أمجد أحمد جبريل *
بعد حرب 1967، حدث تحوّلٌ واضحٌ في مسار الصراع العربي الإسرائيلي، بسبب عامليْن متداخليْن؛ أحدهما بروز مكانة إسرائيل وأهميتها الوظيفية في الاستراتيجية الأميركية، إلى حدّ إبرام تحالف استراتيجي معها، ظلَّ الأقوى والأوثق، على مدار العقود الستة الماضية، مقارنةً بأية تحالفات أخرى في إقليم الشرق الأوسط، سواء كانت تحالفات إقليمية أم دولية. والآخر تغيّر “الإدراك الرسمي العربي” لإسرائيل وطبيعة الصراع معها، ما أدّى إلى انعطاف مصر الساداتية أولًا (ثم أغلب النظم العربية تدريجيًّا)، نحو عملية التسوية/ التطبيع التي احتكرت واشنطن تصميمها وإدارتها وتوظيفها، لتحقيق معظم أغراضها الاستراتيجية في المنطقة، خصوصًا إدماج حليفها الإسرائيلي في نسيج المنطقة، بما يحفظ أمن دولة الاحتلال، ويضمن بقاءها وتفوّقها وتحصيلها “الشرعية الإقليمية” تدريجيًّا، في مقابل إضعاف الأطراف والأطر العربية والإقليمية، بغية تجريد الشعب الفلسطيني من أي دعمٍ عربي أو إقليمي، يمكن أن يساعده في نضاله التحرّري.
وبغية تحليل مآلات التسوية مع إسرائيل، بعد 55 عامًا من هزيمة 1967، تستعرض هذه المطالعة فلسفة التسوية السلمية ومحورية العامل الدولي/ الأميركي فيها، ثم تعرّج على تداعيات الهزيمة، فلسطينيًّا وعربيًّا، وتختم بآفاق الصراع العربي الإسرائيلي ومآلات عملية التسوية.
في فلسفة التسوية ومحورية العامل الأميركي:
على الرغم من كثرة مشروعات/ أفكار التسوية التي جرى طرحُها بخصوص قضية فلسطين، (سواء بعد نكبة عام 1948، أم بعد هزيمة 1967، أم بعد أزمة الخليج الثانية 1990/1991، أم قبيل احتلال العراق ربيع 2003)، فإنها لم تشكّل سوى تعبير عن إرادة القوى الدولية المهيمنة، خصوصًا الولايات المتحدة التي تروّج التسوية خدمةً لمصالحها، واستثمارًا لأوضاع الضعف الرسمي العربي البنيوي، الناجم، في معظمه، عن إشكالات الدولة الوطنية في العالم العربي، التي تحوّل كثير منها، بمرور الوقت، إلى “دولٍ شبه فاشلة”، تعاني أزماتٍ في “شرعيتها” الداخلية، ما يدفعها إلى التركيز على تحصيل “شرعية خارجية”، أو دعم دولي للاستمرار في السلطة.
وعلى الرغم من أهمية البعديْن، الفلسطيني والعربي، في مسار قضية فلسطين وتطوراتها، فإن البعد الدولي، (خصوصًا في مراحل/ مفاصل تغير هيكل النظام الدولي، وتبدّل علاقات القوة وتوازناتها)، قد انعكس بوضوح على فلسطين والمنطقة العربية؛ “فالقضية الفلسطينية ربما لا تشبه، من حيث اتساع حيثياتها الدولية وكثافتها، أية قضيةٍ وطنيةٍ أخرى في التاريخ الحديث؛ إذ لا توجد قضية وطنية تأثّرت، ولا تزال، بالأحداث الدولية، كما تتأثّر قضية الشعب الفلسطيني” [1].
في هذا السياق، ثمّة من يرى أن القوى الرأسمالية (سيما بريطانيا، ثم أميركا)، قد سعت إلى توظيف ثلاثة أمور لاختراق العالم العربي وإقليم الشرق الأوسط إجمالًا؛ النفط، والصراع العربي الإسرائيلي، وتشتيت القوى المحلية وإضعافها [2].
