ياسر الحسيني *
كم هي سهلة وبسيطة كلمة ” اندماج ” وهي تنساب على ألسنة المهتمّين بشؤون اللاجئين في كل أصقاع العالم، ممّن أسّسوا منظمات محلية أو دولية وراحوا ينفقون ملايين الدولارات المقدمة من الجهات الداعمة دولاً وجمعيات وأفراداً، والتي لم تغيّر من واقع اللاجئين ومستوى حياتهم المعيشية ” الطارئة” بقدر ما غيّرت من نمط حياة العاملين في تلك المنظمات، ورفعت من مستواهم المعاشي حتى باتوا أشبه بطبقة اجتماعية “جديدة” ولدت من رحم المعاناة، ثم قفزت فوقها وأخذت تنظر إليها من علٍ، وأقنعت نفسها بأنها باتت لا تنتمي إلى مجتمع المهجّرين قسراً، بل إلى تجمّع “خبرات ” يعمل في قطاع الصناعة المستحدثة التي اطلقوا عليها اسم ” صناعة العمل الإنساني”.
أقول هذا في المقدمة كي يسهل علي الحديث عن الاندماج، وأجيب على التساؤلات التي تدور في أذهاننا نحن:” ترى مالذي غيّر المجتمع المضيف تجاهنا؟”.. ولكن قبل ذلك دعوني أتناول مسألة الاندماج وما هي العوامل التي تعتمد عليها هذه العملية بشكل كبير، والتي يمكن حصرها في ثلاثية مركبة ( الرغبة ـ القدرة ـ الزمن) ، وسأتناولها كل واحدة على حدى لتحديد مدى مسؤولية اللاجئ في عدم تحقيق عملية الاندماج، وأبدأ من الرغبة حيث أنّه لا يمكن الوصول إلى غاية ما، دون وجود الرغبة في تحقيق هذه الغاية، والرغبة في الاندماج لا تنحصر في اللاجئ فقط وإنما يجب أن تتوفر في المضيف أيضاً، إذ لا يمكنك أن تندمج في محيط ينتظر منك حزم حقيبتك وتغادر، والرغبة مثلها مثل باقي المشاعر تتأثر بالمزاج العام الذي لا يثبت على حال ويتأثر هو الآخر لأسباب عديدة، قد يكون سلوك اللاجئ واحداً منها، وقد يكون الوضع الاقتصادي العام، أو الوضع السياسي للبلد المضيف أو كليهما، من الأسباب القوية التي تتحكم بالمزاج العام. وأستطيع القول بأن الرغبة بالاندماج حاضرة في ذهن اللاجئ بنسبة كبيرة وهو ينتظر من الطرف الآخر أية بادرة قبول كي يلتقطها، ليستعيد بعضاً من التوازن النفسي الذي فقده خلال رحلة اللجوء التي داهمته دونما إنذار.
القدرة على الاندماج ربما هي الوحيدة التي تقع على عاتق اللاجئ، وهذه المقدرة متفاوتة من شخص لآخر، وتتعلق بحيوية الشخص وعمره وثقافته وحجم الأعباء الملقاة على كاهله والمسؤوليات إن كان قبل اللجوء أو بعده، وتزداد هذه المقدرة عند الفئات العمرية الصغيرة نظراً لسرعتهم في تعلم اللغة الجديدة واحتكاكهم مع الفئة العمرية نفسها من المجتمع المضيف التي لا تتأثر كثيراً بالمزاج العام، وهذا ماجعل عملية الاندماج بالنسبة للأطفال تبدو محققة بنسب عالية في معظم بلدان اللجوء، والمدرسة كانت هي العامل الرئيس في إنجاز ذلك، بغض النظر عن بعض حالات التنمّر التي تحصل حتى لغير اللاجئ.
أما بالنسبة للزمن الذي قد تستغرقه عملية الاندماج، فهو مرهون بعوامل عديدة تتعلق بعدد اللاجئين وقدرة الدولة المضيفة على الاستيعاب وحجم المساعدات التي يقدمها المجتمع الدولي، مع ضمان عدم دخول أعداد جديدة من اللاجئين على شكل موجات تربك الخطط الموضوعة من قبل البلد المضيف وتفاقم مشكلة اللجوء التي تنعكس سلباً على المزاج العام مما يؤخّر من عملية الاندماج وقد يعطّلها مؤقتاً أو يفشلها بالكامل.
أعود إلى العاملين في المنظمات الانسانية وما علاقتهم بالسؤال المطروح:” ترى مالذي غيّر المجتمع المضيف تجاهنا؟” وهنا أتحدث عن تركيا بحكم تواجد أكبر عدد من المنظمات الانسانيةـ وقد يسقط ذلك على لبنان بشكل أو بآخر وهذا موضوع يحتاج لبحث أكثر تفصيلاً لاعتبارات كثيرة، في ما يخص المجتمع التركي الذي تغيّر مزاجه العام تجاه اللاجئين عموماً والسوريين خصوصاً في الآونة الأخيرة، والجميع يقرن ذلك بالحملة التي تقودها المعارضة كورقة رابحة تراهن عليها في الانتخابات المقبلة منتصف العام القادم، ولكن هل الحملة وحدها استطاعات أن تغير مزاج المجتمع التركي أم أن هناك أسباباً أخرى أثرت فيه؟، واحدة منها هي سلوكيات تبدر من اللاجئين تعطي رسائل خاطئة عن طبيعة الصراع المستمر في سورية، فهناك من يتصرف كسائح لا علاقة له بما يجري في بلده، وهناك من يبالغ في مظاهر البذخ والإسراف دون حرج أمام مجتمع مقتصد بطبيعته ولا يحب التبذير، حتى بات الغالبية يظنون بأن ما تقوله المعارضة صحيحاً عن انفاق الحكومة على اللاجئين من قوت الشعب، وهو سبب التضخم وغلاء المعيشة، متجاهلين عن قصد موجة الغلاء التي ضربت العالم أجمع منذ جائحة كورونا وما قبلها إلى اليوم، زادها تفاقماً الغزو الروسي لأوكرانيا وما ترتب على ذلك من انقطاع الامدادات من البلدين الأكثر إنتاجاً للقمح والزيوت النباتية في العالم.
في الختام لابد من التوضيح بأن عملية الاقتلاع التي تمت في سورية، كانت تشمل مجتمعاً كاملاً، انتقل إلى بلد اللجوء حاملاً معه عيوبه وأمراضه المجتمعية، فلا يمكن معاملة الجميع أو النظر إليهم بنفس السوية، فمثلما لجأ السياسي والمعارض والطبيب والمهندس والمحامي والفنان والمثقف، كذلك لجأ الجاهل واللص والمجرم والحشاش وهؤلاء كانوا عبئاً على المجتمع الأصلي وسيكونون عبئاً على المجتمع المضيف، وهؤلاء هم أيضاً ساهموا بتغير المزاج العام سلباً تجاه الجميع.
* كاتب وإعلامي سوري
المصدر: اشراق
التعليقات مغلقة.