فريق البحث: – د. عبدالله تركماني* ؛ – د. سائد شاهين**
المحتويات:
1- توطئة عن تأثيرات الدولة الأمنية في الحياة السياسية السورية
2- فلسفة النظام حول الحياة السياسية
3- مصادرة العمل السياسي وتجفيف الحقل السياسي
4- انعكاسات الدولة الأمنية على أحزاب المعارضة ذات النزعات اليسارية والقومية والإسلامية
5- تجليات الدولة الأمنية في مختلف مستويات الحياة السياسية
6- مستوى حزب البعث
7- مستوى الجبهة الوطنية التقدمية
8- مستوى المعارضة خاصة بعد توريث السلطة لبشار الأسد
9- إعلان دمشق للتغيير الوطني الديمقراطي
10- جماعة الإخوان المسلمين
11- قانون الأحزاب الجديد
12- الكيفية والآليات التي التفّ بها النظام على مفهوم التعددية السياسية بعد العام 2011
13- بعض الانتقادات والمآخذ التي وُجهت إلى القانون
14- الأحزاب والحركات التي طلبت الترخيص
15- السمات العامة لبرامج الأحزاب المرخصة ومحدودية أدوارها في الحياة السياسية
16- أهم الاستنتاجات والتوصيات
17- مراجع البحث
18- الملحق
19- الهوامش
20- الشهادات الخاصة بالبحث
…………………..
1- توطئة عن تأثيرات الدولة الأمنية في الحياة السياسية السورية:
لم تنتظم الحياة السياسية منذ قيام الوحدة المصرية – السورية في عام 1958، أما الدولة الأمنية السورية العميقة، فقد بدأت التشكّل مع إعلان حالة الطوارئ وفرض الأحكام العرفية، في أعقاب انقلاب 8 آذار/ مارس 1963، بهدف احتكار الحقل السياسي، تحت حجة “الشرعية الثورية” ومفهوم “الحزب القائد”، من خلال الأجهزة الأمنية والأدوات السياسية والنقابية المرتبطة بهذه الأجهزة، وترسّخت هذه الدولة الأمنية في عهدَي الأسد الأب والابن.
وهي تقوم على المرتكزات الآتية: احتكار السلطة والثروة والقوة، من خلال هيمنة المؤسسة العسكرية والأجهزة الأمنية على مجمل حياة السوريين، واحتكار الحقيقة، والغلبة والقهر، وشخصنة السلطة، وجعل الناس مجرد كائنات اقتصادية. فقد قال حافظ الأسد، لحمود الشوفي (الأمين العام لحزب البعث) في سنة 1971: “الناس لهم مطالب اقتصادية في الدرجة الأولى” [1].
وقد أدت هذه المرتكزات، من جهة، إلى إحلال الأوامر محل القوانين، والامتيازات محل الحقوق، والولاء والمحسوبية محل الكفاءة والجدارة والاستحقاق، ومن جهة ثانية، أدت إلى احتكار وسائل الإعلام المختلفة وجعلها تُسمع السوريين ما يريده الحاكم الفرد وتمنع عنهم ما لا يريده، كما أدت إلى احتكار الموارد الاقتصادية للتحكم في قُوت السوريين وأرزاقهم، وتغوّل السلطة التنفيذية التي يترأسها الحاكم الفرد.
إنّ المنظومة الشمولية للدولة الأمنية، التي نظّمت إرهاب الدولة على المجتمع السوري، لم تفعل ذلك لصالح الدولة وإنما لصالح “قائد المسيرة”. وكما كتبت حنة أرندت: “إنّ الشمولية تختلف، من حيث الجوهر، عن الأشكال الأخرى للقمع السياسي، مثل الاستبداد والطغيان والديكتاتورية، بل تحوّل دائمًا الطبقات إلى جماهير، وتستبدل منظومة الأحزاب بحركة جماهيرية” [2]. وهذا ما فعلته الدولة الأمنية السورية، عندما حوّلت أغلب المجتمع السوري إلى جماهير تهتف “قائدنا إلى الأبد حافظ الأسد”.
لقد كان حافظ الأسد يرى أنّ توطيد نظامه يتطلب إرساءه على قاعدة اجتماعية واسعة، لذلك قامت خطته على نقطتين أساسيتين:[3] أولاهما، تعبئة القوى السياسية والاجتماعية حول السلطة؛ وثانيتهما تقوية السلطة عن طريق احتواء القوى المجتمعية لاستخدامها ضد خصوم النظام.
2- فلسفة النظام حول الحياة السياسية:
بقدر ما تميزت فلسفة النظام في السياسة الخارجية بالبراغماتية والبحث عن التسويات والحلول الوسط، غلبت على السياسات الداخلية الدوغمائية والشعاراتية، ورفض الاعتراف بالتعددية السياسية، بما تفترضه من الاختلاف في الرؤى والتنافس والتفاوض، وانفراد حزب البعث بالمجال العام والحقل السياسي.
واعتمد حافظ الأسد على دعامات ثلاث لسلطته الفردية:[4] “أوّلها الجيش والأمن، حيث أصبحا أداة هائلة للسيطرة على السلطة؛ وثانيها حزب البعث، الذي كان مجرد تابع للسلطة وشبكة للمحسوبية، إذ تحوّل من حزب (طليعة) إلى حزب رعاية؛ وثالثها البيروقراطية الحكومية، التي كانت وظيفتها تنفيذ السياسة العامة المحددة من حافظ الأسد”.
وتأسس النظام الأسدي السلطوي على قاعدة القوانين الناظمة التالية، للممارسة وللأداء السلطوي[5]: أولًا، أحادية السلطة واختزال مؤسسات الحكم برمتها بشخص وقرارات ورغبات الرئيس الحاكم. ثانيًا، اشتراط الولاء المطلق والطاعة العمياء لكل أوامر الرأس الحاكم. ثالثًا، ضمان ولاء الأتباع بإشراكهم بالفوائد والمكاسب، بصفتها مغانم معارك ومكاسب هيمنة النظام، بحيث يصبح مقياس الولاء مدى رضوخ الأتباع للحصة المعطاة لهم من المغانم. رابعًا، التعامل مع الشارع العام بمنطق حالة “نفير عام”، بما تتطلبه من تطبيق حالة “حكم عرفي” و”إدارة عسكرية أمنية”.
