نيفين مسعد *
انفضّ مولد سيدي الكتاب كما يقول “توماس جيرجسيان”، انتهى أسبوعان من أمتع أسابيع العام، فالتسكّع بين عناوين الكتب لا ينقلك فقط من دار نشر لأخرى لكنه ينقلك من بلد لآخر دون حاجة بك إلى تأشيرة دخول ولا حتى إلى اختبار الكورونا، فالكتب أحّن كثيرًا من البشر.
يختلط الشامي بالمغربي، يعَيشك يرادفها بالصحة والراحة، وأهلًا وسهلًا ترادفها أهلين أو مرحبًا، حلوة هذه الأجواء. في اليوم الأخير للمعرض كانت هناك احتفالية خاصة بمئوية كارم محمود أو الكروان كما اعتادوا أن يلقبّوه، شكرًا للطيور التي لا تبخل علينا بأسمائها وتسمح لنا بأن نستعيرها لنعبّر عن حبنا الكبير لمغنين عظام، فهذا عندليب وذاك كروان وتلك شحرورة.
كارم محمود نفسه مثّل شخصية زرياب في أوبريت غنائي مع فيروز عام ١٩٥٦، وزرياب هو اسم طائر عذب الصوت جدًا يُطلق على كل مَن كان له مثل عذوبة صوته، وفي هذا الأوبريت تقول لمياء/فيروز لزرياب/كارم محمود “آه يا زرياب كم أطربتنا.. آه لو تبقى طويلًا عندنا”، فيرّد عليها قائلًا “أنا لا أبقى طويلًا في مكاني.. كل يوم لي في أرض أغاني، أنا كالطائر يشدو ثم يمضي.. ليغنّي من جنان لجنان”، تعود تتدلل عليه وتسأل “ولم الترحال دومًا؟” فيجيبها “إنني أرحل في إثر الأماني.. فإذا وقف المنشد يومًا صار مغمورًا وخانته المعاني”. الله ..الله إلى جانب المبارزة بالمتعة الصوتية لفيروز وكارم محمود، هناك مبارزة لا تقل إمتاعًا بالكلمات والمعاني، فزرياب يلفتنا إلى أن سكون المنشد وثباته في مكانه إنما يعجزه ويلجلجه ويخذله، أما التطاير بين الفروع والأغصان فإنه هو الذي يستولد الإبداع. وستمضي أعوام كثيرة قبل أن يكتب الرائع صلاح چاهين تنويعًا على الارتباط الوثيق بين الفن والحرية فيقول في إحدى رباعياته المدهشة “يا عندليب ما تخافش من غنوتك.. قول شكوتك واحكي على غنوتك، الغنوة مش حاتموتّك إنما.. كتم الغنى هو اللي حايموتك! عجبي“.
كثيرون بيننا لا يعرفون أن كارم محمود غنّى مع فيروز فالمعلومة على أهميتها ليست شائعة، وكثيرون ممن عرفوها قد يستغربونها فكارم له مجاله كما أن لفيروز مجالها، لكنهما متقاطعان على نقاط كثيرة منها حبهما للمسرح الغنائي بل إن البدايات المبكرة جدًا لكارم محمود وهو مازال تلميذًا في المرحلة الابتدائية في دمنهور، هذه البدايات كانت من خلال المسرح الغنائي المدرسي. ترّن في أذني جملة المسرح الغنائي المدرسي في ثلاثينيات القرن الماضي، ويا له من رنين.
- • •
استضافت ندوة معرض الكتاب السفير محمود كارم ابن الفنان الكبير كارم محمود، وشارك فيها الناقدان زين نصّار وأشرف عبد الرحمن ومديرة ملتقى الهناجر ومؤلفة كتاب “أمانة يا ليل” ناهد عبد الحميد، وأدارت الندوة الصحفية الشاطرة نسمة تليمة. قيل كلام جميل عن هذا الصوت القوي الواعي والمسكون بألفةٍ شديدة تجعلك تشعر أن صاحبه منك وعليك، حتى إذا غنّى لجارته التي يحبها وتسكن دارًا قصاد داره، ودعا على البنّا لأنه لم يجمعه بحبيبته في دار واحدة فإنك لن تملك إلا أن تشاركه الدعاء على هذا البنا الذي لا تأخذه شفقة بالعشاق!، أو إذا غنّى لحبيبته عيني بترّف يا حبة عيني ياللي سرقتِ النوم من عيني، فإنك ستجد نفسك تلقائيًا تكمل جملته: خير ان شالله ده بُعدك والله ده كان على عيني.. على عينيييي (https://www.youtube.com/watch?v=M1QzSoOJfSE).
