نبيل الخوري *
قبل 40 عاماً، وبينما كانت الدبابات والبوارج والمقاتلات الإسرائيلية تدكّ بيروت بالقذائف والصواريخ، وتدمّرها في أثناء حصارها، كان التاريخ يسجّل حدوث معركة من نوع آخر. في خضم الاجتياح الإسرائيلي للبنان صيف 1982، للقضاء على منظمة التحرير الفلسطينية وإنهاء وجودها، اندلعت مواجهة موازية، فكرية – سياسية، ليس بين العرب والإسرائيليين فحسب، بل بين إسرائيل و”أصدقائها” أيضاً.
أصدقاء إسرائيل ليسوا فئة واحدة منسجمة. بينهم من يؤيدها تأييداً أعمى، فيغطّي جرائمها ومجازرها ويتغاضى عن احتلالها وتوسّعها الاستيطاني غير الشرعي، وبينهم من يؤيد فكرة قيام دولة إسرائيل، لكنه يعارض سياسة القوة التي تتبعها منذ العام 1948، ويريد، في المقابل، قيام دولة فلسطينية مستقلة. أو بمعنى آخر، هو يطالب إسرائيل بتسهيل مسار الحل العادل والشامل للمسألة الفلسطينية والصراع العربي – الإسرائيلي.
من بين هؤلاء الأصدقاء الذين ترتقي كتاباتهم في صيف 1982 إلى مستوى المحاكمة الفكرية العادلة والصارمة لاجتياح لبنان وحصار بيروت، كل من عالم الاجتماع والفيلسوف الفرنسي ريمون آرون، ومؤسس المؤتمر اليهودي العالمي والمؤتمر الصهيوني العالمي، ناحوم غولدمان (أصله من ليتوانيا حين كانت خاضعة للحكم القيصري الروسي، لكنه نشأ ودرس في ألمانيا).
كتب الأول كتب مقالةً في 25 يونيو/ حزيران 1982، في مجلة إكسبرس الفرنسية، تحت عنوان “محدودية القوة (Limites de la force)” أما الثاني، فبادر أولاً، إلى إطلاق نداء مشترك من باريس، مع كل من الرئيس الأسبق للحكومة الفرنسية، بيار منديس فرانس، ووزير التجارة الأميركي الأسبق، فيليب كلوتزنيك، نشرته صحيفة لوموند في 3 يوليو/ تموز، تحت عنوان “على إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية أن تتفاوضا على حل”. لعل المقالة الأكثر رمزية هي التي أرسلها غولدمان إلى مجلة لوموند ديبلوماتيك، قبل أيام من وفاته في 29 أغسطس/ آب، لنشرها في عددها الصادر في سبتمبر/ أيلول، تحت عنوان “يهود وغير اليهود” (Juifs et non – juifs)، في حين كان الاجتياح قد فرض خروج ياسر عرفات ومقاتلي منظمة التحرير من بيروت إلى تونس، بحماية قوات متعددة الجنسيات.
لطالما كان ريمون آرون متعاطفاً مع دولة إسرائيل، ومتفهّماً “حقها” بالوجود والأمن. لكنه كان يطرح ضرورة الخروج من دوامة العنف، مشجّعاً على تحقيق “المصالحة” بين العرب والإسرائيليين. كان شديد الانتقاد للسياسة الفرنسية الديغولية بعد حرب حزيران 1967، والتي رأى فيها انحيازاً لصالح العرب، وليس موقفاً متوازناً. لم يعتقد بإمكانية فرض الحل السلمي للصراع من الخارج، أي من القوى العظمى والأمم المتحدة. لكنه كان مدركاً استحالة قبول العرب بتحويل الضفة الغربية إلى “محمية إسرائيلية”، شأنهم في ذلك شأن اليهود الذين لن يقبلوا أبداً أن تكون إسرائيل “محمية عربية”، بحسب وجهة نظره. وعليه، كان يحذّر الإسرائيليين من مغبة النشوة بانتصاراتهم العسكرية، معتبراً أن الانتصار يتحقّق عندما تعترف بها الدول والشعوب المجاورة لها وتتصالح معها.