منذ انقلاب حافظ الأسد سنة 1970، سيطرت على السلطة مجموعة عسكرية وأجهزة أمنية، ضمنت توريث النظام إلى بشار، ولكنّ استمرارية النظام “كانت على حساب أي إصلاح سياسي أو تغيير عميق في تركيبة النخبة السياسية والعسكرية الحاكمة لعدة عقود”[6]. وكانت السلطة تعرف ما ترمي إليه فلسفتها من منع التفكير الصائب، بل اعتباره “جريمة ضد أمن الدولة”، لذلك حاصرت تكوّن نخبة عضوية تتواصل مع مجتمعها وتعبّر عن مطامحه.
إنّ مقاربة المفكر الفرنسي ميشيل سورا حول “الدولة المتوحشة”[7]، التي تجلت بممارسات قوات حافظ الأسد في لبنان، تعتبر إحدى المرجعيات لفهم فلسفة الدولة الأمنية السورية وتركيبة النظام، إذ إنه استطاع أن يفكك بنية السلطة التي بناها حافظ الأسد، خاصة استثمار الآلة العسكرية والأمنية وفق نموذج “العصابة”، وتدمير إرادة المعارضة في التغيير، واستخدام التناقضات الاجتماعية لخلق قوى متوازية.
لقد ركزت فلسفة الدولة الأمنية على خلق دولة “الخوف والصمت”، بحيث تم ابتلاع كل المظاهر الأولية لوجود حياة سياسية[8]، من خلال عدة عناصر[9]: “أوّلها تغوّل الأجهزة الأمنية، من خلال امتلاكها إمكانية مصادرة حقوق الإنسان السوري بدون الاعتماد على أي مستند قانوني؛ وثانيها صناعة الولاء المفرط، من خلال تقديم الولاء المطلق لـ “قائد المسيرة”، وتقديم المكافأة إلى الذين يبدعون في إنتاج أشكال جديدة من الولاء؛ وثالثها جهاز الأمن الاستباقي، من خلال توليد منظومة من القيم المنظمة للخنوع الذاتي لدى الأفراد، حيث تحولت أغلب الأسر السورية إلى جهاز أمني استباقي وفعّال؛ ورابعها تجفيف الحياة السياسية” (كما سنرى لاحقًا).
وقد حرص رأس السلطة على إنشاء أجهزة أمنية عديدة، تراقب الشعب وتراقب بعضها البعض، بهدف خلق التنافس وتناقض المصالح فيما بينها، مع ربطها جميعها به مباشرة، كي تتحول إلى أداة رئيسية من أدوات سيطرته؛ إذ إنّ السلطة ليست سلطة الحزب أو الحكومة أو القضاء، بل هي “سلطة الأجهزة الأمنية، ما دامت هي أدوات الرئاسة الحقيقية، وما دام من غير المسموح به إطلاقًا أن يشاركها أي جهاز قضائي أو تشريعي أو تنفيذي عملها، إلا إذا أوكلت هي إليه دورًا كهذا أو ألحقت عمله بها”[10].
ويمكن تكثيف سمات فلسفة النظام تجاه الحياة السياسية، بثلاث سمات[11]: أولها، تضييق وتقييد الحياة السياسية، طبقًا لما حدده ميثاق “الجبهة الوطنية التقدمية”، الذي كرّس قانون الطوارئ والأحكام العرفية. وثانيها، تفتيت القوى السياسية وانقسامها إلى اتجاهين أساسيين، اتجاه التحق بجبهة النظام، واتجاه ذهب إلى رفض الالتحاق. وثالثها، ثقافة جوهرها التلقين والعدمية الفكرية، وتغييب أهمية وضرورة الاختلاف والنقد، بهدف السيطرة على مجمل مفاصل الدولة والمجتمع. أما الذين رفضوا الالتحاق “مئة شخص أو مئتان بالكثير يعملون جديًا بالسياسة”، حسب تعبير حافظ الأسد، “سجن المزة أصلًا مبنيّ من أجل هؤلاء”[12]. بل إنّ النظام، في عهدي الأب والابن، كان يتهكم على المعارضة ويتعالى عليها، وقد تجسد ذلك في “رفض الاعتراف بجماعات سياسية، أو أحزاب، أو تشكيلات”، ولكنه قبل في مرحلة ربيع دمشق “التفاوض مع أفراد عبر أجهزة الأمن”[13].
وكانت المسألة المهمة، بالنسبة إلى سلطة آل الأسد، تتلخص في “كيفية الحفاظ على السلطة”. وكان المدخل هو العمل من أجل “نزع السياسة من المجتمع وقصرها على حقل السلطة”، ومن أجل تحقيق ذلك تفننت في تحويل السياسة، بكونها فعالية مجتمعية، إلى أمر “لا شأن للناس به، أي إلى عزوف عنها من قبل المجتمع، منذ أن سيطر عليه مناخ من القمع والقهر والتهديد”[14].
وفي المحصلة، كانت “سوريا الأسد” دولة الحد الأدنى في مجال الخدمات الاجتماعية، ودولة الحد الأعلى في المجال الأمني، وهذا من طبيعة الدول الشمولية التي “تنظم إرهابًا أيديولوجيًا وبوليسيًا على المجتمع، ولكن ليس لصالح الدولة ومؤسساتها الرسمية، وإنما عبر عدد كبير مشوُّش من المراكز السلطوية المتنافسة، لصالح القائد”[15]. إذ إنّ من أهم مرتكزات الدولة الأمنية الاعتقاد بأنّ الاستئثار بالسلطة السياسية سيؤدي إلى الاستئثار بالثروة الاقتصادية، مما حوّل الدولة إلى دولة محدودة الرسملة، لأنّ غرض رسملتها هو “إضعاف المجتمع بدرجة تؤدي إلى استسلامه للنهب المكشوف والشامل الذي سيتعرض له، وليس نشر نظام اقتصادي – اجتماعي فيه، يغيّر علاقاته وروابطه القديمة”[16].
وظهر ذلك جليًا بعد وراثة بشار الأسد للسلطة، خاصة بعد خطاب القسم الذي تضمن وعودًا بإصلاحات في الحياة السياسية. ولكنّ المؤتمر العاشر لحزب البعث في سنة 2005، بعد أن تمَّ قطع الطريق على إمكانية الحوار الوطني من أجل تجسيد هذه الإصلاحات، إثر انتعاش قوى المجتمع المدني السوري، من خلال المنتديات السياسية والثقافية في العديد من المحافظات، اتهم في تقريره إلى المؤتمر، تحت عنوان “المعارضة السورية” التي راهنت على وجود خط إصلاحي في النظام، النشطاء في المنتديات بأنهم “معارضة غير وطنية تتعاون مع الخارج، وتركز جهودها في الحديث عن سلبيات النظام لاستخدامها في الدعاية المضادة، وتلجأ إلى إحداث الفتن الداخلية ونشر الإشاعات”[17].
