خولة مطر *
طالت قائمة الممنوعات العربية لتصل إلى درجات تجعل الرقيب يستقر فى قعر أدمغتنا، فتبدأ الكاتبة أو الكاتب حتى ذاك المُشخبط بكتابة سطر ومحي عشرة أسطر حتى يتحول كلامه إلى شيء من الألغاز، أو ربما تفقد كلماته بريقها ومعانيها كبقعة الماء بعد عاصفة ممطرة.
- • •
زمان كان الرقيب هو الحاكم أي النظام بكل أجهزته الأمنية. وكانت الرقابة على كلمات تمس نفس ذاك النظام فقط، أما كل الأمور الأخرى فقل ما تشاء وامضِ! الآن أصبح الرقيب هو كل النظام وليس جهازاً واحداً فيه، وكل المجتمع وكثير من العاملين في الحقل العام المدافعين عن حرية التعبير والمعتقد والجنس وغيرها من الحريات.
ذاك في العلن طبعاً وفي خطاباتهم اليومية واجتماعاتهم المكوكية المطولة وخاصة مع المانحين والقادمين من مدن الحريات. هنا يتحول الخطاب إلى ما يشبه الأغاني الممجوجة أو ترديد ما يحب أن يسمعه القادم المحمل بحقائب من مال وعسل!
- • •
كثرت الممنوعات حتى لامست الحديث عن منظمات المجتمع المدني أو عن تعيين الشباب في المراكز القيادية والريادية حتى أصبح نقدهم شيئاً من المحرمات والممنوعات، وخاف الجمع فاندثر إما ليدافع عنهم أو ركن في جنب الحائط!
يقوم صديقي اليوناني المحاضر في إحدى الجامعات العريقة بالبحث المعمق في عمل منظمات المجتمع المدني الأوروبية وخاصة منها تلك العابرة للحدود والقارات والثقافات وكل الحواجز الأخرى.
ويردد في دراساته أن ما تطالب به تلك المنظمات من شفافية من قبل النظام وتوثيقاً ونشراً لكل تفاصيل خططه… إلخ، لا تقوم هي بنفس الشيء ولا تطبقه على نفسها. هو الباحث المتعمق غير الخائف استطاع أن يستقطب كثيراً من الأكاديميين في جامعات أوروبية للقيام بأبحاث مماثلة والبحث عن كيفية تأثير هذه الجمعيات على التوجهات العامة، ليس في بلد المنشأ فقط بل في كل بلدان العالم أو البلاد الجنوبية الواقفة عند كل باب تتلقى الدعم المالي السخي من أجل ما يُعرف بالقضايا التنموية السامية!
- • •
أما الشباب فهم أيضاً أصابهم ما أصاب منظمات المجتمع المدني من عطب وتقوم الدنيا ولا تقعد لو قلت عن أحدهم أنه لا يملك المعرفة أو الخبرة أو كيف تم اختياره؟ كما كان حال المرأة في دولنا «العتيدة» عندما كثر انتقادهم من قبل الدول «الكبرى» والمانحة والمنظمات الدولية بأنهم لا يشاركون النساء في صناعة القرار.
فما كان من حكوماتنا إلا وأن أكثرت من الوجوه النسائية حتى بهتت الصور فتحولت إلى ما يشبه الكريما على وجه الكعكة! بمعنى مزينات ومطيبات للوجبة الحكومية.. انتقل نفس الاتجاه إلى الشباب حتى يفرح بعضهم ويطبل ويكاد يرقص «العرضة» لكثرة الوجوه النسائية والشبابية في حكومات تبدو جديدة وهي كالزيت القديم في أوانٍ وقوارير جديدة!
- • •
ألا يبدو مثل هكذا تمجيد لكل امرأة مسؤولة أو كل شاب فقط نسبة لجنسها أو عدد سنين عمره/عمرها؟ كلما جاءت حكومة جديدة طبل المطبلون وحملة الأختام الإعلامية لها وهم يرددون بفرح سمج «انظروا عدد النساء» أو «حكومة جديدة شابة» فيكفي أن تكون امرأة أو شاباً أو شابة لتصبح قادراً على صنع المعجزات في نظر «بعضهم» أو ربما هكذا يرش الرماد في العيون الغارقة في البحث عن حل ليس «بندولي» مسكناً فقط بعيداً عن الحلول الجذرية الحقيقية لمشاكل تراكمت على مر العصور من حكومات جامدة لم يكن عيبها الوحيد أنها ليست شابة بل كونها بعيدة عن معايير الكفاءة وباقية على معيار الولاء لا غير أو ربما فقط الخنوع وقلة الحيلة!
- • •
أصبح أي شاب قادم بشهادة من جامعة عليا- يجب أن تكون أوروبية أو أمريكية طبعاً- هو الشاب «السوبرمان» القادر على فعل أي شيء وكل شيء فلا يضر أن يجلس وزيرا للبيئة وهو متخصص في هندسة البترول أو وزيراً للتجارة وهو صاحب مؤسسات وشركات كبرى أو.. أو.. فلا سؤال عن الكفاءة ولا حتى عن تضارب المصالح!
- • •
أحيانا نتمنى أن يخفْ الشباب من غرورهم حتى يصبح المتنبي أو أينشتاين مجرد لاعبين صغار بالنسبة لهم وأن تتوقف منظمات المجتمع المدني عن التصور أنها معصومة من أمراض الأنظمة أو الحكومات أو الشركات الخاصة الكبرى.
المجتمعات المريضة لا تخلق بشراً أصحاء وكذلك المنظمات، فبعض من التواضع وكثير من المحاسبة والرقابة وتقبل النقد والرحمة للبشر الذين أتقنوا الصمت أو ربما تصوروا أن حديثهم على السوشيل ميديا هو صرخة مدوية!
* كاتبة صحفية من البحرين
المصدر: الشروق
التعليقات مغلقة.