سبق لريمون آرون أن كتب عن “عجز الانتصار” في سياق ما بعد حرب حزيران 1967، في مقالة له نشرتها صحيفة لوفيغارو، في 14 يناير/ كانون الثاني 1970، تعقيباً على صفقة بيع فرنسا 50 مقاتلة من طراز ميراج إلى ليبيا، وفي ظل تعثر مسار حل النزاع العربي – الإسرائيلي، راح آرون يقول: “كل شيء يحصل، في الواقع، كما لو أن الإسرائيليين فقدوا الأمل بالتوصل إلى اتفاق (…)، ولم يعودوا يعتمدون إلا على القوة العسكرية لضمان أمنهم أولا، ومن ثم إجبار أعدائهم على الرضوخ تاليًا. أعتقد أنه ذات يوم، سوف يقرّ الإسرائيليون بمقولة هيغل عن عجز الانتصار، حين كان يعلّق على الملحمة النابليونية (حروب نابليون بونابرت للهيمنة على أوروبا)”. ما يقصده آرون هنا يتمثل في أن الإسرائيليين “سيحقّقون نجاحات أخرى، لكنهم لن يجبروا جيرانهم على الاستسلام”. بمعنى آخر، يحث آرون القادة الإسرائيليين على الاتعاظ من دروس التاريخ، والاعتراف بأن ذلك الزمن الذي كانت الانتصارات العسكرية تؤدّي فيه إلى خضوع المهزوم قد ولّى. وهذا يعني أن الرهان على القوة العسكرية لن يمكّن إسرائيل من فرض الإملاءات دائماً وأبداً على العرب والفلسطينيين.
هذه هي الرسالة نفسها، والمقولة نفسها، التي يعود ويكرّرها آرون خلال تعليقه على اجتياح عام 1982، في مجلة إكسبرس. أثناء حصار بيروت، وقبل أن تشقّ وساطة المبعوث الأميركي فيليب حبيب، طريقها نحو تسوية تقضي بالخروج “المشرّف” لمنظمة التحرير من العاصمة اللبنانية، اعتباراً من 14 آب، يعكس تحليل الفيلسوف الفرنسي موقفاً يقلل من أهمية المكاسب الميدانية التي يوفّرها الاجتياح ويستبعد بالتالي إمكانية استفادة إسرائيل من هذه المكاسب لإخضاع فلسطينيي غزة والضفة الغربية لشروط “السلام الإسرائيلي”. فهو يشدّد على أن “الإسرائيليين يخطئون في اعتقادهم بأنهم سيحصلون على السلام بواسطة الانتصارات. (…) الإرهاب سيولد من جديد، حتى لو تم القضاء على القيادة المركزية الفلسطينية (منظمة التحرير)، وحتى لو تم الاستيلاء على أرشيفها”. أبعد من ذلك، يذهب أرون في تحليله إلى حد الاستشراف بما ينتظر إسرائيل من مقاومة شعبية فلسطينية في الداخل الإسرائيلي. فهو يضيف في مقالته “داخل إسرائيل، يزداد عدد العرب بوتيرة أسرع من (عدد) السكان اليهود. وبالتالي، سيصطدم قادة الدولة اليهودية في داخل بلدهم، غداً أو بعد غد، بشكل أو بآخر، بفكرة الدولة الفلسطينية والمناضلين من أجلها”. وهنا يدعو آرون مجدداً هؤلاء القادة “إلى “التأمل بمقولة هيغل عن عجز الانتصار”.
لم تتلقّف إسرائيل الرسالة، لا رسالة آرون الرؤيوية، ولا التي وجهتها الشخصيات اليهودية الثلاث، غولدمان ومنديس فرانس وكلوتزنيك، فهؤلاء كانوا يسيرون عكس التيار الذي كانت الحكومة الإسرائيلية تدفع به، حين طرحوا فكرة التوازي بين حق إسرائيل بالوجود وحق الفلسطينيين بالاستقلال. طرحٌ كهذا يقطع الطريق على مجرّد الاكتفاء بحكم ذاتي صُوري أو بحل “أردني” للمسألة الفلسطينية، ويُمهّد لفكرة الدولة المستقلة التي كانت (ولا تزال) مرفوضة رفضاً مطلقاً من حكومة الاحتلال.
يَحْتكِم هذا الطرح إلى منطقٍ كانت تروّجه الدبلوماسية الفرنسية أيضاً، ويقضي بمنح منظمة التحرير مكاسب سياسية مقابل تنازُلاتها العسكرية. وهو منطقٌ أثار جدلاً في الغرب. مثلاً، كان الدبلوماسي الفرنسي، جيرار آرو، قد تسلم للتو منصبه سكرتيرا أول في سفارة باريس في تل أبيب، مطلع يوليو/ تموز 1982. لم يقتنع آرو بهذا الطرح، ليس لأنه يريد أن يكون منحازاً لإسرائيل، بل لأنه كان يعتقد بأن مفهوم “الانتصار (السياسي) كثمرة للهزيمة (العسكرية)” هو مجرّد “هراء”، بحسب ما ورد في كتاب مذكراته بالفرنسية “جواز سفر دبلوماسي. 40 عاماً في الـ كي دورسيه”، الصادر عام 2019.