3- مصادرة العمل السياسي وتجفيف الحقل السياسي:
اعتادت سلطة الدولة الأمنية على مصادرة المجتمع وإخضاعه، حيث أقامت منظماتها الشعبية كامتداد لها، وقوننت الحياة السياسية في المادة الثامنة من الدستور “حزب البعث هو القائد للدولة والمجتمع”، وأخصت الحياة السياسية بـ “الجبهة الوطنية التقدمية”. وكانت النتيجة هي تحويل أجهزة الدولة الأمنية المجتمع إلى مجتمع الخوف المتبادل والريبة المتبادلة، وأخضعت النسيج الاجتماعي لمقاييس عملائها ومعاييرهم الأخلاقية التي هي معاييرها وقيمها. ولعلَّ وظيفتها الأساسية كانت ولا تزال محاولة السيطرة على تعددية المجتمع، وهذا غير ممكن إلا بتقليص جميع المواطنين إلى هوية واحدة ثابتة، قوامها ردات الفعل الغريزية، وتقليص حريتهم إلى مجرد الحفاظ على النوع. لقد أصبح الخوف من السلطة الأمنية ديدن السوريين، فأفقد ذلك مجتمعَهم الحيوية، نتيجة الانكفاء على الذات الفردية، وفقدان المبادرة والقدرة على العمل الجماعي، وغياب كل نشاط مدني بنّاء.
إنّ ما شهدته سورية، طوال العقود الخمسة الماضية، هو تعبير واضح عن استراتيجية الدولة الأمنية، التي جمعت بين القمع والولاء.
كان التوجه الأمني للنظام موجّهًا ضد المعارضة التي تنبذ العنف، بل تطالب بالانتقال من الدولة الأمنية إلى الدولة السياسية. ولم تكن مصادرة الحياة السياسية، خلال 52 سنة من سلطة آل الأسد، “مسألة اعتباطية”، بل جاءت وفقًا لرؤية تم التخطيط لها، تجلت مع الإعلان عن المادة 8 من الدستور، التي جعلت حزب البعث الحاكم هو الحزب القائد للدولة والمجتمع، وتشكيل “الجبهة الوطنية التقدمية”، التي تضم أحزابًا تابعة للسلطة، خسرت طابعها الأصلي، “تستمد شرعيتها ومبررات وجودها من علاقتها بأجهزة ومؤسسات رسمية أبقتها مجرد تكوينات هامشية ليس لها من قيمة بذاتها، لكنها ذات قيمة كبيرة للسلطة، لكونها تخلق وهم التعددية في نظام يقرر أموره شخص واحد، لا يخضع لأية رقابة أو محاسبة أو مساءلة قانونية، بل يخضع كل من هم خارجه لرقابته ومُساءلاته”[18].
إنّ مراقبة المآلات التي آلت إليها أحزاب الجبهة تكون من خلال نجاح السلطة في احتوائها وتفكيكها، إذ “لم يكد يمضي عام على قيامها حتى ظهر عمق اختراقها، وكم أضعفتها انشقاقاتها، وفصلتها عن حاضنتها المجتمعية، وقصرت عالمها على الأسدية ودولتها العميقة، وربطت مصيرها بها”[19].
وكان الهدف الرئيسي للدولة الأمنية هو “نزع السياسة من المجتمع”، من خلال خمسة إجراءات[20]: أولها، تدمير المعارضة، بفصلها عن العمل السياسي وربطها بالدولة العميقة وخياراتها، واستخدامها كأدوات وظيفية تتعاون مع أجهزتها. وثانيها، تدجين المواطن والتحكّم في وعيه، عبر مراقبة وضبط ما يصله من معلومات ويتخذ مواقف انطلاقًا منها، لذلك حاولت السلطة احتكار مصادر المعلومات، وحجب ما لا يتفق مع مصالحها، والتلاعب بما يتفق معها. وثالثها، كبح تطور المجتمع، من خلال معايير أهمها فصل السوريين إلى: مجتمع سلطة، حققت بإقامته أعلى قدر من التمايز والاختلاف عن المجتمع الآخر؛ ومجتمع المواطنين، أي مجتمع المحرومين، مع أعلى مستوى من تبعيته لأجهزتها. ورابعها، تطييف واحتواء الأقليّات، حيث “حملت الأسدية إلى السياسة طائفة سوّرتها بمزق من أقليات عددية، عملت على تطييفها وتحويلها إلى ملل تابعة للدولة العميقة، التي توكل تمثيلها إلى عملائها فيها، ليساعدوا على تطييفها ويؤهلوها للانضواء في موقع هامشي ما من النظام، بتخويفها من الأغلبية السنية من جهة، وضمها إلى بيئة أقامتها سلطة صار انفرادها بالمجال العام مصدر قوة، تغري بالانتماء إليها والاستقواء بها، في مواجهة أغلبية مشتتة”. وخامسها، ترييف الحياة العامة، باعتباره أحد أفعل الأساليب التي طبقها النظام لتخريب مجتمع الحرمان، وما تخلّق في سورية من مجتمع مدني، ونشأ من ارتباط بين السياسة والمدنية.
ومن أجل نزع السياسة من المجتمع، شوهت الدولة الأمنية الحياة السياسية من خلال[21] “تكريس للحزب الواحد، والقضاء على التعددية السياسية الحقيقية بامتناعها عن إصدار قانون للأحزاب وحظر نشاطات الأحزاب المعارضة، وفرض قيود صارمة على حرية التعبير والرأي، مع التمادي في الاعتقالات والقمع والتنكيل ضد النشطاء السياسيين المعارضين للنظام، مما أدى إلى عزوف السوريين عن العمل السياسي، وبالتالي تلاشي مفهوم الشأن العام والمصلحة العامة”.
حيث قامت السلطة، بين منتصف السبعينيات وأواخر الثمانينات، بزج عدد كبير من النشطاء السياسيين في السجون، خاصة بعد أزمة الصراع بين السلطة والإخوان المسلمين، إذ لم يبقَ في الميدان غير السلطة ومن يدور في فلكها. وفي الواقع لم تشمل النتائج الأمنية والسياسية للأزمة الإخوانَ المسلمين وحدهم، وإنما كل الأحزاب السياسية (إسلاميين وقوميين ويساريين).
