبل وثيقة تقرير المؤتمر الرابع لحزب الاتحاد الاشتراكي العربي.. وهو ما سيكون تقريره العام أمامكم هنا على موقع ’’ الحرية أولاً.. والديمقراطية غايةٌ وطريق‘‘ في قادم الأيام بإذن الله .
عبد الباسط حمودة
مهندس وباحث سوري
التعليقات مغلقة.