من وجهة نظر إسرائيلية، هذا المنطق غير وارد إطلاقاً، فكيف يمكن إعطاء ياسر عرفات فرصة الاستقلال بعد هزيمته، وفي وقتٍ كان لا يزال أرييل شارون ينوي فيه تصْفيته؟ على هذا السؤال، يجيب غولدمان وزملاؤه بضرورة وقف الاجتياح وحصار بيروت والاعتراف المتبادل بين إسرائيل ومنظمة التحرير، وانطلاق المفاوضات من أجل “تحقيق التعايش بين الشعبين الإسرائيلي والفلسطيني على قاعدة حق تقرير المصير”، أما حكومة مناحيم بيغن، فكان جوابها الوحيد يتمثل في البحث عن انتصار عسكري، نالته في المحصلة.
هنا، كان لغولدمان مطالعة يمكن وصفها بالتاريخية. لم يكتف بذلك البيان الثلاثي مطلع يوليو/ تموز 1982، بل أبى أن يرحل قبل أن يترك “وصية” عن المسألة اليهودية، تطرّق فيها إلى نتائج الاجتياح. وفي متنها، يقرّ غولدمان، بحسب المقالة التي نشرتها “لوموند ديبلوماتيك”، بأن “إسرائيل كسبت عسكرياً، بفضل تفوّقها الساحق في العتاد والعتيد على منظمة التحرير، لكن من دون أن تتمكن من التفاخر (بانتصارها)”، فهو يدحض أطروحة الانتصار بقوله “يمكن (لإسرائيل) أن تكسب معركة تلو الأخرى، وأن تخسر الحرب. فكل انتصاراتها السابقة كانت انتصارات بَيروسية”، نسبة إلى الجنرال الإغريقي بيروس الإبيري، أي التي تتحقق بعد هلاك الجيش “المنتصر” وتكبّده خسائر جسيمة. ويصرّ غولدمان، في هذا المضمار، على أن هذه الانتصارات “تخلق لإسرائيل صعوباتٍ سياسية جديدة”، تماماً كما حصل بعد حرب حزيران 1967 التي أدت إلى عواقب وخيمة، مع تعميم حرب العصابات الفلسطينية. ويسْتلهم غولدمان من صفحات التاريخ، ليذكّر بيغن بأن “الانتصارات العسكرية كانت دوماً بمثابة كارثة بالنسبة لإسرائيل في نهاية المطاف” (…).
في المقابل، كان غولدمان يرى أن اجتياح عام 1982 يمكن أن يؤدّي إلى “نتائج إيجابية غير مخطط لها وغير مرغوب بها من بيغن”. مؤسّس المؤتمر اليهودي العالمي ومديره حتى عام 1977، يراهن هنا على إمكانية “أن تدرك منظمة التحرير وجوب تخلّيها عن الكفاح المسلح، وعن القيام بأعمال إرهابية ضد إسرائيل، وتركيز عملها على المجال السياسي من خلال تأسيس حكومة منفى”.
هذه الفكرة بالغة الدلالة في قاموس القانون الدبلوماسي، لأن أي حكومة منفى تفترض وجود اعتراف ضمني بحتمية قيام دولة فلسطينية مستقلة ذات سيادة على أرض محدّدة، خصوصاً في الضفة الغربية. ناهيك برهان غولدمان على “تباين أميركي – إسرائيلي جدّي” الذي من شأنه أن يؤدّي إلى “تغيير في السياسة الأميركية بالشرق الأوسط”، فيدرك الإسرائيليون، على الرغم من عنادهم، بأنه من دون دعم واشنطن عليهم وضع حد لسياستهم الاستفزازية الحالية”، كما ورد في مقالته في “لوموند ديبلوماتيك”.