وحيال هذه الأوضاع، كان ثمة خياران أمام أحزاب المعارضة “إما أن تلوذ بالصمت وتنكفئ، وإما أن تعمل بسرية، تحاشيًا لبطش السلطة. الذين صمتوا وتخلوا عن العمل السياسي عاشوا في الظل، وسوّغوا ذلك بعدم جدوى العمل السياسي السلمي في مواجهة الرصاص والمشانق والاعتقال طويل الأمد، أما الذين اختاروا المواجهة فقد خاضوا مع النظام مواجهة قاسية ودامية غير متكافئة من حيث موازين القوى”[22].
وهكذا، بعد أن استولى حافظ الأسد على السلطة بالقوة في سنة 1970، كانت نتيجة الاعتقالات الواسعة “استيلاء بالقوة على المجتمع، فلم يعد في سورية أحزاب سياسية أو جمعيات ثقافية أو طلابية، عدا المدجّن منها، وتدنت نوعية ما هو موجود لغياب المنافسة ودافع تطوير الذات”[23]. وبذلك تمَّ وضع الأسس لإلغاء الحياة السياسية، من خلال مراهنة السلطة على منع نشوء أحزاب بديلة للأحزاب التي تمَّ احتواؤها في جبهة النظام، التي يسهل على الأجهزة الأمنية التلاعب بتناقضاتها وشقها، وتجنيد عناصر منها للعمل في خدمة هذه الأجهزة.
لقد لبى قيام “الجبهة الوطنية التقدمية” حاجة السلطة إلى “إطلاق يد دولتها العميقة في أية تشكيلات حزبية أو مدنية تنتمي إليها، لإبقائها فئاتًا خامًا على الصعيد السياسي، تفتقر إلى دور ووعي موحدين، وحضور مجتمعي مؤثر، على أن تنفرد أجهزة دولتها العميقة بها”. إذ فرضت الأجهزة على أحزاب الجبهة الانصياع لها، إذ جعلها “ترشد المخابرات إلى منازل ومخابئ معارضين كانوا إلى الأمس القريب من رفاقهم، لاعتقالهم” [24].
4- انعكاسات الدولة الأمنية على أحزاب المعارضة ذات النزعات اليسارية والقومية والإسلامية [25]:
في ظلّ سطوة الأجهزة الأمنية المتعددة، وتجفيف ينابيع العمل السياسي، وضعف الحاضنة الاجتماعية والأسرية للناشط المعارض في حقل السياسة، والضريبة الكبرى التي كان يدفعها، أصبح الانتساب إلى حزب معارض قضية محفوفة بالمخاطر.
ففي الدولة الأمنية، تذوب شخصية عضو الحزب المعارض الاعتبارية، فهو يمارس التقية والازدواجية في محيطه الاجتماعي والوظيفي، ولا يعلم عدد الأعضاء في الجماعة التي ينتمي إليها، وتدريجيًا تمسك مجموعة صغيرة بالحزب وتستأثر “بأسراره”، ويتنامى بداخلها دور شخصية محددة تكون الممسكة الأشد بآلية عمل الحزب وتتحول إلى دكتاتور. حيث تضيق الأساليب الديمقراطية، وتتضاءل معها الحوارات داخل الحزب، ويتم تجنّب الخلافات وطرح الأسئلة، وتضيق دائرة اتخاذ القرارات ورسم السياسات، وفي لحظة ما تبرز الخلافات المتراكمة وتتحول إلى انشقاق ومؤامرة.
وفي الواقع، منذ أواخر سبعينيات القرن الماضي، تشكل حقل سياسي معارض “التجمع الوطني الديمقراطي” (حزب الاتحاد الاشتراكي الديمقراطي العربي، والحزب الشيوعي السوري – المكتب السياسي، وحزب العمال العربي الثوري، وحزب الاشتراكيين العرب، وحزب البعث الديمقراطي الاشتراكي العربي)، عمل على إعادة السياسة إلى المجتمع، ومناهضة الأسدية، التي طبقت في تعاملها مع التجمع المعلن خططًا متشعبة، حيث “فرزت مكوّناته إلى متشددين ومعتدلين، وضعفاء وأقلّ صعفًا، وتقليديين ومجددين، ومناضلين ومهادنين. وعملت على حبك صلات مباشرة وغير مباشرة، حزبية وأمنية، معهم، وإلى اختراقهم جميعًا”[26].
بداية، يمكن التقدير -بقسط من الموثوقية- بأنّ تنادي الأحزاب الخمسة المعارضة للنظام عام 1975 لإطلاق حوار سياسي، من أجل تشكيل تحالف يضمّها، كان ردًّا على فعلة النظام والتفافه على فكرة التعددية من خلال تشكيله الجبهة الوطنية التقدمية وإلحاق أحزابها بحزب البعث وفقًا للمادة الثامنة من دستور 1973، ولكل من الأحزاب المشاركة دوافعه ورؤيته ومواقفه؛ فحزب الاتحاد الاشتراكي العربي الديمقراطي، وأمينه العام الراحل الدكتور جمال الأتاسي، كان قد غادر الجبهة بعد أن نكث مفاوضو البعث بوعدهم بأن يلغوا المادة الثامنة من الدستور، بعد عام من تاريخ انطلاق الجبهة، بحجة منحهم الفرصة لتبريد الرؤوس الحامية داخل البعث، وما إن غادر حتى اكتشف أنهم دبّروا انشقاقًا داخل الاتحاد، تزعّمه حسيب كيالي وتاليًا صفوان قدسي الذين رفضوا مغادرة الجبهة، في حين أنّ انشقاق الحزب الشيوعي – المكتب السياسي آنذاك، بقيادة رياض الترك، عن الحزب الشيوعي الأم (خالد بكداش)، كان في جانب منه بسبب الموقف من الدخول في جبهة النظام، وكان الوضع ذاته عند الراحل عبد الغني عياش، بانشقاقه عن عبد الغني قنوت (حركة الاشتراكيين العرب)، أما حزب العمال الثوري العربي، فلم يشارك مع النظام في حوارات تخص الجبهة، وبخصوص حزب البعث العربي الاشتراكي جناح 23 شباط، فقد كانوا مستبعدين من أي حوار، ولديهم شعور عميق بالمظلومية بأنّ السلطة سُرقت منهم، على يد رفاقهم، ولم يتح لهم ترجمة رؤيتهم على المستويين القومي والقطري وكذلك تجاه القضية الفلسطينية.
