الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

بعد الدونباس.. زيلينسكي يتواضع أو يستدرج “بطرس الأكبر”!

سميح صعب *

ماذا بعد الدونباس؟ هل تنفتح أبواب التسوية أم تستمر الحرب؟ ما مدى طاقة كييف على تحمل المزيد من الخسائر البشرية والمادية؟ ألم يحن الوقت للولايات المتحدة كي تقتنع بأن الطريق إلى هزيمة روسيا، تنطوي على ثمن أكبر من أن يتحمله الغرب.. ومعه العالم؟ 

تلتقي معظم التقارير الغربية عند القول إن التكتيكات التي يعتمدها الجيش الروسي منذ انسحابه من محيط كييف في نيسان/أبريل الماضي، قد نجحت في تحقيق مكاسب له في مقاطعتي لوغانسك ودونيتسك في الدونباس، وأنه بسقوط “سيفيردونيسك” في الأيام المقبلة، تكون روسيا أحكمت سيطرتها على لوغانسك بالكامل، وبعدها تتجه للضغط على بقية المدن التي لا تزال تحت سيطرة الجيش الأوكراني في دونيتسك. ومن المشكوك فيه أن تتمكن أوكرانيا من عكس هذا المسار في الدونباس، بعد أن تتسلم راجمات “هيمارس” الأميركية المتطورة.

الدونباس بالنسبة لروسيا يمكن أن يشكل أرضية كافية للرئيس فلاديمير بوتين كي يعلن وقف “العملية الروسية الخاصة” في أوكرانيا والاستعداد للتفاوض انطلاقاً من المكاسب الميدانية التي حققها حتى الآن. ويبقى معرفة مدى استعداد الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي لسلوك طريق أكثر واقعية والشروع في بحث عن تسوية مع الجانب الروسي.

هنا ثمة نقطة ينبغي تفكيك ألغازها، هل أهداف واشنطن في أوكرانيا هي أهداف زيلينسكي أم أن لديها أهدافاً تتجاوز أوكرانيا إلى الصراع الأوسع مع روسيا ومن خلفها الصين؟

في هذا السياق، يمكن ملاحظة كيف أن فرنسا وألمانيا وإيطاليا بدأت تفترق عن الموقف الأميركي ـ البريطاني ـ البولوني في الملف الأوكراني. أما الزيارة المشتركة التي قام بها الرئيس الفرنسي “إيمانويل ماكرون” والمستشار الألماني “أولاف شولتس” ورئيس الوزراء الإيطالي “ماريو دراغي” إلى كييف يوم الخميس في 16 حزيران/ يونيو 2022، فلا يمكن أن تكون مجرد زيارة للإعلان عن دعم أوكرانيا من دون أن يكون الزعماء الثلاثة قد فاتحوا زيلينسكي بمسألة المفاوضات.

ولعل إقرار المفوضية الأوروبية توصية تجعل أوكرانيا بمثابة عضو مرشح لعضوية الإتحاد الأوروبي، يكون بمثابة جائزة ترضية يحصل عليها زيلينسكي، لكن في المقابل يريد القادة الثلاثة رؤية نهاية سريعة للحرب، لأن دولهم تجد نفسها بطريقة أو بأخرى في خضمها. وهذا ما اعترف به ماكرون عشية تفقد القوات الفرنسية في رومانيا، عندما قال إن فرنسا دخلت “اقتصاد الحرب”. وألمانيا وإيطاليا أُرهق الاقتصاد فيهما بسبب خفض اعتماد كلٍ منهما على إمدادات الطاقة الروسية.

وفي الولايات المتحدة نفسها، بلغ التضخم أعلى مستوى منذ 40 عاماً ورفع الاحتياطي الفدرالي الفائدة بنسبة 0.75 نقطة مئوية لمكافحة التضخم، الأمر الذي لم يحصل منذ 1994. والرئيس الأميركي جو بايدن تراجع عن “نبذ” السعودية وقرر الذهاب إلى الرياض ولقاء ولي العهد الأمير “محمد بن سلمان” لكن ليس بشكل ثنائي. وفي بريطانيا، يكافح بوريس جونسون لكبح تضخم يبلغ 11 في المئة، ويضع خططاً للتحفيز الإقتصادي شبيهة بتلك التي وضعها عند التعاطي مع الآثار السلبية التي خلفها الإقفال من جراء فيروس كورونا.

وليس تفصيلاً أبداً، التحذيرات المتكررة التي تطلقها الأمم المتحدة ومنظمات إنسانية، من أن استمرار الحرب الروسية-الأوكرانية، يهدد عشرات وربما مئات الملايين في انحاء العالم بالجوع، بسبب توقف صادرات الحبوب والزيوت الروسية والأوكرانية، فضلاً عن أن أكثر من 11 بلداً في الشرق الأوسط وأفريقيا مهددة باضطرابات اجتماعية وسياسية، نظراً للنقص في المواد الغذائية.