ولعل هذا يؤكّد أن إسرائيل هي “كيان وظيفي” ذو امتداد دولي، تمّ زرعه في المنطقة العربية، بإرادة خارجية؛ إذ إن صياغة وعد بلفور وإصداره عام 1917 عكسا جهدًا بريطانيًّا أميركيًّا مشتركًا؛ إذ تأخرّت واشنطن في توقيع موافقتها على صك الانتدابين البريطاني والفرنسي (على فلسطين والأردن وسورية ولبنان)، سنتين، ولم توقعه إلا بعد أن حصلت من لندن وباريس على حقوق اقتصادية متساوية معهما في المشرق العربي [3]. وعلى الرغم من إعلان الرئيس الأميركي، ودور ويلسون، مبادئه الأربعة عشر، بشأن “تقرير المصير” للشعوب الواقعة تحت الاحتلال الأجنبي (8 يناير/ كانون الثاني 1918)، فقد نجح القاضي والسياسي الأميركي اليهودي، لويس براندايس، في إقناع ويلسون بدعم وعد بلفور، فضلًا عن المساهمة في إقناعه بدخول الحرب العالمية الأولى إلى جانب الحلفاء [4].
ثم جاءت نكبة فلسطين عام 1948 وما شهدته من تدخلات ووساطات دولية كثيرة، أفضت إلى فرض الهدنة أكثر من مرّة، ما يؤكّد حقيقتين؛ إحداهما دعم الدول الكبرى ترسيخ أسس الدولة الإسرائيلية، وتمكينها من تحقيق مكاسب مهمة، على حساب الفلسطينيين والعرب [5]. والأخرى تزايد النفوذ الدولي للحركة الصهيونية ودبلوماسيتها النشطة، في حشد الأنصار داخل أروقة الكونغرس الأميركي وحزب العمال البريطاني، في مقابل إخفاق الزعيم الفلسطيني، الحاج أمين الحسيني، في تعبئة المنظومة السياسية المشتتة، ناهيك عن الانتقال بالحركة الوطنية إلى مرحلة جديدة، والقدرة على التأثير على الصعيد الدولي، سيما التصدّي لتزايد الهجرة اليهودية إلى فلسطين بعد مؤتمر بلتيمور عام 1942 [6].
وعلى الرغم من ذلك، لم تستطع الحركة الصهيونية تحقيق إجماع إقليمي ودولي حول القضية الصهيونية أو “شرعيتها”، ولا استغنت، في أي لحظة، عن مستوياتٍ مرتفعة من الدعم الدولي الخارجي عمومًا، والغربي خصوصًا، ولا نجحت في إقناع أغلبية يهود العالم بالهجرة إليها وترك أوطانهم الأصلية، على الرغم من امتلاك إسرائيل نموذجًا للتعامل الدولي يتسم بالتخطيط طويل الأجل، والتحديد الدقيق للأهداف، والثبات على الأهداف الاستراتيجية ومرونة الوسائل والتكتيكات، والمأسسة، والقدرة اللافتة على بناء التحالفات الخارجية دوليًّا وإقليميًّا، وتوزيع أدوات تنفيذ السياسة الخارجية وتنويعها، والمرحلية والتدرّج ومراكمة المكاسب والإنجازات [7].
في المقابل، ثمّة من يرى أن مفهوم “الدفاع السلبي” قد سيطر على الفكر الاستراتيجي العربي بين العدوان الثلاثي على مصر 1956 وحرب 1967، ما أدّى إلى أن تكون الأخيرة وكأنّها ثلاثة حروب منفصلة، وقعت في أسبوع واحد، في ثلاث جبهاتٍ منفصلة؛ إذ لم تمتلك القيادة الموحدة على مستوى جامعة الدول العربية، المفترض أن تشرف على التنفيذ، من أمر القوات العاملة في مسرح الحرب شيئًا؛ فغابت تلك القيادة وشلّتها الخلافات البينية وعدم الثقة، في مقابل بروز إسرائيل قوة عسكرية حديثة استطاعت (بفضل عوامل: التقدّم التقني، ووحدة العمل العسكري، ووحدة القيادة والتماسك، وحشد الطاقات، والتخطيط العلمي للحرب على مدار عشر سنوات) أن تحتلّ، في حرب خاطفة، أراضيَ تبلغ ثلاثة أضعاف مساحتها (سيناء، وهضبة الجولان، والضفة الغربية وقطاع غزة) [8].