استمرّت الحوارات حتى العام 1979، وتشكل التجمّع على أساس أنه إطار سياسي مفتوح لأحزاب ومنظمات سياسية، وشخصيات عامة ومواطنين مستقلين، وتألف من أحزاب سورية معارضة ومحظورة، وذات تلاوين أيديولوجية مختلفة، منها الشيوعي والعلماني والعروبي والوحدوي والاشتراكي، ويحسب للتجمع أنّ من أهم المبادئ التي قام عليها هي: الاعتراف بالتنوع والاختلاف، بصفتهما مصدر غنى وإثراء للواقع السوري، إذا ما استُخدما على الوجه الصحيح، واعتماد الحوار الديمقراطي، والانطلاق من الوحدة الوطنية والمصلحة العامة والاحتكام إليهما، والتعويل على قدرات الشعب في إنجاز التغيير المنشود، والاعتراف بحقه في اختيار النظام السياسي الاجتماعي الاقتصادي الذي يحقق مصالحه، ونظام الحكم الذي يحمي هذه المصالح، ويصونها ويعبّر عن هويته القومية.
لم يُتح للتجمّع أن يوصل رسالته كما يريد، وأن يقوم بدوره الذي انطلق من أجله؛ فقد تزامنت انطلاقته مع الصدام الكبير بين النظام وحركة الإخوان المسلمين، بداية الثمانينيات، وعندما حَسم النظام الصراع لصالحه بفظائع كبيرة، وبغطاء دولي غير معلن، وتفرّغ بعدها لبقية القوى السياسية ملاحقةً واعتقالًا وتصفية سياسية، حيث امتلأت السجون بالآلاف من نشطاء الأحزاب كافة؛ دخلت سورية مرحلة من الموات السياسي، وسطوة غير مسبوقة للأجهزة الأمنية، دامت نحو عقد ونصف العقد من الزمن، كانت فيها القوى السياسية -ومنها قوى التجمع- في حالة انكماش وحرص على الوجود، وانتظار ظروف أفضل تتيح إمكانية للعمل السياسي، حرص التجمّع فيها -من خلال خطابه ونشاطه السياسي- على أن يحدد موقعه المعارض للنظام، لكن دون التصعيد لدرجة الصدام مع النظام، وفي الوقت ذاته، لم يعمد النظام إلى تصفية التجمّع، ما دام يتحرك ضمن هذه الحدود التي يتحملها. وعلى سبيل المثال، ولفهم واقع العمل السياسي آنذاك في عام 1997، وصلت إلى الدكتور جمال الأتاسي أمين عام التجمع رسالة غير مباشرة، نقلها الدكتور بديع الكسم، بأنّ الرئيس الأسد ينوي فتح حوار وطني باتت تحتاجه سورية، مما دفع الدكتور حينها إلى كتابة افتتاحية “الموقف الديموقراطي”، النشرة السياسية للتجمع، حدد فيها رؤية التجمع لمناخ الحوار ومقدماته وشروطه، فما كان من النظام إلا أن اعتقل من ضمن حملة واسعة في حمص أربعة عشر عضوًا من التجمع، في رسالة مضادة أراد النظام أن يقول، للتجمع ولكل المعارضة، إنه هو من يحدد الحوار وأبعاده. وللمفارقة، كانت تلك أوّل مرة، في تاريخ النظام، يُطلق فيها سراح المعتقلين بعد 27 يومًا من تاريخ اعتقالهم، وكأنه أراد القول هل وصلتكم الرسالة؟
في السنوات الأخيرة من عقد التسعينيات، عكف التجمع على صياغة وثائق سياسية، كانت الغاية منها عقد مؤتمر للتجمع، وعلى الرغم من أنّ اللجنة المكلّفة بإعداد الوثائق قد أنجزتها، وتمت عملية توزيعها من أجل تلقّي الملاحظات من كوادر أحزاب التجمع وبعض الشخصيات المستقلة، فإن المؤتمر لم يُعقد، ولم تقرّ الوثائق لسببين: أولهما، تقدير قيادة التجمع حينها بأنّ المناخ الأمني غير ملائم لعقده، ويمكن أن تكون ردة فعل النظام أكبر من أن يستطيع التجمع تحملها. وثانيهما، أنه كان هناك كثير من الردود والملاحظات المثقلة بالأيديولوجيا القومية، خصوصًا التي قرأت في وثائق التجمع تراجعًا بمعنًى من المعاني عن مواقفه السياسية، من حيث جذريته تجاه النظام، دون أن يعنيهم بشيء تطورات الواقع السوري عبر عقدين من الزمن.
وعلى إثر التحوّلات الكبرى التي أفرزها سقوط جدار برلين، حاولت أحزاب التجمع إجراء مراجعة عامة لأوضاعها في أوائل تسعينيات القرن الماضي، من خلال ورشة عمل محدودة لعدد من رموز التجمع، وصلت إلى “مشروع برنامج سياسي” و”مشروع لائحة داخلية”، على أمل “الإسهام في إحياء السياسة”، من خلال تحويل التجمع إلى “تيار سياسي” يلبي حاجة الواقع السوري إلى التغيير. ولكنّ الفشل كان مصير هذه المحاولة، بل إنّ عبدالله هوشة، أحد العاملين على المشروع، اتُهم من بعض أوساط حزبه بـ “التآمر مع جمال الأتاسي وآخرين من أجل تصفية الحزب”.
بخلاف أحزاب التجمّع، لم يكن لجماعة الإخوان المسلمين مطالب تتعلق بالانتقال للنظام الديمقراطي، فقد تأرجحت مواقفها من النظام، بين صراع واستجابة لدعوات المصالحة معه[27]. ففي عام 1979، حين كانت هناك مؤشرات على تزايد الاستياء الشعبي من النظام، وقد تُوّج بمؤتمرات للنقابات المهنية (المحامين والأطباء والمهندسين والمعلمين) طالبت بالحرية والديمقراطية وإلغاء حالة الطوارئ وإطلاق سراح المعتقلين، وانتهى الأمر بحلّ النقابات واعتقال قادتها، قال الشيخ أمين يكن إنه أخذ موافقة حافظ الأسد على مبادرة للحوار مع جماعة الإخوان الذين وافقوا على المبادرة[28]. ولكنّ حافظ الأسد رفض مطالبهم، فاتجهوا نحو تشكيل “الجبهة الإسلامية في سورية”، التي أصدرت بيانًا سياسيًا، تحت عنوان “بيان الثورة الإسلامية في سورية ومنهجها”، وقّعه قادتها: سعيد حوى، وعلي صدر الدين البيانوني، وعدنان سعد الدين[29].
