عبد الله السناوي *
بدا الصحفي الفرنسي «إريك رولو» مأخوذاً بحميمية الاستقبال الذي كان بانتظاره في مطار القاهرة الدولي مدعواً صيف (1963) لإجراء تحقيقات ميدانية لصالح صحيفة «لوموند» إحدى أكثر الصحف العالمية نفوذاً وتأثيراً.
بدت الدعوة نفسها مثيرة وملغزة أمامه، فهو يهودي مصري الأصل نفي قبل ثورة يوليو بشهور قليلة إلى فرنسا على خلفية نشاطه اليساري.
لم يكن مسموحاً له بزيارة القاهرة، ولا أية عاصمة عربية أخرى، رغم أن عمله مديراً لقسم الشرق الأوسط في الصحيفة الفرنسية الشهيرة يقتضي المتابعة عن قرب لحركة الحوادث العاصفة.
كان هناك في القاهرة من يتابع ما يكتبه من تحقيقات ومقالات تتبنى المعارك التي تخوضها ثورة يوليو في نصرة حركات التحرير الوطنى في العالم العربي والقارة الإفريقية، ورأى أن مصلحة البلد تقتضي فتح قنوات حوار معه رغم أنه لم يكن يرى مبرراً لـ«مصادرة الحريات العامة وخرق ما يسمى في أيامنا هذه بحقوق الإنسان».
أراد «رولو» دوماً أن يسأل ويتقصى «أوضاع المعتقلين الشيوعيين في مصر» ومتى يُفرج عنهم، لكن لم تكن لديه فرصة حوار من قريب أو بعيد.
لماذا الآن؟
قدر أن مصر تريد أن تطوي صفحة الصراع مع فرنسا بعد استقلال الجزائر، وأن تفتح أبوابها أمام أكثر الصحف الفرنسية تعبيراً عن سياسات ومواقف الرئيس «شارل ديجول» لإذابة الجليد بين البلدين.
وقع الاختيار عليه باقتراح من الكاتب اليساري المعروف «لطفى الخولي»، الذى التقاه في باريس ليدعوه باسم الأستاذ «محمد حسنين هيكل» رئيس تحرير «الأهرام» أن يزور القاهرة مؤكداً أن كل التسهيلات سوف تكون رهن تصرفه لإجراء تحقيقات صحفية، وأنه سوف يكون حراً تماماً في تحركاته وفي الاتصالات التي يرغب في إجرائها، شاملة المعارضين لنظام الحكم في مصر.
إدارة التحرير في «لوموند» أبدت حماسها للعرض المصري وأصرت بالوقت نفسه أن تتكفل وحدها بتكاليف السفر وفق التقاليد المهنية المتعارف عليها.
بشهادة وزير الخارجية الجزائري الأسبق «الأخضر الإبراهيمي»، الذي كان سفيراً للجزائر في ذلك الوقت بالعاصمة المصرية: «رولو أولاً وقبل كل شيء صحفي همه الرئيسي أن يفهم القضايا التي يكتب فيها فهماً كاملاً وموضوعياً».
مرة بعد أخرى أبدى خشيته من أن تُفرض عليه أية قيود في تحركاته وتصرفاته طلباً لحياديته وموضوعيته المهنية، أن يكتب ما يعاين بنفسه، سواء اتفق ما يتوصل إليه من استنتاجات مع آراء الحكم في مصر أو لم يتفق.
«إن هيكل يفكر بنفس الطريقة ويفضل التعامل مع الشخصيات المستقلة التي تتمتع بحرية التفكير».
هكذا أخبره «الخولي»، وهو ما أكدته الأيام التالية.
مساء اليوم التالي لوصوله القاهرة التقى «هيكل»، طرح تصوراته وتساؤلاته وما ينتوي أن يسأل فيه الرئيس إذا كان الحوار معه ممكناً من قضايا محرمة أولها ملف المعتقلين وما يتعرضون له من انتهاكات لحقوقهم الإنسانية.
في ذلك اليوم البعيد كان تقديره، كما كتب بمذكراته «في كواليس الشرق الأوسط»: «إن المعتقلات تحجب الجوانب الإيجابية في سياسة الحكومة المصرية بأعين الرأي العام العالمي».
فوجئ بأن «هيكل»، الذى وصفه بأنه رجل حاد الذكاء، وافقه على تحفظاته بوضوح كامل.
الرجلان «هيكل» و«رولو» من جيل واحد، الأول- من مواليد (1923) والثاني- من مواليد (1926).
