على وقع سقوط الصواريخ على العاصمة الأوكرانية (كييف) صباح 26 حزيران/ يونيو 2022، بدأت قمة قادة الدول السبع الكبار(G7) وهو نادٍ للدول السبع الصناعية الكبرى في العالم (الولايات المتحدة، ألمانيا، اليابان، فرنسا، بريطانيا، إيطاليا، وكندا) عقد أولى جلساتها في قصر ‘إلماو’، الواقع جنوب ألمانيا في مقاطعة ‘بافاريا’ قرب سفوح جبال الألب؛ وبعيداً عن ضجيج أصوات المتظاهرين المتكررة المرافقة لكل قمة يعقدها الكبار، وبحراسة ما يربو على 16 ألف جندي ألماني، لضمان أمن المجتمعين، وبتكلفة تصل إلى 180 مليون يورو.
الملفات كثيرة، سواء ما يتم مناقشته في كل قمة: الاقتصاد العالمي وما يعانيه من أزمات، وخاصة التضخم الركودي الذي يمر به بسبب الغزو الروسي لأوكرانيا، والسياسة الخارجية والأمنية والتنمية والهجرة وتغيرات المناخ؛ أو ما استجد من أحداث تفرض نفسها على المؤتمرين خاصة الغزو الروسي لأوكرانيا وعقابيله، مضافاً إليها ملفات الأوضاع في سورية واليمن وليبيا وأفغانستان والملف النووي الإيراني.
استضافت القمة رؤساء بعض الدول الناشئة، كالأرجنتين والهند وأندونيسيا التي بدورها ستستضيف (قمة العشرين في تشرين الثاني/ نوفمبر القادم، والتي بادرت بدعوة بوتين للمشاركة في القمة، مع دعوات مبدئية من قبل الدول السبع الكبار بمقاطعتها، بسبب هذه الدعوة، وما دعوتها هي والهند كضيوف على قمة السبع، إلا للضغط عليهما لوقف التعاون الاقتصادي مع روسيا أو خفضه لأدنى درجة) والسنغال وجنوب أفريقيا كضيوف هذه الدورة، ورغم غياب أي تمثيل عربي في هذه القمة، لكن النفط والغاز العربيين حاضران بقوة لتعويض مثيليهما الروسيين، والذي تسعى دول أوربا للتوقف نهائياً عن استيراده، رغم أنه يشكل ما يربو على 70% من مصادر الطاقة الأوربية.
مواجهة الغزو الروسي والتمدد الصيني في دول العالم الثالث، عبر ما أطلق عليه الرئيس الصيني (شي جين بينغ) مبادرة الحزام والطريق الصينية، وهي مبادرة تم إطلاقها عام 2013، التي تشمل مبادرات تنموية واستثمارية في البنية التحية في أكثر من 100 دولة؛ مما دفع السبع الكبار لإطلاق مبادرة موازية بقيمة 600 مليار دولار، تعهدت أميركا بتقديم 200 مليار منها، تحت عنوان، الشراكة من أجل البنية التحية العالمية والاستثمار، لخفض حدة الفوارق بين الدول الغنية والدول الفقيرة، ومما يلفت النظر تصريح الرئيس الأميركي بايدن حيث قال “أريد أن أكون واضحاً، هذه ليست معونة أو عمل خيري، بل هو استثمار سيحقق عوائد للجميع، وسيظهر مدى الفوائد الملموسة للشراكة مع الدول الديمقراطية”.
وبعد قمة الكبار(G7)، بدأت جلسات أخطر قمة لحلف شمال الأطلسي (ناتو) في العاصمة الاسبانية مدريد في 28 حزيران/ يونيو 2022، بمشاركة الدول الأعضاء (30 دولة) والدول الحليفة، وفي مقدمتهم اليابان واستراليا وكوريا الجنوبية، وكذلك الأردن وموريتانيا، والدولتين المرشحتين للانضمام، السويد وفنلندا، ومشاركة شرفية لأوكرانيا عبر كلمة يلقيها رئيسها عبر الفيديو؛ وأهم ما جاء في بيان قمة الناتو:
- وافق الـ(ناتو) على مفهوم استراتيجي جديد يصف روسيا بأنها “التهديد الأكبر والمباشر لأمن الحلفاء واستقرارهم”، مما يعكس التدهور الكبير في علاقات الحلف مع موسكو على مدى العقد المنصرم؛ ويتهم الحلف روسيا في وثيقة مفهومه الاستراتيجي الجديد بالسعي إلى “إقامة مناطق نفوذ وسيطرة مباشرة من خلال الإكراه والتخريب والعدوان والضم”، ذلك بالتعاون مع الصين، وإن موسكو تستخدم وسائل تقليدية عسكرية وإلكترونية وهجينة لتحقيق هذه الأهداف.
