بلال التليدي *
قبل أزيد من عقد من الزمن، كان موعد العالم العربي مع ربيع ديمقراطي اجتاح عددا من الدول، وأسقط أنظمة، ورتب أوضاعا جديدة لا تزال تداعياتها إلى اليوم تثير كثيرا من الأسئلة.
وبغض النظر عن الاختلاف في تقييم هذا الربيع، ودور الفاعل الأجنبي فيه، وفي تغيير اتجاهاته، فإن التباين حول تحديد أسبابه لم يكن كبيرا، سواء بالنسبة للذين كانوا يدعمون رياح التغيير؟ أم للذين كانوا يتوجسون من الأيادي الخفية التي يفترض أن تكون وراءها.
توافقت الدراسات، ونتائج المسوح واستطلاعات الرأي الغربية والعربية، على أن أسباب الحراك الديمقراطي العربي، تعود إلى نقطتين اثنتين، الأولى، هي تفاقم الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، والثانية، هي ضيق مناخ الحريات (البعد السياسي والحقوقي) في الدول العربية.
ومهما يكن الخلاف حاصلا حول السبب الذي حرك الآخر، وما إذا كان تطلع المواطن للكرامة والعيش الكريم هو الذي دفعه لمواجهة جو اختناق الحريات، أو كان تطلع المواطن للحرية هو الذي دفعه لاستحضار وتوظيف ظروف القهر الاقتصادي والاجتماعي كحجج بين يدي زخمه الثوري، فإن الثابت في كل ذلك، أن الأزمة، سواء في محددها الاقتصادي والاجتماعي، أم في محددها السياسي والحقوقي، تبقى العامل الحاسم الذي يفسر اندلاع الحراك الديمقراطي في العالم العربي.
البعض حاول أن يدفع بحجة مخالفة، ليثبت محورية العامل الخارجي (وجود مؤامرة أمريكية على استقرار الأنظمة السياسية العربية، أو وجود أجندة تشجيع فوضى في العالم العربي) فيسوق وقائع الخريف الديمقراطي كحجة على أن الشعوب تميل إلى الاستقرار، وليس إلى شيء آخر، وأنه في الوقت الذي تعثرت فيه خيارات ترتيب الوضع الديمقراطي في مصر، لم يقاوم الناس سلطة العسكر، بل انحازوا للمعاش على خيار النضال من أجل الحرية والديمقراطية، لأنهم تأكدوا أن المسار الذي كان يفترض أن يكون مدخلا لتسوية أوضاعهم (مسار الديمقراطية والحرية) صار على العكس من ذلك سببا لمزيد من معاناتهم، وأن أولويتهم تغيرت بنحو كامل نحو المعاش والاستقرار عوض التطلع للحرية والديمقراطية.
والواقع، أن هذه الحجة نفسها ليست إلا أطروحة نسجتها النظم السياسية بناء على الإفادة من دروس الحراك الديمقراطي، وبشكل خاص على محورية الأزمة في تنمية الشعور الديمقراطي، وأن ما يحرض على الدمقرطة في العالم العربي، على الأقل في اللحظة الراهنة، لن يكون شيئا آخر بعيدا عن أجواء الأزمات الاقتصادية والاجتماعية، إذ في مثل هذه الأزمات، يتزايد شعور المواطن بأن المدخل لمعالجة المشكلة، لن يكون خارج الحل السياسي.
العشر سنوات الماضية، أو على الأقل التي سبقت جائحة كوفيد، كان يفترض فيها الاشتغال على تليين آثار الأزمة، والعمل على إنعاش الاقتصادات العربية، بالنحو الذي تنكمش فيه الفوارق، وتظهر مؤشرات توسع الشرائح المستفيدة من معدلات النمو.
الواقع العربي، لم يسر في اتجاه واحد، فهناك من اتجه نحو إحداث نوع من التكيف مع ضرورات الربيع الديمقراطي، سواء بإجراء إصلاحات سياسية (المغرب، الأردن) أو باستعمال ورقة التحفيز المالي (زيادة في رواتب) للفئات الفقيرة أو الفئات التي يفترض أنها يمكن أن تحرك الاحتقانات الاجتماعية (السعودية، البحرين، الجزائر…) وهناك من اتجه في مسار الدعاية لمشروع وبرنامج واعد للنهوض، يحل مشاكل البلد كلها (نموذج مصر السيسي) مع رفع مقولة «شرطية قوة الدولة وقهرها» وهناك من اتجه في مسار التوافقات السياسية على حساب بناء الاقتصاد التنافسي والتخفيف من المعاناة الاجتماعية (تونس) وهناك من اختار مرور العاصفة، واستقر على نماذجه السابقة، وهناك من لا يزال إلى اليوم، لا يعرف كيف يخرج من وضعية الاحتراب الداخلي، بسبب الخلافات بين مكوناته على ترتيب الوضع المؤسساتي والسياسي بالبلد، وبسبب دخول الفاعل الأجنبي والإقليمي على المعادلة (سوريا، اليمن، ليبيا، العراق).
استقراء المتجهات السياسية للعالم العربي، يفيد بأن مرحلة ما بعد القوى الإصلاحية أو القوى الإسلامية، استنفدت أغراضها في وقت قياسي، لسببين اثنين، الأول، أن أطروحة شيطنة الإسلاميين، واتهامهم بالمسؤولية عن تردي الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، لم تعمر طويلا، لأن وظيفتها فقط هي بناء شرعية نخب جديدة، أو بعبارة أدق، بناء شرعية النخب القديمة العائدة إلى السلطة، ولذلك، كان من الضروري بعد أن تتم عملية الإزاحة بشكل ناعم (كما في المغرب) أو قسري (كما في مصر) أو بشكل تدافعي (كما في تونس) أن يصير تقييم الشرعية مرتبطا بالانجاز ومدى القدرة على رفع المعاناة الاقتصادية والاجتماعية. والثاني، أن تداعيات أزمة كوفيد الاقتصادية والاجتماعية، وما تلاها بعد ذلك، من تداعيات أكثر قسوة مرتبطة بالحرب الروسية على أوكرانيا، لم تبق أي شرعية للنخب الجديدة، أو النخب القديمة التي بررت عودتها للتحكم في الوضع.