في التداعيات: ثقافة الهزيمة وسياسة التطبيع
على الرغم من مرور 55 عامًا على تلك الحرب، فقد استمرّت بعض تداعياتها السياسية والاستراتيجية والمعنوية والإدراكية، ربما حتى يومنا هذا؛ إذ كانت “أكبر إخفاق عسكري عرفه العرب في تاريخهم الحديث، بحيث يمكن الحديث عمّا قبل حرب 1967 وما بعدها، ما يؤكّد استمرار أهمية دراستها وإعادة تناولها وتقديم قراءة تحليلية، وصياغة سردية عربية بشأنها، من منظور العلوم السياسيّة والعلوم العسكرية، وبأدواتهما” [9]. ويمكن إيجاز تداعيات هزيمة 1967 في الآتي:
1-“تغيير مواقف الدول العربية الأساسية تجاه إسرائيل، لكنها أدّت، في الوقت نفسه، إلى تعقيد عملية التسوية من خلال ربطها بالتنافس بين القطبين الأميركي والسوفياتي. كما أفسحت الحربُ المجالَ فترة من عدم الاستقرار الداخلي في دول المواجهة الأربع (مصر وسورية والأردن ولبنان)، لكن ذلك شجّع على مزيدٍ من التخلي عن “منطق الثورة”، والتركيز أكثر على “منطق الدولة” ومصالحها، على حساب الالتزام الخطابي بالوحدة العربية وبالقضية الفلسطينية” [10].
بيد أن الأهم هو انعكاسات/ مآلات تغيّر أغلب السياسات العربية تجاه فلسطين؛ إذ باتت تتّخذ منحىً شديد “البراغماتية” بحيث أصبح صانع القرار العربي يضع علاقاته مع واشنطن وتل أبيب في مقدّمة أولوياته، بغض النظر عمّا يلحق بقضية فلسطين من تهميش أو تدهور، بسبب تزايد الانتهاكات الإسرائيلية [11]. وثمّة أمثلةٌ عديدةٌ لتناقضات الخطاب الرسمي العربي تجاه فلسطين، تكشف الفجوة بين “التشدّد الخطابي/ اللفظي” العربي و”البراغماتية السياسية” التي تتجلّى في تهافت السلوك العربي في التطبيع والتسوية مع إسرائيل.
2- أثّر عدوان 1967 على إدراك بعض القيادات السياسية العربية ودشّن حقبةً من التراجعات السياسية/ الإدراكية التي ظهرت تدريجيًّا حتى تكشّفت تمامًا بعد أقل من عشر سنوات؛ فقد “انحصر هدفُ الرئيس جمال عبد الناصر بعد الحرب في “إزالة آثار العدوان”؛ إذ بات يَنظر إلى الصراع العربي الإسرائيلي بوصفه نزاعًا بين دول، وليس بوصفه حالةً استعمارية يجب تصفيتها، كما كان الحال قبل العدوان. وكان هذا التحوّل أكثر من واضحٍ في قبوله، في نوفمبر/ تشرين الثاني 1967، قرار مجلس الأمن رقم 242، والذي جَمَعَ بين النصّ على انسحاب إسرائيل من الأراضي التي احتلتها في يونيو/ حزيران 1967 وحقّ جميع دول المنطقة، في العيش داخل حدودٍ دائمة وآمنة ومعترفٍ بها” [12].
3- تحجيم دوريْ مصر ورئيسها جمال عبد الناصر، على حد سواء؛ فقد كان المصدر الحقيقي للزعامة المصرية على الصعيد العربي هو القوة العسكرية، وهو مصدر فَقَدَ أهميته بالتدريج بعد بداية عملية فكّ الارتباط بين مصر وإسرائيل بعد حرب 1973، خصوصا بعد تفاقم الأزمة الاقتصادية المصرية في تلك الأثناء. أما الرياضُ فقد عملت على تدعيم الوضع الذي نشأ بعد عام 1967، عبر استخدام الثروة والنفوذ السياسي الناجم عنها لتحقيق هدفين؛ أحدهما ترطيب العلاقات العربية البينية، والآخر الحفاظ على حدٍّ أدنى من التضامن العربي، سيما بين الرياض والقاهرة ودمشق. وهكذا اكتسبت السعوديةُ دورها بوصفها وسيطًا رئيسًا أو حَكَمًا، في الصراعات العربية – العربية، في أغلب عقد السبعينيات، قبل أن يلقي الرئيس أنور السادات ذلك كله خلف ظهره، ويحسم توجّه بلاده نحو التسوية مع إسرائيل [13].