تستمد كلمات غولدمان وأفكاره أهميتها وقوتها من تاريخ هذه الشخصية، فهي لم تصدر عن زعيم عربي أو إسلاموي. بل عن سياسي صهيوني، هو أحد “مهندسي قرار الأمم المتحدة حول تقسيم فلسطين” عام 1948، بحسب ما ورد في مذكّرات الصحافي والدبلوماسي الفرنسي، إريك رولو (1952 – 2012)، الصادرة باللغة الفرنسية عام 2012، بعنوان “في كواليس الشرق الأوسط. مذكّرات صحافي دبلوماسي”. لكن هذا الصهيوني المتحمّس لتأسيس كيان لليهود، كان يعترض، منذ البداية، على “الإعلان عن قيام دولة إسرائيل قبل الحصول على موافقة العالم العربي أو أقله على حياده الإيجابي”، كما يروي رولو. أكثر من ذلك، يؤكد غولدمان أن “تسويةً يهودية – عربية كانت بمتناول اليد”، ذلك أن “مصر أبلغته أنها تؤيد حواراً بنّاءً، كما أن الرئيس الأميركي، (هاري) ترومان، أملاً منه بِتَجَنُّب نزاع مسلح، كان سيدعم المحادثات” الهادفة إلى إبرام تسوية كهذه. لكن “أغلبية أعضاء المجلس التنفيذي للوكالة اليهودية رفضت تأجيل الإعلان عن قيام دولة إسرائيل”، ما شكّل في نظر غولدمان “الخطيئة الأصلية التي ولّدت الحروب”. ويستشهد رولو بكلامٍ لغولدمان يقول فيه “بمرارة: “انتظر اليهود ألفي عام لتأسيس دولتهم الخاصة بهم، لكنهم كانوا عاجزين عن الانتظار بضعة أيام إضافية”. إذ كان غولدمان على يقين بأن التفاوض بنياتٍ حسنة كان من شأنه أن يؤدي إلى اتفاق في غضون أشهر”، على حد قول رولو.
بعد حوالي ثلاثة أشهر على بدء الاجتياح، هَزَمَت إسرائيل منظمة التحرير وأجبرتها على الخروج من بيروت في سبتمبر/ أيلول 1982. لكن هذا الانتصار العسكري كان باهظ الثمن، سيما على المستويين، السياسي والمعنوي، فقد ازدادت العزلة الدولية لإسرائيل، بحسب ما لاحظ غولدمان. وتهشّمت صورتها أكثر فأكثر مع اكتشاف العالم نتائج عدوانها التدميرية، خصوصاً بعد مجزرة صبرا وشاتيلا في 16 سبتمبر/ أيلول، والتي يتحمل الاحتلال مسؤوليتها. .. وهكذا طوت إسرائيل صفحة النشاط المسلح الفلسطيني في جنوب لبنان، لكنها لم تتمكّن من طي صفحة الصراع المفتوح مع الشعب الفلسطيني. ولم تدفن حقوقه أو طموحاته بالحرّية والاستقلال والعودة.
بعد خمس سنوات من اجتياح 1982، وكما تنبّأ ريمون آرون، اندلعت انتفاضة الحجارة داخل الأراضي المحتلة. وبعدما ساهمت إسرائيل في إفشال مسار السلام واتفاقية أوسلو (1993) وعرقلت قيام دولة فلسطينية مستقلة، سرعان ما واجهت انتفاضة ثانية اعتباراً من العام 2000، وكلما أفرطت في استخدام العنف والقوة للتنكيل بالفلسطينيين وقتلهم، أو أمعنت في السياسة الاستيطانية في الأراضي المحتلة، اصطدمت أكثر فأكثر بإرادةٍ شعبيةٍ غير مستعدّة للاستسلام. صحيحٌ أن إسرائيل فرضت بالقوة أمراً واقعاً غير ملائم لقيام دولة فلسطينية مستقلة، وتسببت بمشكلة المستوطنات غير الشرعية التي يصعب إخلاؤها من المستوطنين اليهود (المتطرّفين) من دون حرب دامية ومكلفة، لكن الصحيح أيضاً أن هناك في الجهة المقابلة حالة انتفاضة مستمرّة، ملحمية، تذكّر دولة الاحتلال من جديد بمقولة “عجز الانتصار”.
………………………..
المراجع:
Araud, Gérard, Passeport diplomatique. Quarante ans au Quai d’Orsay, Paris, Grasset, 2019.
Laurens, Henry. « Raymond Aron analyste du conflit israélo-arabe », Matériaux pour l’histoire de notre temps, vol. 96, no. 4, 2009, pp. 22-27.
Rouleau Eric, Dans les coulisses du Proche-Orient. Mémoires d’un journalistes diplomate (1952-2012), Paris, Fayard, 2012.
ــــــــــــــــــــــــــ
* كاتب أكاديمي لبناني من أسرة “العربي الجديد”
المصدر: العربي الجديد
التعليقات مغلقة.