وهذه التطورات ليست آثاراً جانبية للحرب، بل صارت من الآثار المباشرة المترتبة عليها. ويبدو خارج كل أمر مألوف ومنطقي، أن تكون الأسلحة “الثقيلة” التي سيوصلها الغرب إلى كييف، كفيلة بإزالة هذه الآثار. حتى البحث عن بدائل في أوروبا للغاز والنفط الروسيين لن يحصل بسحر ساحر بل يحتاج إلى سنوات وسنوات قبل أن يؤتي ثماره.

وفي لمحة شاملة لما تكبدته أوكرانيا من خسائر، أوردت مجلة “ذا ناشيونال إنترست” الأميركية تقريراً، تحدثت فيه أنه فضلاً عن ألاف الإصابات، فإن كلفة الحرب على الاقتصاد الأوكراني كانت مدمرة. وأظهرت دراسة لمدرسة كييف الاقتصادية أن أوكرانيا خسرت 600 مليار دولار نتيجة الحرب.

ومن بين الكلفة الإجمالية، هناك 92 مليار دولار نتيجة الدمار في البنى التحتية بينما تم إخراج 195 مصنعاً من الخدمة. إن الضرر الذي لحق بالشركات الأوكرانية سيؤدي إلى مضاعفات خطيرة على اقتصاد البلاد، الذي توقع البنك الدولي أن يتقلص بنسبة 45 في المئة. وأعلن برنامج الإنماء التابع للأمم المتحدة، إقفال نصف الشركات الأوكرانية، فيما ستعمل شركات أخرى بطاقة أقل. وتوقفت تقريباً الصناعات الأوكرانية البارزة مثل الفولاذ والحديد والخشب. ومع تدمير مصنع آزوفستال وآخر المصافي النفطية الأوكرانية، فإن استعادة القدرة الإنتاجية إلى مستويات ما قبل الحرب، ستتطلب عبئاً مالياً كبيراً.

فضلاً عن ذلك، فإن القوات الروسية دمّرت حوالي 24 الف كيلومتر من الطرق، التي سيتطلب إصلاحها سنوات. وحتى لو خرجت أوكرانيا من الحرب منتصرة، فإنها ستواجه مأزقاً اقتصادياً. إن تقليص هذه الخسائر من طريق احتمال التوصل إلى وقف للنار من شأنه تخفيف العبء المالي الذي ينتظر أوكرانيا. وأخذاً في الاعتبار هذه المعطيات، لا يبالغ نائب رئيس مجلس الأمن القومي الروسي ديميتري ميدفيديف عندما يتحدث عن أن الحرب ستؤدي إلى “اختفاء أوكرانيا عن الخريطة”.

وإذا كان الرهان الغربي على أن الحرب الطويلة وحدها الكفيلة بإرهاق روسيا عسكرياً واقتصادياً وجعلها تخرج ذليلة من أوكرانيا، كما خرج الإتحاد السوفياتي من أفغانستان، فإن ما تحقق الآن هو صمود روسيا اقتصادياً وتكيفها عسكرياً مع الهزائم التي منيت بها في الشهرين الأولين من الحرب، بينما خصومها وبقية العالم هم من يعانون، حتى ليبدو أن التضخم الذي يضرب أوروبا وأميركا، هو الحليف الأكبر لبوتين في حربه ضد أوكرانيا.

جملة واحدة يكررها بوتين في كل خطبه الرئيسية وهي أن الحرب بصرف النظر عن الخسائر البشرية والاقتصادية التي تسببت بها لروسيا، فإنها “أنهت عهد الآحادية القطبية”. وفي مواجهة التحذيرات الأوروبية من حرب طويلة، يستحضر بوتين بطرس الأكبر الذي قاتل في “حرب الشمال العظمى” 21 عاماً، وان العالم ظل عقوداً لا يعترف بسان بطرسبرج أراضٍ روسية وإنما يعتبرها أراضٍ سويدية، في تلميح إلى ما هو حاصل اليوم في أوكرانيا.

ويبقى عامل مهم للغاية في المواجهة العالمية الدائرة اليوم، وهو أن الصين لن تترك الغرب يدمر روسيا، وما يمكن أن تفقده موسكو من أسواق أوروبية من الممكن تعويضه في أسواق الصين. قبل أيام اتصل الرئيس الصيني “شي جين بينغ” بـ”صديقه القديم” فلاديمير بوتين، للمرة الأولى منذ أواخر شباط/ فبراير. اللافت للانتباه في المكالمة أنها أتت عقب اشتداد الحرب الكلامية مؤخراً بين واشنطن وبكين حول جزيرة تايوان.

وفي نهاية المطاف، تبقى المفاوضات أقصر الطرق لوقف حرب لا تستنزف روسيا وحدها وإنما تستنزف العالم. وقد تجعل الراجمات الأميركية عندما تصل إلى أوكرانيا الوضع أكثر سوءاً.

* كاتب صحفي لبناني

المصدر: 180 بوست

التعليقات مغلقة.