4- تفكيك الموقف العربي من إسرائيل وإضعافه، على الرغم من اللاءات الثلاث التي رفعتها القمة العربية في الخرطوم أغسطس/ آب 1967؛ فقد “غرست الهزيمةُ بذورَ الشقاق بين القيادة المصرية ومنظمة التحرير الفلسطينية؛ إذ جرى إدخال تعديلٍ جوهريٍّ في الإدارة العربية للصراع مع إسرائيل، عبر التمييز بين مرحلتين؛ مرحلة إزالة آثار عدوان 1967، ومرحلة لاحقة يمكن خلالها البحث في مسألة الحقوق الفلسطينية؛ ما يعني أن قبول مصر بالقرار رقم 242 كان بداية الخلاف العلني بين القاهرة والمنظمة، وهو الأمر الذي تعمّق أكثر فأكثر بعد حرب 1973، وصولًا إلى تفرّق السبل تمامًا بين الطرفين، بعد زيارة أنور السادات القدس المحتلة وخطابه أمام الكنيست الإسرائيلي 1977 [14].
5- من أخطر تداعيات هزيمة 1967 ما يتعلق بارتدادتها النفسيّة والثقافيّة على العرب في مواجهة آلة الحرب الإسرائيلية المدعومة أميركيًّا؛ فقد حرصت الدعاية الصهيونية على القيام بعملية “تسميم سياسي” للثقافة العربية، عبر تقديم القيم المرتبطة بالتنمية الاقتصادية، وتأخير القيم التي تحضّ على المقاومة واستعادة الحقوق، وهكذا يصبح التعاون السياسي والاقتصادي مع إسرائيل سبيلًا للتنمية والازدهار، ويصبح التخلّي عن الثوابت السياسية العربية، نوعًا من “الواقعية السياسية”. وقد ترك هذا المنطق الدعائي أثرًا واضحًا على الإدارة العربية للصراع مع إسرائيل [15]، كما ظهر خصوصاً بعد تولّي السادات رئاسة مصر.
6- فلسطينيًّا، تركت الهزيمة آثارًا مركّبة تتراوح بين الإيجابية والسلبية؛ إذ انشغل “الفدائيون الفلسطينيون، بضعة أشهر، بمشروع طموح جدًا؛ تركيز النضال الوطني فوق التراب الفلسطيني، وبالتالي وضع حجر الأساس لكيان فلسطيني مستقل. واعتبرت حركة فتح، بوجه خاص، أن “الحجز العربي” انتهى، حيث أتيحت للمرة الأولى لشعب فلسطين منذ 1948 أن يعيش مرحلةً جديدة في كفاحه ليلتقط قضيته بيده. وكان لفشل الفدائيين في تحقيق مشروعهم الطموح هذا تأثيرات بعيدة المدى، فقد انتقل مركز الثقل في المشروع الوطني الفلسطيني إلى المنفى، وانتقل معه مقرّ النشاط السياسي والاجتماعي والقيادة العسكرية وصنع القرار وبناء المؤسّسات. وأُهملت استراتيجيات المقاومة المدنية والتعبئة الجماهيرية في الأراضي المحتلة، الأمر الذي همّش دور الناشطين السياسيين المحليين والقوى الاجتماعية المحلية في مجال اتخاذ القرار الفلسطيني. ولم يجرِ تعديل كفة الميزان، إلا عند اندلاع انتفاضة 1987، أي بعد عشرين عامًا” [16].
آفاق الصراع ومآلات عملية التسوية:
أبرزت حرب 1967 مدى سطوة العامل الدولي/ الأميركي، ودعمه المتصاعد السياسات الإسرائيلية الرامية إلى إضعاف العامليْن العربي والفلسطيني في الصراع العربي – الإسرائيلي. وعلى الرغم من بروز دور الفصائل الفلسطينية ومنظمة التحرير بضع سنوات في مقاومة إسرائيل بعد هزيمة 1967، فإن هذا البعد الفلسطيني لم يستطع الاستمرار في مقارعة الضغوط الأميركية/ الإسرائيلية طويلًا، لا سيما بعد تزايد رغبة القيادة الفلسطينية بعد عام 1974 في التكيّف مع أفكار التسوية، عبر طرح برنامج النقاط العشر (البرنامج المرحلي، قبول فكرة قيام سلطة فلسطينية على أي جزء يتم تحريره من الأراضي الفلسطينية).