- وجاء في المفهوم الاستراتيجي أن “تعزيزات موسكو العسكرية، بما في ذلك في مناطق البلطيق والبحر الأسود والبحر المتوسط، إلى جانب تكاملها العسكري مع بيلاروسيا، (يشكل) تحديا لأمننا ومصالحنا”؛ وتعبر الوثيقة عن القلق إزاء تحديث القوات النووية الروسية وتهديدات موسكو باستخدام الأسلحة النووية وتطوير “أنظمة إطلاق جديدة ومدمرة ذات قدرة مزدوجة”، في إشارة إلى تطوير أسلحة تفوق سرعتها سرعة الصوت يمكنها حمل رؤوس حربية تقليدية ونووية، وتتهم روسيا حلف شمال الأطلسي بتهديد أمن أوروبا بالتوسع شرقا منذ منتصف التسعينات، وردا على تحركات روسيا، سيعمل الحلف بشكل كبير على تعزيز ما في جعبته من وسائل ردع ودفاع، بحسب الوثيقة، مع التشديد على أن الحلف لا يسعى إلى المواجهة مع موسكو، وإنما إلى الحوار؛ ويقول المفهوم الاستراتيجي “لا نزال على استعداد للإبقاء على قنوات اتصال مفتوحة مع موسكو لإدارة المخاطر وتخفيفها ومنع التصعيد وزيادة الشفافية”.
- حول الصين يقول المفهوم “طموحات بكين المعلنة وسياساتها القسرية تتحدى مصالحنا وأمننا وقيمنا”، ويتهم المفهوم الصين باستخدام عمليات هجينة وإلكترونية خبيثة وخطاب المواجهة والمعلومات المضللة لاستهداف أعضاء الحلف والإضرار بأمنه، وتنفي الصين أي أساليب من هذا القبيل؛ وأن بكين تسعى للسيطرة على القطاعات التكنولوجية والصناعية الرئيسية والبنية التحتية الحيوية والمواد الاستراتيجية وسلاسل التوريد، ويتهم المفهوم الصين “باستخدام نفوذها الاقتصادي لخلق كيانات استراتيجية تابعة وتعزيز نفوذها”؛ ويقول إن الصين “تسعى جاهدة لتخريب النظام الدولي القائم على القواعد في مجالات منها الفضاء الخارجي والإلكتروني والقطاع البحري”. كما يعبر عن القلق من توثيق العلاقات بين موسكو وبكين اللتين “تعزز إحداهما محاولات الأخرى لتقويض النظام الدولي القائم على القواعد”!، ويقول الحلف إنه سيظل منفتحاً على الحوار البناء مع الصين، لكنه سيعزز أيضاً الوعي واستعداده في مواجهة “الأساليب القسرية التي تتبعها بكين والجهود المبذولة لتقسيم الحلف”.
- أكد الحلف على استمرار الدعم اللوجستي والمالي لأوكرانيا، لمنع روسيا من تحقيق النصر الذي تتوعد به أعداءها وتَعدُ به أتباعها، ورفض الضغط على أوكرانيا للقبول بتنازلات تطلبها روسيا.
- وافق الحلف على عضوية فنلندا والسويد، بعد التفاهمات التي حصلت مع تركيا، فيما يخص الأحزاب الكردية، التي تدعمهم كلتا الدولتان، وتعتبرهم تركيا خطراً على أمنها، بل وتضعهم على لائحة الإرهاب.
وبالتزامن مع قمة الناتو، انطلقت أعمال قمة الدول المتشاطئة على بحر قزوين (روسيا الاتحادية تركمانستان أذربيجان كازاخستان وإيران) في مدينة عشق آباد عاصمة تركمانستان، وتمتلك هذه الدول ثاني أكبر احتياطي للنفط (حوالي 40 مليار برميل) والغاز (حوالي 9 تريليون متر مكعب) بعد الاحتياطي الذي تملكه منطقة الخليج، وهي فرصة للرئيس بوتين لمحاولة هيكلة الدول المحيطة، بما يساعده في التخلص من عوائق العقوبات التي تفرضها دول الناتو عليه، والتي لم تَطُل آثارها السلبية اقتصاده فقط، وإنما أيضاً اقتصادات الدول التي فرضت العقوبات عليه، بل ووصلت آثارها السلبية إلى أغلب اقتصادات العالم.
وقبل انطلاق هذه القمم، كانت الجولة المكوكية لولي العهد السعودي (محمد بن سلمان) شملت كلاً من مصر والأردن وتركيا، وبعيداً عن البيانات الثنائية المعلنة (والتي تمثل الطبق الإعلامي الواجب تقديمه للجمهور كالمعتاد) بما يخص العلاقات المشتركة والاستثمارات في المجالات الاقتصادية، والمواقف من الأوضاع الإقليمية والدولية، فإن المخفي منها والذي يتم بحثه عادة في الجلسات السرية المغلقة؛ فلقد بادر ملك الأردن (عبد الله الثاني) بإتحافنا بكشف أحد محاوره، وهو تأكيده على تأسيس حلف عسكري شرق أوسطي (قديم- جديد) وهو استمرار لدعوة ترامب لهذا الحلف تحت اسم (MESA) تعميقاً لمحور “اتفاقية أبراهام” سيئة الذكر، بهدف التطبيع الشامل مع الكيان الصهيوني!