بعد مجزرة حماة في شباط/ فبراير 1982، استتبّ الأمر لنظام الأسد، وتمّ القضاء على أي وجود فعليّ للجماعة في سورية، وبينما اعتُقل من تبقى من أعضاء الجماعة وقواعدها وتعرّضوا للتصفية تباعًا، كانت قيادات الإخوان في الخارج. وهكذا، فقد أدى قمع الأجهزة الأمنية ونزع السياسة من المجتمع السوري، بعد مجزرة حماة والاعتقالات الواسعة لمختلف أطياف المعارضين، إلى ظهور أحزاب “مغلقة ومعزولة عن محيطها الاجتماعي”، وجعلها “أقرب إلى الاستقالة السياسية والثقافية”[30].
بعد أن ألغت الدولة الأمنية الحياة السياسية السليمة القائمة على التعددية، ومجيء الوريث بشار الأسد عام 2000، لم تختر أحزاب المعارضة العمل السري، بل راهنت، خاصة بعد خطاب القسم للوريث، على إمكانية إصدار قانون لتشكيل الأحزاب، وكانت أهدافها إصلاحية[31]: “أولها، مطالب محددة، تتمثل في وقف العمل بالأحكام العرفية، وإطلاق سراح السجناء السياسيين، وعودة المنفيين، والاحتكام لصناديق الانتخاب. وثانيها، طمأنة النظام بأنه ليس من أهدافها إسقاطه أو تغييره. وثالثها، اتخذت العلنية أسلوبًا لنشاطها، أي أنها رفضت أساليب العمل السياسي السري، وكشفت نفسها للسلطة. ورابعها، تمسكت بالاعتدال وبالممكن، في الأهداف والوسائل”.
وأبدى بعض عناصر النظام الأمني عام 2003 شيئًا من المرونة، مثل بهجت سليمان، الذي كتب: “في سورية، ليس هناك معادون للنظام القائم فيها وإنما هناك معارضون له، غير أنّ معارضتهم هذه لا تندفع إلى ما هو أبعد من المطالبة بتحقيق بعض الإصلاحات السياسية والاقتصادية”. ومن المرجّح أنّ هذا الموقف “المرن” من المعارضة كان مجرد توزيع أدوار بين أركان الدولة الأمنية، والدليل على ذلك أنه بدلًا من التواصل مع هؤلاء المعارضين، “حمل بشار الأسد بقوة على المثقفين اليساريين، في محاولته تصفية البديل المعقول الذي شكّلوه لحكمه”[32].
ومن الواضح أنّ الأجهزة الأمنية كانت تدرك نتائج عملها على مستوى ضخامة المفارقات التي كانت تعيشها أحزاب المعارضة، ذلك أنّ السلطة في هذه الأحزاب، مثل السلطة الحاكمة، ذات طابع شخصي، “يختزل الحزب في قيادته، والقيادة في مكتبها السياسي، وهذا الأخير في الأمين العام”[33].
إنّ نهج الدولة الأمنية أدى إلى انحسار دور أحزاب المعارضة ذات النزعات الديمقراطية، وقد ظهر ذلك جليًا في عدم قدرتها على مواكبة الحراك الشعبي السوري، منذ انطلاقه في آذار/ مارس 2011 حتى الآن، بل لم تستطع أن تؤثر في الكيانات السياسية والمجتمعية الجديدة، التي جاءت تعبيرًا عن تعطش السوريين إلى السياسة، التي غابت عنهم طوال عقود من الزمن. ولكنّ أغلب هذه الكيانات لم يُكتب لها النجاح في التحوّل إلى رافعة للعمل السياسي، بل إنها لم تمتلك مقوّمات البقاء والاستمرارية، أي الحوامل الفكرية والاجتماعية والزعامات السياسية المؤسسة لها.
وبعد مرور ما ينوف على عشر سنوات من حراكهم لأجل الحرية والكرامة، ما زال السوريون بحاجة ماسة إلى الانتظام في مؤسسات سياسية ومجتمعية فاعلة تعبّر عن تطلعاتهم ومصالحهم، وإلى الإقلاع عن الحذر المتوارث من الدولة الأمنية، من أهمّها[34]: 1)ً – افتقار السوريين إلى ثقافة سياسية، وافتقار الوعي السوري العام إلى فهم طبيعة الدور الذي تسهم من خلاله الأحزاب السياسية في عملية التغير. 2)ً – الدور الباهت والهزيل لأحزاب المعارضة التقليدية في مسار الثورة السورية، وعدم قدرتها على مواكبة الثورة سياسيًا. 3)ً – خيبة الجماهير السورية من ثمرة أي نشاط حزبي. 4)ً – عدم قدرة الأحزاب والكيانات السياسية، سواء التقليدية أو الجديدة، على إنجاز مشروع سياسي قادر على استيعاب تطلعات السوريين.
ولعلّ ظهور جيل جديد من السوريين، الأقل أيديولوجية والأكثر انفتاحًا على الحوار والبرامج الواقعية، والناشط بين اللاجئين السوريين برؤى جديدة للحياة البشرية، بمصطلحات وشعارات وبوعي سياسي جديد يتمحور حول برامج سياسية واقعية تقطع مع الرؤى النظرية وتتطلع إلى الواقع المعاش وتستجيب لحاجات الناس الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، يمكن أن يعيد السياسة إلى المجتمع السوري.
تجليات الدولة الأمنية في مختلف مستويات الحياة السياسية:
كان الخطاب الشعبوي لحافظ الأسد يتحدّث عن الشعب وإرادة الشعب وسلطة الشعب ودولة الشعب، وأنه مع الديمقراطية، وقد تم تأطير هذا الخطاب على مستويات ثلاثة:
أ- مستوى حزب البعث:
منذ انقلابه في عام 1970، امتزج تاريخ حزب البعث ونظامه بسيرته، بوصفه “قائد المسيرة”، وقد عبّرت مؤتمرات الحزب وقياداته عن مشاعر الحبور بـ “القيادة التاريخية الاستثنائية”.
لقد كانت زيادة الطاقة الاستيعابية للحزب عاملًا مهمًا في تمدد نفوذ حزب البعث بين أفراد الشعب، وخصوصًا منهم الفلاحين وأبناء الطبقة الوسطى. فـ “في أوائل عام 1963، كان هناك حوالي 400 عضو مدني فقط، بينما ارتفع إلى أكثر من 370107 عضو (عامل ونصير) في عام 1979، وإلى أكثر من مليون (عامل ونصير) في عام 1992. وهذا في دولة لا يتجاوز مجموع سكانها 12 مليون نسمة في عام 1992”[35]. إذ إنّ سلطة الأسد فتحت باب الحزب على مصراعيه أمام المنتسبين الجدد، وجعلت الانتساب إلى الحزب أمرًا مرغوب فيه من أجل ضمان القبول في المعاهد والجامعات، وضمان الحصول على الوظيفة.