لقد استخدم التحالف الأميركي/ الإسرائيلي، ولا يزال، مشروعات التسوية/ التطبيع لإبقاء الوضع القائم في المنطقة العربية لمصلحة دولة الاحتلال، بما يضمن تفوّقها العسكري على البلدان العربية مجتمعةً. كما احتكرت واشنطن رعاية التسوية، بغية إبعاد أية قوة دولية أخرى عنها، ولم تكن بالتالي مستعدّة لقبول أطر للسلام لا تكون نابعة من الولايات المتحدة نفسها؛ فالسياسة الأميركية تجاه الصراع العربي – الإسرائيلي منذ 1967، عكست إصرارها على أن تكون “صانع السلام الأوحد”، رغم أنها كانت ولا تزال الحليف الأقوى لإسرائيل؛ فالدبلوماسية الأميركية (تعاظمت هيمنتها على المنطقة العربية في أثناء الحرب الباردة 1947-1989)، كانت خلف إفشال كل المبادرات الدولية والجهود الإقليمية ومبادرات السلام، التي رعتها هيئة الأمم المتحدة أو غيرها من الأطراف الدولية أو العربية [17].
ويُلاحظ، في هذا السياق، أنه كلّما تآكلت المتطلّبات اللازمة لبلوغ حل لقضية فلسطين تتزايد مشاريع الحلول الدولية والمبادرات السياسية، “فمنذ سنة 1967، يدور نقاشٌ صاخب بشأن شروط التسوية بعد الهزيمة، في مدٍّ وجزر يتلاءمان تلاؤمًا عكسيًّا مع عوامل القوة العربية” [18]؛ إذ شجّعت التراجعات العربية على تصاعد سياسات تهويد القدس واستيطان الضفة الغربية. ومن “اللافت بين 1967 و1979 أنه كلّما انجذب الموقف العربي الرسمي لمنطق التسوية السلمية ازداد تجرّؤ الحكومات الإسرائيلية على تغيير الواقع القائم في القدس، انتهاكًا لاتفاقيات جنيف واستخفافًا بقرارات الأمم المتحدة، وكذلك كلما زاد الدعم الأميركي لهذه السياسة الإسرائيلية العدوانية” [19].
وربما يمكن اختصار مآلات عملية التسوية العربية الإسرائيلية بعد 55 عاما من هزيمة يونيو/ حزيران في نجاح إسرائيل، إلى حدٍّ كبير، في حصر الصراع العربي الإسرائيلي كله في مسألة “أمن إسرائيل”؛ إذ أدّت التسوية إلى تشتيت الطاقات العربية واستنزافها والانتقاص من شرعية “الإطار العربي”، عبر فرض أربعة شروط إسرائيلية: تجزئة التسوية، تحييد الأطراف العربية القوية عسكريًّا، تحصيل إسرائيل مزيدًا من “الشرعية الإقليمية”، نزع الشرعية عن قضية فلسطين والمقاومة، تغيير مكونات وقيم العقل الجماعي العربي، ليرضخ للتفسير الصهيوني للتاريخ، ويبتعد عن ثقافة المقاومة والكرامة، لكي يحصل العرب على “التنمية والازدهار والسلام” ويتبنّوا “ثقافة السلام”. رفض إسرائيل التعامل مع أي نظام إقليمي في المنطقة، ما لم تكن عضوًا أصيلًا في تفاعلاته؛ بمعنى تغيير خريطة التفاعلات العربية عبر إدماج إسرائيل في نسيجها، وفرض “السلام الإسرائيلي” الذي يعني سلام المنتصرين على المنهزمين [20].