إن سياسة الأحلاف العسكرية التي دعت وخططت لها أميركا في خمسينيات وستينيات القرن المنصرم، تارة تحت شعار محاربة المد الشيوعي (حلف بغداد)، وتارة تحت حماية البلدان العربية الناشئة (الحلف الإسلامي)، والتي تصدى لهما الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، وكشف زيفهما وخداعهما؛ مما أدى لموتهما حينذاك في المهد؛ وها هي تعود ثانية بعد كل تلك السنوات، ولكن هذه المرة ربما بمشاركة “دولة” ماتزال شعوب الأمة العربية تعتبرها دولة احتلال وإحلال وعدوان، بل وربما بقيادتها باعتبارها تملك غطاءً نووياً، خاصة بعد حملات التطبيع معها خلال السنوات المنصرمة.
وفي منتصف هذا الشهر، سيكون هناك لقاء قمة في جدة السعودية، الذي يضم دول الخليج العربي، مضافاً إليهم مصر والأردن والعراق على طريق إكمال حلف(MESA) على طريق “اتفاقية أبراهام”، ومزيد من التطبيع مع نظام الجريمة القابع بدمشق؛ وستكون القمة بقيادة الرئيس الأميركي جو بايدن، الذي قد يزور (إسرائيل) قبل وصوله إلى جدة.
قمم متتالية لم تغب عنها مصالح الدول، وعلى صعيد كل دولة، أو على صعيد المصالح المشتركة، وغابت عن هذه القمم قيم الإنسانية، التي يُصدّر بها المجتمعون بياناتهم، بينما في الواقع، فإن مصلحة الإنسانية الجامعة يتم تجاهلها بالواقع المعاش، بل ويتم التضحية بها في اللحظة الأولى لأي تصادم في المصالح.
لقد ذهب ذلك الزمن- خمسينيات وستينيات القرن المنصرم- زمن كتلة عدم الانحياز والدعوة لحق الشعوب في العيش بسلام وتقرير مصائرها وبناء دولها المستقلة، بعيداً عن الاصطفافات الأيديولوجية للمعسكر الشيوعي الذي كان يقوده الاتحاد السوفييتي، أو المعسكر الرأسمالي الذي قادته وماتزال الولايات المتحدة الأميركية؛ وما عادت قمة عدم الانحياز، ولا قمة جامعة الدول العربية، ولا حتى قمم الأمم المتحدة، تعني شيئاً لأحد، ولا يُنّتظر منها أن تقدم للشعوب والدول الضعيفة إلا الوهم على شكل بيانات؛ لا تخلو من شجب أو استنكار أو تأييد، أو وعود بحلول سيطول انتظارها كثيراً، وفلسطين وسورية ليست سوى أمثلة راهنة.
جاء كل ذلك بتسابق البراغماتية مع التهوّر في الحسابات الإيرانية التي لم تأخذ حقها بمؤتمريّ الكبار(G7) والناتو(NATO)، بل كانوا مرتاحين لـ(العداوات المطلوبة) بين إيران وإسرائيل لأنها بالأصل هامشية بينهما، ذلك على وقع بدء العدّ العكسي إما لإنقاذ مفاوضات ڤيينا باتفاقية نووية جديدة ورفع العقوبات عن طهران، أو إلى انهيار المفاوضات وانطلاق إيران نووياً واقليمياً بمباركة روسية وسط تمزّق غربي وتوعد إسرائيلي! فضلاً عن التمزق والتفتت العربي؛ والمفارقة هي أن موسكو تسعى لتطبيع العلاقات الإيرانية- العربية، فيما تسعى واشنطن لتوسيع رقعة التطبيع العربي مع إسرائيل؛ فللشرق الأوسط فوائده النفطية والاستراتيجية، كما اكتشفت إدارة بايدن بعدما قلّصت المنطقة العربية إلى ملحق لمفاوضاتها الإيرانية على حساب دماء ثوار الربيع العربي بعد عام 2011.
ومهما كانت زيارة الرئيس بايدن للسعودية مهمّة، لكن الأهم هو التفكير الاستراتيجي على نسق ما تقوم به إيران مع الصين وروسيا والهند، والبدء بتطوير اتفاقيات تعاون شامل وجدّي على المستوى العربي والإقليمي بمواجهة طهران وطموحاتها التدميرية التخريبية للمنطقة والتي تفقأ الأعين في العراق وسورية واليمن ولبنان وتمددها لباقي الدول العربية، ومواجهة الفقر والجوع للشعوب العربية- ونحن على أبواب عيد الأضحى- وأغلبهم غير قادر على تلبية متطلبات أبناءهم!
وعندما ندعو لعودة الأخلاق إلى السياسة، فإننا لا ندعو إليها من منطلق عاطفي، بل منطلق إنساني، فالإنسانية كقيمة عليا إن تم تغييبها ضاعت الإنسانية في مجاهيل مستقبل نتلمس بداياته المفزعة والكارثية، مع صعود السفسطائية بأبشع صورها، في سياسةْ وخطابات قادة العالم التي لا تألو جهداً في تبرير الموقف من كل حدث عالمي، كي لا تصل السلحفاة ولا أخيلوس إلى نهاية الهدف.
التعليقات مغلقة.