مع الانقلاب، دخلت السلطة مسارًا جديدًا، “أصبحت فيه الأجهزة الأمنية هي المشرف الحقيقي على الحياة الداخلية للحزب، وبالتالي غدا الارتقاء الحزبي والاجتماعي مرتبطين بالولاء لها”[36]. فبعد ترسيخ سلطة الانقلاب، كان جهاز الحزب المدني “يعكس بنية السلطة داخل جهاز الحزب العسكري”، وقد عمدت الأجهزة الأمنية للنظام إلى حرف حزب البعث عن مبادئه الرئيسية المعلنة، واستغلال أعضائه لما فيه مصلحة النظام، وكان ذلك من خلال “تحوير دورهم بتكليفهم بكتابة التقارير عن المواطنين وتنظيم التظاهرات المؤيدة وتمجيد القائد، وحمل السلاح عند الضرورة، ولتصبح مسؤولياتهم في النهاية مشابهة تقريبًا لمسؤوليات أي مؤسسة أمنية، وظيفتها خدمة النظام مقابل بعض المكاسب والامتيازات والحماية”[37]. ولم يمضِ وقت طويل حتى انقلب الحزب مؤسسة انتهازية نفعية خاضعة للأجهزة الأمنية، وسرعان ما انخرط أعضاؤه في تعامل مباشر أو غير مباشر مع مختلف فروع الاستخبارات، وأخذوا يعتبرون كتابة التقارير الأمنية واجبًا تنظيميًا، فدانوا بالطاعة لرئيس فرع المخابرات أكثر بكثير من طاعتهم لأمين فرع الحزب. وهكذا، تغلّب الكم على النوع، “بعد أن تسرّب إلى صفوف الحزب انتهازيون، كالزئبق الرجراج، شغلهم الشاغل الوصول إلى مواقع القيادة والمسؤولية لتحقيق المكاسب المادية والمعنوية”[38].
على أبواب المؤتمر العاشر للحزب في عام 2005، الذي أمِلتْ بعض النخب السورية أن يجسد شعار الإصلاح الذي ما فتئ النظام يكرره منذ وراثته الحكم في عام 2000، رأى الراحل ميشيل كيلو[39]:
“1 – أنه على حزب البعث العربي الاشتراكي أن يُجري مراجعة عميقة لمسار السنوات الأربعين الماضية، يفيد فيها من الخبرة التاريخية، التي عاشتها البلاد ومن الواقع الراهن، كي يستطيع الحزب أن يرسم خطوات نحو المستقبل.
2 – يجب أن يبحث المؤتمر القطري للحزب عن طرق للمشاركة السياسية التي تكفل دورًا لمجتمع سورية وشعبها في الشؤون العامة، على أن يقرّ إصدار قانون أحزاب وفصل السلطات وإلغاء حالة الطوارئ والأحكام العرفية وتقييد صلاحيات أجهزة الأمن وتحرير التعليم والقضاء والإدارة من الوصاية.
3 – إعادة النظر في علاقة الحزب بالسلطة، وفصل المجالات التي تتقاطع فيها صلاحياتهما لرفع الكبح المتبادل الذي يمارسه تداخلهما على عمل كل منهما، والأخذ بمبدأ الشفافية والمحاسبة في عملهما، إذ ليس من المعقول أن يتحصن أي شخص بصلاحياته أو موقعه في الحزب، كي يضع نفسه فوق القانون والمساءلة، ويتصرف وكأن الحزب مزرعته الخاصة به يفعل بها ما يشاء”.
وقد جاءت نتائج المؤتمر مخيبة لآمال هذه النخب، التي كانت حريصة على الانتقال التدريجي السلس من نظام الحزب الواحد إلى نظام تعددي.
ب- مستوى الجبهة الوطنية التقدمية:
تم تشكيل “الجبهة الوطنية التقدمية” بناءً على أوامر مباشرة من حافظ الأسد، تحت غطاء توفير المشاركة السياسية والتعددية الحزبية إلى جانب حزب البعث الحاكم، بحيث لا تبدو الحكومات السورية ومجالس الشعب خالية من مشاركات حزبية. وفي الواقع، لم يقتصر استغلال النظام للأحزاب على البعث فقط، بل شمل الأحزاب السورية الأخرى، وذلك من خلال حصر نشاطها في إطار الجبهة التي قامت لسبب وحيد هو إضفاء شكل ديمقراطي على النظام، بالرغم من إصراره على ألا تتمتع الأحزاب المنضوية تحت هذه الجبهة بشخصية اعتبارية أمام القانون، كما منعها من العمل والانتشار، وبالأخص بين الطلاب والعسكريين.
المادة الثامنة من الدستور “حزب البعث هو قائد الدولة والمجتمع” غيّبت هيبة الأحزاب المنضوية تحت لواء الجبهة، وعززت الانتهازيةَ السياسية بين قيادات تلك الأحزاب، مما أبعدها عن هموم الشارع، وتطلعات الشعب المنهك، ففقدت كثيرًا من شرعيتها. وباتت العديد من تلك الأحزاب “تموَّل من السلطة الحاكمة، وأصبح العديد من مكاتبها مكاتب عمل شكلية ترتبط باسم المؤسس والعائلة الوريثة له، أو من المقربين منه، مما غيّب معايير الشفافية”[40]. إضافة إلى أنّ حافظ الأسد جعلها مجرد واجهة لديمقراطية مزعومة لا وجود لها، ولم يكن لها أي دور حقيقي في الحياة السياسية.
كانت القوة الأمنية هي الأداة الناجعة لتوطيد دعائم الاستبداد الأسدي، وباتت أكثر نجاعة، عندما تمَّ قوننتها في المادة الثامنة من الدستور، حيث تحددت سمات الجبهة بـ[41]:
“1 – شُكّلت هذه الجبهة بقرار سياسي، وليس لوجود الأحزاب المنضوية تحتها أي صفة قانونية، بل يمكن إلغاء وجودها بقرار سياسي أيضًا.
2 – خضوع أحزاب هذه الجبهة جميعها لمراقبة أمنية شديدة، بل إنّ عددًا من كوادرها الحزبية لا تخفى ارتباطاتهم الأمنية مع فروع الاستخبارات السورية وأقسامها.