وثمّة من يرى أن “التوجه الأمني الإسرائيلي يقوم على أن العرب لم يسلّموا بوجود إسرائيل. وبالتالي، فإن هناك حاجة دائمة لإقناعهم بالحرب، أو على الأقل للاستمرار في استخدام القوة؛ فلا خيار أمام إسرائيل سوى أن تكون في حالة تأهّب كامل للحرب، وأن تخوض الحرب إذا لزم الأمر لإجهاض أي مخطط عربي لشنِّ الحرب؛ فالنـزعة الأمنية الإسرائيلية تعني هيمنة القيم العسكرية على الحياة السياسية والاقتصادية في إسرائيل، وهي تمثل جزءًا من عملية بناء الأمة” [21]. وإذا كانت مآلات عملية التسوية كرّست إسرائيل فاعلًا إقليميًّا محوريًّا في الشرق الأوسط، فقد أنهكت كلّ الأطراف العربية، وأوجدت تضاربًا/ تنافسًا بين المسارات التفاوضية، على نحوٍ أفضى إلى تعزيز “التبعية العربية” لأميركا وأوروبا، ونجاحهما في إعادة دمج إسرائيل في المنطقة، ومساعدتها على قطف ثمار التسوية والتطبيع من دون أن تقدّم أية “تنازلات” أو التزامات بالحقوق الفلسطينية، غير القابلة للتصرف.
وعلى الرغم من إشارة بعضهم إلى وجود “نموذج ناجح” للتسوية في الحالة المصرية، والتذرُّع بتحرير شبه جزيرة سيناء من قبضة الاحتلال الإسرائيلي (في مقابل إخفاق النظام السوري في تحرير هضبة الجولان، عسكريًّا أو تفاوضيًّا)، والزعم بقدرة الرئيس السادات على إدارة تحوّل السياسة الخارجية المصرية بعيدًا عن إرثها الناصري، ثم نجاح الرئيس حسني مبارك في دفعها نحو مزيدٍ من التوازن في تحالفاتها الخارجية، والقدرة على جذب المساعدات المالية والاستثمارات الخارجية لتحسين الأوضاع الداخلية المصرية [22]، فإن تحليل مآلات العلاقات المصرية الإسرائيلية، لا يفيد بوجود نجاحاتٍ حقيقيةٍ في تحجيم الخطر الإسرائيلي على مصر، سواء فيما يتعلق بتردّي أوضاع شبه جزيرة سيناء، أم بانكفاء الدور المصري عربيا وأفريقيًّا في مقابل تعاظم الدور الإسرائيلي في أفريقيا، وتأثيره على سياسات أثيوبيا في سد النهضة، التي تشكل تهديدا حقيقيا للأمن المائي المصري، ناهيك عن تحقيق إسرائيل كثيرا من “المزايا النسبيّة” من عملية التسوية أكبر بكثير من الطرف المصري، سواء على صعيد حصول تل أبيب على مساعداتٍ اقتصادية وعسكرية، أم توطيد علاقاتها السياسية مع واشنطن، أم تأكيد محورية دورها في الاستراتيجية الأميركية تجاه الشرق الأوسط.
وبغض النظر عن حجج المدافعين العرب عن التسوية والتطبيع مع إسرائيل، ليست التسوية سوى مرحلة يمرُّ بها هذا الصراع الاجتماعي الممتد، الذي اتخذ، في الماضي، أشكالًا عدة، ولا يزال يتطوّر في صور أخرى. أما تصوير التسوية بأنها تحتوي هذا الصراع بكل أبعاده فهو خطأ في الرؤية الفكرية والسياسية والتاريخية والحضارية، وهو انزلاقٌ نحو النهج البراغماتي الأميركي الذي يتعامل مع الواقع المباشر من دون اعتبار لأثر الماضي الذي أحدثه، وتأثير ذلك على المستقبل؛ إذ لا يمكن فهم هذا الصراع بهذه المقاييس العملية/ البراغماتية، ناهيك عن أن موازين القوى المادية الراهنة تبقى قابلة للتغير [23].
يبقى القول إن مآلات التسوية والتطبيع مع إسرائيل تؤكّد أهمية البحث عن مقارباتٍ/ استراتيجيات فلسطينية/ عربية جديدة، تناسب المتغيرات الإقليمية والدولية، خصوصًا مع احتمال تحوّل الصراع العربي الإسرائيلي إلى “صراع شعوب وإرادات”، بعد الفشل العربي الرسمي في إدارة الصراع مع إسرائيل، ما يعني مرحلةً جديدة في معركة الفلسطينيين والعرب الطويلة، نحو الحرية والعدالة والعيش الكريم.
……………..
المراجع:
[1] – عزمي بشارة، الانتفاضة والمجتمع الإسرائيلي: تحليل في خضم الأحداث، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 2002، ص 221-222.