في أزمة كوفيد، اشتغلت الأنظمة السياسية العربية على مسارين: مسار سلب الحريات وتثبيت حضور الدولة، ومسار «الدعم الاجتماعي المحدود» ولم تبذل أي مجهود كبير في بناء خطابها السياسي، لأن الإعلام الدولي أعفاها من ذلك، وبيانات منظمة الصحة العالمية، كفتها هذه المؤونة.
مع تداعيات الحرب الروسية على أوكرانيا، بدت المسارات العربية متباينة إلى حد كبير، فهناك دول استفادت كثيرا من ارتفاع أسعار الطاقة (المصدرة للموارد الطاقية) فحققت وفرة مالية غير مسبوقة، وهناك في المقابل، دول أهلكتها الفاتورة الطاقية، وأكلت كثيرا من احتياطاتها النقدية الأجنبية.
هذا التباين في المسارات، لم يكن يعني بالضرورة تباينا في الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، فالاختلال في توزيع عائدات النمو، وفي الإفادة من الوفرة المالية، وارتفاع الأسعار، أدى إلى تهاوي القدرة الشرائية في العالم العربي برمته، وزاد من تعميق الأزمات الاجتماعية، وبروز بوادر احتقان شعبي، يصعب أن تتوقع اتجاهاته، خصوصا إذا تكرست أزمة الغذاء، وصار من الصعب الوصول إلى المواد الغذائية الأساسية.
الدول العربية، سواء منها دول الوفرة المالية، أو دول الندرة، تسارع الزمن وتشغل كل دينامياتها الدبلوماسية من أجل تحصيل مخزون مهم من الغذاء، يكفيها شر مواجهة السيناريوهات المجهولة، لكنها جميعا، لا تملك خيارات التحكم في الأسعار، ومواجهة التضخم، وحل مشكلة تهاوي القدرة الشرائية.
دول الوفرة المالية، قد تشغل منظومة الدعم، لحل جزء من المشكلة، لكن، ما يحول دون ذلك، هو بنية السلطة التي تأبى توسيع شبكة المستفيدين من هذه الوفرة، وتجد في خطاب الأزمة في العالم، وفي المقارنة مع ما يجري في الدول المتقدمة، حجة لتأمين الاستقرار.
تطرح المشكلة بشكل أكبر لدى دول الندرة المالية، لسببين اثنين، أولهما أن شرعية النخب الجديدة في السلطة، بعد إزاحتها للإسلاميين، قامت على النماذج «الواعدة» و«المنقذة» أو «المصححة للمسار» لكنها اليوم تجد نفسها غير قادرة حتى على الكلام وبذل الوضوح الكافي مع الجمهور، والثاني، أنها لن تكون قادرة على بذل وصفة من مدخل المعالجة الاقتصادية والاجتماعية، إلا أن ترتد من جديد إلى لغة الإصلاح السياسي.
ثلاث دول عربية أطلقت مبكرا مبادرات حوار وطني داخلي، مصر، وتونس، والجزائر. ومع أن كل واحدة منها ترتبط بسياقها، إلا أن ما يجمعها هو الوعي بأن الجواب عن تحديات المرحلة القادمة لن يكون خارج خيارات الإصلاح السياسي العميق.
في السابق، كان الفاعل الأجنبي يوفر للدول العربية خيارات مهمة للمناورة ونسج التحالفات، مع الثورة وضدها، ومع الإصلاحيين وضدهم، لكن، اليوم الوضع تغير بشكل كامل، فالفاعل الأجنبي نفسه، صار غير قادر على تحمل تكاليف حضوره في أجواء التوتر السياسي أو أجواء الصراعات الإقليمية والدولية (نموذج فرنسا في مالي) كما أن سلاح الضغط الاقتصادي والمالي الذي كان يستعمله الفاعل الأجنبي لم يعد مؤثرا بفعل أزماته الاقتصادية الداخلية، هذا فضلا عن تغير خارطة الولاءات والاصطفافات العربية التي فرضها الموقف من الحرب الروسية على أوكرانيا، فقد اختارت أغلبية الدول العربية وضعية الحياد، واختار بعضها مناكفة الولايات المتحدة الأمريكية لحسابات إقليمية.
استمرار مؤشرات الوضعية الحالية، يؤشر إلى قرب اندلاع حراك شعبي في الدول العربية، لاسيما في دول الندرة، بل وحتى في دول الوفرة التي ترفض بنية السلطة فيها توسيع دائرة المستفيدين من عائدات النمو.
المتغيرات التي حصلت على مستوى الفاعل الأجنبي وتغير خارطة العلاقات الدولية، ستكون بدون شك عوامل حاسمة في حساب السيناريوهات القادمة في العالم العربي، واستمرارها على التنامي في نفس الاتجاه، يؤشر على أن الربيع العربي القادم سيأخذ شكلا مختلفا، وأن أدنى تأخير في طرح الجواب السياسي، سيعرض المنطقة لزلزال عنيف يصعب توقع آثاره.
* كاتب وباحث مغربي
المصدر: القدس العربي
التعليقات مغلقة.