لطفي العبيدي *
إشكالية الهوية السياسية لدى الجمهوريات العربية، بدأت منذ مطلع القرن العشرين بفعل الاستعمار الغربي ومشاريع تقسيمه للمنطقة وفق صفقات مشبوهة. ومنذ ذلك الحين، تواجه الدول العربية مشاكل كبيرة في ترسيخ مفهوم المواطنة، ضمن إطار الدولة، مقابل انتشار الأطروحات الأممية والإثنية.
والخلط في تمثّل مفهوم الدولة وطبائع الاستبداد المتوارث فاقمت القطيعة بين الدولة والمجتمع. وفي الأثناء، العديد من القوى المجتمعية عززت وجودها السياسي والإعلامي خارج إطار الدولة، إثر انحسار المد القومي، وتنامي تيارات التطرف الديني. والأمر آل في النهاية إلى احتباس ديمقراطي لا يزال يتفاقم زمن تنافس القوى الكبرى حول الريادة، ونزالها لرسم ملامح النظام العالمي الجديد.
المشاكل المجتمعية وتحديات الإصلاح السياسي، في ظل تنامي الفكر المتطرف واضمحلال دور الدولة ومؤسسات الحكم المركزي، غيضٌ من فيضِ مكبلات، عجزت أمامها النخب العربية المثقفة عن التقدم بأطروحات ناضجة لحلها.
والحالة العربية في أغلبها لم تجد سبيلا للانسجام المجتمعي، أو تحسم معضلة تشكل الدولة الوطنية الحديثة وفق مقومات سليمة من شأنها أن تخلّصها من مشكلة تدهور العلاقة بينها وبين مختلف فئات المجتمع، إثر ارتكاز السلطة على قواعد ضيقة من الفئات القليلة المستفيدة، منذ خروج الاستعمار الغربي، وتركه الجمهوريات العربية تعاني النزاعات الحدودية، وخضوع شعوبها للأنظمة العسكرية الشمولية. هي مسارات طبيعية عندما تكون معظم هذه الجمهوريات قد نشأت على أساس صفقات بين قوى استعمارية غربية في مطلع القرن العشرين دون مراعاة لمفهوم الدولة القومية، أو أهمية تجانس المجتمع داخل الوطن الواحد. وانسجام السلطوية الحاكمة مع مطالب التغوّل والديكتاتورية، غيّب سؤال مصير الأمّة ومطالبها الوطنية والقومية، ونتيجة عجزها عن تشكيل علاقة متوازنة بين السلطة والمجتمع، تفاقمت العوامل التي تنخر في جسد هذه الدول، وتمنعها من تشكيل نظام أمني متوازن. على غرار الضعف الاقتصادي، وسوء توزيع الثروة، والتوتر بين مختلف المجموعات الإثنية والمذهبية داخل المجتمع العربي. يحدث ذلك بفعل نخب سياسية حاكمة حرصت على القطيعة بين الثقافي والسياسي بكيفية نفعية انتهازية، حيّدت الإعلام الحرّ لصالح إعلام يُباع ويشترى وفق نشاطات العلاقات العامة. كما أنّ مجتمع الشركات والاقتصاد الريعي يدفع نحو طمس شخصية المثقّف بشراء المفكّرين، وتوجيههم صوب الطابور المدافع عن أشكال الانتهازية الرأسمالية وأيديولوجيا النيوليبرالية. مع أنّ النظام الليبرالي، مثل كل الأنظمة الدولية، هو بتعبير “مايكل بيكلي” أستاذ العلاقات الدولية والعلوم السياسية، شكل من أشكال النفاق المنظم، الذي يحتوي على بذور زواله، بحكم العداوات التي يشعلها في طريقه. ورغم أنّ أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001 دفعت المجتمع الدولي للاعتراف بتنامي خطر الجماعات المتطرفة العابرة للحدود، وإمكانية تعرض طرق الإمداد ومصادر الطاقة للتهديد من قبل جماعات راديكالية، تتخذ من بعض الدول الهشة قواعد ارتكاز لها، في ظل نظام عالمي مفتوح شعاره تحرير السوق وتشجيع التدفقات، مع ذلك، لم يتراجعوا عن مخطط إعادة صياغة الأنظمة السياسية، من خلال إضعاف مؤسسات الحكم المركزي ودعم المجموعات الإثنية والمذهبية، المشروع الذي تزامن مع تبنّي الولايات المتحدة مفهوم إعادة رسم خريطة المشرق العربي، وفق قاعدة التجزئة ضمن الحدود. وبالفعل منذ بداية عام 2007 بدأت تظهر ملامح التعاون بين الإدارة الأمريكية وبعض المنظمات، التي تمتلك أجندات مذهبية، ما أدى إلى تنامي مشاعر القلق لدى بعض الحكومات العربية، التي أطيح ببعضها في مرحلة لاحقة، خاصة أن هذه الجماعات تغلغلت في مؤسسات صنع القرار الغربي، وأصبحت تمتلك لوبيات ضغط وتوجيه.