[2]- Raymond Hinnebusch, The International Politics of the Middle East, Manchester: Manchester University Press, 2003, pp. 14- 15.
[3] – عبد الوهاب محمد المسيري، موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية، مجلد 7 (إسرائيل: المستوطَن الصهيوني)، دار الشروق، القاهرة، 1999، ص 17.
[4] – إلياس شوفاني، الموجز في تاريخ فلسطين السياسي (منذ فجر التاريخ حتى سنة 1949)، مؤسسة الدراسات الفلسطينية، بيروت، ط 3، 2003، ص 354- 359.
[5] -هيثم الكيلاني، الاستراتيجيات العسكرية للحروب العربية الإسرائيلية 1948- 1988، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 1991، ص 154- 155.
[6] – سميح فرسون، فلسطين والفلسطينيون، ترجمة: عطا عبد الوهاب، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 2003، ص 177- 185.
[7] – محمد خالد الأزعر، “الحركة الصهيونية .. خبرة التعامل الدولي”، مجلة البحوث والدراسات العربية، العدد 28، ديسمبر/كانون الأول 1997، ص 53-59.
[8] – هيثم الكيلاني، مصدر سابق، ص 277.
[9] – عزمي بشارة، “ما قبل حرب 1967 وما بعدها: كي لا يتجنب النقدُ النقدَ”، سياسات عربية، العدد 26، مايو/أيار2017، ص 7.
[10] – يزيد صايغ، الكفاح المسلح والبحث عن الدولة: الحركة الوطنية الفلسطينية 1949-1993، مؤسسة الدراسات الفلسطينية، بيروت 2002، ص 229.
[11] – سميح فرسون، مصدر سابق، ص 33- 34.
[12] – أحمد يوسف أحمد، “تآكل الدور المصري في النظام العربي”، الدراسات الفلسطينية، العدد 71، صيف 2007، ص 63- 64.
[13] – يزيد صايغ، “أزمة الخليج وإخفاق النظام الإقليمي العربي”، المستقبل العربي، العدد 149، يوليو/تموز 1991، ص 6.
[14] – حسن نافعة، “العلاقة المصرية الفلسطينية: رؤية تحليلية”، الدراسات الفلسطينية، العدد 29، شتاء 1997، ص 38- 39.
[15] – حامد عبد الله ربيع، الدعاية الصهيونية، معهد البحوث والدراسات العربية، القاهرة، 1975، ص 168.
[16] – يزيد صايغ، الكفاح المسلح والبحث عن الدولة: الحركة الوطنية الفلسطينية 1949-1993، مصدر سابق، ص 268.
[17] – نصير حسن عاروري، أمريكا الخصم والحكم: دراسة توثيقية في “عملية السلام” ومناورات واشنطن منذ عام 1967، ترجمة وتقديم: منير العكش، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت 2007، ص 45.
[18] – عزمي بشارة، “القضية الفلسطينية في المرحلة الراهنة”، الدراسات الفلسطينية، العدد 6، ربيع 1991، ص 38.
[19] – أحمد صدقي الدجاني، الخطر يتهدد بيت المقدس، مركز الإعلام العربي، القاهرة، 2000، ص 120-121.
[20] – مجدي حماد، السادات وإسرائيل: صراع الأساطير والأوهام، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 2019، ص 551- 555.
[21] – عزمي بشارة، من يهودية الدولة حتى شارون: دراسة في تناقض الديمقراطية الإسرائيلية، دار الشروق، القاهرة، 2005، ص 95- 131.
[22] – Ali E. Hilal Dessouki,”Regional Leadership: Balancing off Costs and Dividends in the Foreign Policy of Egypt”, in: Bahgat Korany and Ali E. Hilal Dessouki (Edit), The Foreign Policies of Arab States: The Challenge of Globalization, The American University in Cairo Press, 2008, pp.167-169.
[23] – هيثم الكيلاني، “العرب والصهيونية والقرن الحادي والعشرون”، شؤون عربية، العدد 100، ديسمبر/ كانون الأول 1999، ص 64.
ــــــــــــــــــــــــــــ
* باحث فلسطينيّ مُتخصِّص في الشؤون العربية والإقليمية
المصدر: العربي الجديد
التعليقات مغلقة.