بتوقيت متقارب دخلا العمل الصحفي عبر جريدة الـ«إيجيبشيان جازيت» التي كانت تصدر بالإنجليزية في القاهرة.
«هيكل» غطى حرب العلمين (1942) قبل أن ينتقل إلى «آخر ساعة»، التي كان يترأسها أستاذه «محمد التابعي».. و«رولو» انضم إليها (1943) لتغطية قصص وأخبار سياسية واجتماعية قبل أن ينتقل إلى «لوموند» بعد فترة قصيرة من البطالة في المنفى الباريسي!
كان «رولو» يكتب في «الجازيت» باسمه الأصلي «إيلي رافول» قبل أن يتفرنس بالكامل ويطلق على نفسه الاسم الذى عُرف به.
يستلفت النظر في مذكراته عنوانها الفرعي: «مذكرات صحفي بجريدة لوموند»، لا قال رئيس تحرير ولا دبلوماسي عريق عمل بالقرب من الرئيس الاشتراكي «فرنسوا ميتران» ولا أب روحي لجيل من القيادات الاشتراكية بينهم «سيجونيل رويال» المرشحة الرئاسية التي كسبها «نيكولاي ساركوزي» عام (2007) و«فرنسوا أولاند» الذى كسب الانتخابات التالية.
إنه صحفي وكفى.
إنه نفس نهج الأستاذ «هيكل» نفسه في النظر إلى دوره في الحياة السياسية المصرية والعربية ــ «جورنالجي» دون أية أوصاف أخرى.
في لقائه الأول مع «عبدالناصر» أخذته بساطة منزله المتواضع نسبياً وأثاثه الذى يشبه بيوت الطبقة الوسطى في حي مصر الجديدة، الذي ولد وعاش فيه لأكثر من عشرين سنة.
التبسط بلا افتعال غلب اللقاء الأول حتى خُيّل إليه أن الجو العام مناسب لطرح سؤاله الأكثر حساسية بين أسئلة أخرى كثيرة، سؤال المعتقلين السياسيين.
كان «عبدالناصر» يتوقع السؤال، ربما خططت الزيارة كلها للإجابة عليه.
أجابه: «قررت الإفراج عن جميع السجناء السياسيين قبل نهاية هذا العام».
جملة صريحة ومقتضبة دوت في العالم كله من فوق منبر «لوموند».
«وحين أنظر في الماضي أدرك أن إغلاق المعتقلات لم يكن سوى إجراء بين إجراءات أخرى تنم عن رغبة عبدالناصر في طي تلك الصفحة.. أو أنها خطوة منطقية في تسلسل الإصلاحات التي تعمل على تجديد النظام وتقويته».
في تقديمه لمذكرات «رولو» تساءل «الأخضر الإبراهيمي»: «هل وقع الصحفي أسيراً لكاريزما عبدالناصر؟».
«ربما.. إلا أن الود المتبادل بين الرجلين لم يؤثر على موضوعية الصحفي وحسه النقدي».
بعد أن أغلقت المعتقلات بالإفراج عن الشيوعيين المصريين فتحت من جديد لـ«الإخوان المسلمين» عام (1965) إثر إجهاض مخطط ما يعرف بتنظيم «سيد قطب» لإحداث فوضى شاملة في البلاد.
بعد ذلك الحوار الاستثنائي الذى أجراه «رولو» مع أكثر الزعامات العربية نفوذاً وشعبية وتمثيلاً للفكرة القومية العربية أسبغت عليه شرعية من نوع فريد مكنته أن يزور كل دول الشرق الأوسط بلا حساسيات، فتحت أمامه كل الأبواب الموصدة، وربطته صداقات وصِلات حوار مع الزعيم الفلسطيني «ياسر عرفات» والملك الأردني «حسين» والعقيد الليبي «معمر القذافي» والرئيسان السوري «حافظ الأسد» والعراقي «صدام حسين».
كان ذلك استنتاجاً في محله سجله ابنه الروحي «آلان جريش» مدير التحرير السابق لـ«لوموند ديبلوماتيك» فى تقديم ثانٍ للمذكرات نفسها.
تجربة حوار «رولو» قبل نحو ستة عقود تستحق المراجعة واستخلاص الدروس إذا ما أردنا اليوم في الحوار الوطنى المرتقب أن نُخاطب العالم باللغة التي يفهمها، أن يكون لدينا ما نقوله والحديث داخل مباشرة إلى موضوعه: «الإفراج عن كل معتقلي الرأي الذين لم يحرضوا على عنف، أو تلوثت أياديهم بالدماء».
* كاتب صحفي مصري
المصدر: الشروق
التعليقات مغلقة.