تواجه المنطقة العربية تهديدات متعددة من دول إقليمية طامعة، إلى جانب القوى الدولية المتدخلة في المنطقة منذ فترة ليست بالقصيرة، ومحاولاتها فرض مشروعات بديلة، وخطط تقسيم تقوم على تفكيك الدول العربية، وإثارة الصدامات العرقية، والاستقطاب السياسي، ونشر حالة من عدم الاستقرار التي تعزز فرص القوى الخارجية لاختراق المجتمعات ومؤسسات الدولة، وتدميرها من الداخل. وهو تحدّ يفرض على الدولة العربية استعادة مناعتها على أسس جديدة من سلطة القانون والمواطنة العادلة، واستيعاب التنوعات المجتمعية، وتحويلها إلى مصدر قوة، بما يقلص انكشافها داخليا وخارجيا. وقد آن الأوان أن تتوقف أشكال الانبطاح والتخاذل أمام الأمريكي الذي لعب بالمنطقة كما أراد. وعلى صناع القرار السياسي أن يفهموا، في زمن النظام العالمي الجديد الذي يبحث عن ملامحه، أنه خارج إطار المصالح الاقتصادية والتجارية لا يوجد أصدقاء أو أعداء دائمين بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية. فهي من أبرز المدافعين عن تحقيق مصالحها الخاصّة، وهي لذلك تتجاهل المجتمع الدولي في أكثر المناسبات، ومن أجل النفط لا تعبأ بكيان مستقلّ، ولا بطموحات الشّعوب وحقّها في العيش بسلام، بل قسّمت العالم منذ فجر 11 سبتمبر إلى معسكرات وفق أيديولوجية نفعية مموّهة، رسمت عبرها مخططات جيوستراتيجية بعيدة المدى. ومقولة معسكر الخير، مقابل معسكر الشرّ، هي مجرد يافطة لتقسيم العالم وإعادة رسم الخرائط خاصة في منطقة الشرق الأوسط. وبدا واضحا هذا التصرف الأحادي منذ غزو العراق وتدمير كيان دولة ذات سيادة. وكانت تلك هي البداية التي جعلت منظري تفتيت الدول وتقسيمها، من أمثال هنري كيسنجر، يرى أنّ حل الأزمة السورية يكون عبر تقسيم الكيان الجمهوري على أسس إثنية ومذهبية. معتبرا أنّ هناك ثلاث نتائج ممكنة: انتصار الأسد، أو انتصار السنّة، أو نتيجة تنطوي على قبول مختلف القوميات بالتعايش معا، لكن في مناطق مستقلة ذاتيا على نحو أو آخر، بحيث لا تقمع بعضها بعضا، وهذه هي النتيجة التي يفضّلها عراب السياسة الخارجية الأمريكية ويتمنى رؤيتها تتحقق. وكثيرة هي مراكز الفكر الغربية، وبعض الجهات الرسمية التي بدأت تدعو في مرحلة الثورات العربية إلى إعادة فرز القوى السياسية وفق معادلة تفتيتية تقوم على المحاصصة داخل إطار الدولة. ودعم المجموعات الإثنية والأقليات التي أصبحت تطالب بدور أكبر في إدارة شؤونها ضمن الكيان السياسي.
استعادة التوازن المجتمعي وإدارة الاستحقاقات السياسية، واستيعاب الضغوط الاقتصادية، هي من أبرز رهانات الدول العربية في مثل هذه المرحلة من النظام العالمي الهش الذي يلفظ أنفاسه، والتكوين الجديد للقوة الذي يؤشر على تشكل نظام عالمي مغاير يبحث عن ملامح انبثاقه، لعلها بذلك تستطيع كحدّ أدنى، التجاوب مع التحولات الإقليمية التي يديرها غيرها، ويرغب في الهيمنة على الموارد الاستراتيجية، وتأمين مصالحه الاقتصادية. تركيا عبر حقول غاز المتوسط، وإسرائيل التي تعارض عمليات استكشاف لبنان للغاز، ناهيك من سياسات هؤلاء العدوانية في ملف المياه مع دول الجوار، وإدارة ملفات النزاع العالقة بالوكالة.
* كاتب تونسي
المصدر: القدس العربي
التعليقات مغلقة.