إنه مطرب سليم النطق، مخارجه واضحة، قرن الموهبة بالدراسة، وتسللت في چيناته بعض حلاوة صوت الأب، فكانت تمضي عليه وأخيه ليال ينشدان فيها الأناشيد الدينية ويتساندان، وذلك من قبل أن ينضج وتتبلور في ذهنه صورة المستقبل الذي يريد: المطرب فلان الفلاني. لكنه ليس مجرد مطرب، فهو الملحن لنفسه ولغيره، وهو الممثل الذي احترف التمثيل في الإذاعة والسينما والمسرح، ومسألة التمثيل الإذاعي هذه كانت قبل اختراع التلڤزيون تلعب دورًا مهمًا جدًا في إثارة الخيال، بحيث يمكن القول إن وصف “صورة غنائية” الذي كان يُطلَق على الأعمال الغنائية الإذاعية إنما كان وصفًا صحيحًا تمامًا لأنه كان يجعل المستمع يرى بأذنيه وهذا قمة الصدق في التقمص والتعبير. وسيظل كارم محمود أحد أكثر مَن أغنوا فن الأوبريت المرئي والمسموع على حد سواء، هذا الفن الذي انقرض في مصر في ظروف غامضة.
- • •
نأتي للحس السياسي لكارم محمود، وفيه كثير يقال لأنه كان فنانًا صاحب رأي وموقف، لم يحبس نفسه داخل قفص موهبته ولم ينعزل عن التطورات السياسية في محيطه المصري والعربي، وشاءت الأقدار أن تكون المرحلة التي عايشها مرحلة زاخرة بأحداث جسام، فقد كانت دول العالم الثالث تموج بحركات التحرر الوطني، ومصر في طليعة القوى التقدمية الداعمة لتلك الحركات، وكان هو جزءًا من هذا السياق. حيّا كارم محمود نضال شعوب المغرب العربي وهي تكافح لنيل استقلالها من الاستعمار الفرنسي، وعندما اختطفت فرنسا خمسة من زعماء المقاومة الوطنية الجزائرية غنّى لهم أغنيته الشهيرة “باسم الأحرار الخمسة حانقيدك نار يا فرنسا”، وضمير نحن في هذه الجملة وضع كارم محمود مباشرة في قلب الأحداث وكان على استعداد تام لدفع الثمن.
اعتقلته السلطات الفرنسية وهو في جولته المغاربية وظل ستة أشهر لا تعلم أسرته عنه شيئاً حتى ظنت أنها فقدته إلى الأبد، لكنه عاش وغنّى واحتفل مع أبناء الجزائر بانتصار ثورة المليون ونصف مليون شهيد.
هنا أفتح قوسين لأقول إنه على تعدد الجولات العربية لكارم محمود التي كانت تطول أحيانًا وتمتد لشهور وحبذا لو زار فيها الشام، إلا أن علاقة خاصة كانت تربطه بالمغرب العربي، ويحكي الدكتور أسامة الغزالي حرب في مقال قديم له عن الحفاوة التي قوبل بها السفير محمود كارم عندما زار مدينة عنّابة في الجزائر وقد سبق لوالده أن غنّى “عنّابي” (https://www.youtube.com/watch?v=K9J3PPEDiHY&list=RDEMKZDW1NesK-xf1Czu6j0AFg&index=3) التي تغزّل فيها في خدود حبيبته العنابي، وهذا الوصف بـ”العنّابي” قد يُفهَم على أنه مستمد من حمرة شراب العنّاب كما قد يُفهم على أنه نسبة إلى مدينة عنّابة. كلما تعمقنا في اكتشاف الأواصر التي تجمع مصر بالجزائر تبيّنت لنا حقائق جديدة. أما تونس وعلاقة كارم محمود بها فحدّث ولا حرج، فالتوانسة شعب ذوّاق للفن العربي الأصيل، وتشاء الظروف أن تدور الأيام وتكون حفيدة الفنان كارم محمود زوجة لسفير مصر في تونس فتمتد العلاقة البديعة بهذا البلد الحبيب من جيل لجيل بكل يسر.
- • •
في مئوية كارم محمود التي احتفل بها معرض القاهرة الدولي للكتاب الثالث والخمسين نستحضر كيف استطاع هذا الفنان أن يفرض وجوده في مرحلة كانت تزخر بقامات عالية في مجال الفن الشعبي: عبد العزيز محمود ومحمد عبد المطلب وعبد الغني السيد. لكن هو كان صاحب الصوت الأقوى (التينور) الذى يماثل صوت الفنان العالمي باڤاروتي، وهو كان الفنان متعدد المواهب الذي ينتج الأنغام بحنجرته وأنامله ويتلبّس الشخصية التي يمثّلها وكانت عادة شخصية ابن البلد فتشعر حين تراه أنه فعلًا كذلك، ثم أنه كان هو المتفرَد بهذا الكم الكبير من الأوبريتات والصور الغنائية التي أبدع فيها وصال وجال.
وفي مئويته أستأذِن ابنه السفير المحترم محمود كارم في أن أفرج عن درّة من الدرّر النفيسة التي يحتفظ بها في خزانته ولم نسمعها من قبل، درّة مدتها حوالي سبع دقائق يبدأها الفنان الكبير بالغناء للإسكندرية ثم يروح يغنّي بصوته الرخيم “مشغول عليك مشغول ما اقدرش اغيب عنك.. ياريت عذابي يطول وافضل قريب منك..آه آه آه عليك مشغول” (https://www.youtube.com/watch?v=M1QzSoOJfSE)، وليت أن تودع هذه الدرّة مع مثيلاتها جميعًا في متحف يحمل اسم كارم محمود، فمثل هذا التخليد يليق به.
* كاتبة صحفية مصرية
المصدر: الشروق
التعليقات مغلقة.