3 – عدم وجود أي دور سياسي فاعل لهذه الأحزاب، وإبعادها عن صنع القرار وجعلها ملحقة بالسلطة ولا تحظى بأي قدرة على المبادرة، بل هي لا تملك الحق بإصدار جريدة أو مطبوعة من دون موافقة أمنية.
4 – لقد أدت هذه الأحزاب وظيفة دعائية لنظام الأسد، الذي كان يحرص على إيهام الآخرين بأنّ ثمة أحزابًا في سورية غير حزب البعث”.
ليست أحزاب الجبهة أحزابًا بمعنى الكلمة الحقيقي، إنها ليست ائتلاف أشخاص انضموا إليها على أساس طوعي، وهي تفتقر إلى برامج مستقلة، ولا تمثل فئات أو تكوينات أو مصالح مجتمعية معينة، ولا تدير توازنات سياسية في فضاء مجتمعي تناضل لجعله حرًا، ولا تعيش حياة داخلية منفتحة. وقد كانت في غالبيتها وليدة أسباب نفعية وانتهازية، فبُنيت التكتلات وصيغت المؤامرات للحصول على كرسي وزاري أو مقعد نيابي أو موقع في المجالس المحلية. وأدى ذلك مع الزمن إلى تشكّل شريحة من المستفيدين والفاسدين داخل تلك الأحزاب، أصبح همها وهاجسها الأساس كيفية الحصول على امتيازات مادية ومعنوية أكثر وكيفية الاحتفاظ بها لأطول فترة ممكنة. لقد “حضرت المصالح وغابت البرامج والأفكار والمواقف، وتلاشت الصفات النضالية والكفاحية، والسياسية، عندما كفّت تلك الأحزاب عن التعبير عن مصالح الناس والدفاع عنهم أمام سلطة الدولة التي اندمجوا بأجهزتها، كما فعل الحزب الحاكم، واستفادوا من امتيازاتها”[42].
5- مستوى المعارضة خاصة بعد توريث السلطة لبشار الأسد: (إطلالة على تجربتَي إعلان دمشق للتغيير الوطني الديمقراطي وجماعة الإخوان المسلمين)
انطلقت سلطة آل الأسد من أنّ أمن الدولة السورية يقتضي أمن النظام واستقراره، واعتبرت المجتمع المحكوم منبع الأخطار الأمنية؛ إذ إنّ الاستقلال الاجتماعي محظور، والمعارضة السياسية ممنوعة، ولا مقام للسياسة في الدولة الأمنية، “ليس هناك اختلافات نسبية ومصلحية تحل بالسياسة، وليس هناك فسحة للتسويات والتفاوض والمساومات والحلول الوسط. المساومة الوحيدة التي يرضى بها النظام هي التي يقبل فيها الطرف الآخر بإلغاء ذاته… هذا المفهوم المتطرف خطير أمنيًا، وضار سياسيًا، ومفسد أخلاقيًا”[43].
اضطرت الأحزاب السياسية، التي لم توافق على العمل وفق “ميثاق الجبهة الوطنية التقدمية”، إلى مواجهة خيارات بالغة القسوة، وكان عليها أن تختار بين مواجهة علنية مع سلطة قمعية، أو أن تصمت، أو أن تذهب إلى خيار العمل التنظيمي السري. حيث ظل الحراك السياسي السوري يتقلص شيئًا فشيئًا، متناسبًا بشكل عكسي مع تطور أجهزة القمع. وجاء صراع الإخوان المسلمين العنفي مع النظام، في نهاية عقد السبعينيات ومطلع الثمانينيات، ليفرض أجهزة المخابرات والجيش كسلطة مطلقة، وليسحق تمامًا كل الهوامش الضيّقة أصلًا للعمل السياسي، خاصة بعد حملة الاعتقالات الكبرى لنشطاء التجمع الوطني الديمقراطي، في تشرين الأول/ أكتوبر 1980.
وفرض تغوّل الدولة الأمنية، وشروط العمل السرّي للأحزاب السياسية المعارضة، شروطه المجحفة على آليات عمل هذه الأحزاب، وعلى بنيتها الداخلية، ومدى علاقتها بالمجتمع الذي تعمل فيه، ومن ثمّ على مجمل نشاط هذه الأحزاب، وعلى ديناميكيتها، أي فعاليتها وحضورها في المشهد السياسي، ولا سيما أنّ هذه الأحزاب خسرت، بحكم شروط القمع الشديدة وبحكم سرّيتها، أهم الأدوات السياسية التي تمتلكها الأحزاب السياسية في الظروف الطبيعية للعمل السياسي، كالتظاهر، والاعتصام، والتجمعات وغير ذلك. يضاف إلى هذا حرمانها التام من امتلاك وسائل إعلام، ومنع حرية النشر، والطباعة؛ إذ “خاض معظم أعضاء الأحزاب السرية تجارب مريرة، سواء عبر الاعتقال أو التخفّي، أو الهروب خارج البلاد، وكان لهاجس الملاحقة الأمنية تأثيره الشديد على علاقتهم، وتصورهم للعمل السياسي وشروطه، الأمر الذي أنتج في معظم حالاته بنى سياسية مشوّهة، تمارس السياسة بشكل نظري، وليس لها علاقات حقيقية داخل المجتمع، وهذا ما اتضح لاحقًا عندما انفجرت الثورة السورية”[44].
شارك التجمع الوطني الديمقراطي بفاعلية في ربيع دمشق وظاهرة المنتديات، حتى بعد حملة النظام على المنتديات وإغلاقها، بعد خطاب عبد الحليم خدام على مدرج جامعة دمشق، نهاية آب/ أغسطس2001، واتهامه المنتديات بأنها تجرّ سورية نحو الجزأرة، وقد شملت الحملة عددًا من أبرز ناشطي المنتديات، إلا أن النظام أبقى على منتدى الأتاسي حتى تاريخ 24 أيار/ مايو 2005 ، بناءً على تقدير السلطة بأنّ من يديره الاتحاد الاشتراكي، لكن بعد ندوةٍ عُقدت في المنتدى حول الإصلاح السياسي في سورية، في 27 آذار/ مارس 2005، شارك فيها الإخوان بورقةٍ قُرئت نيابة عنهم؛ ألغى النظامُ المنتدى، متخذًا تلك الورقة ذريعة، وسجن عددًا من أعضاء إدارته.
9- إعلان دمشق للتغيير الوطني الديمقراطي:
كانت المهمّة العظمى التي قام بها التجمّع لصالح تفعيل العمل السياسي هي تبنّيه فكرة إعلان دمشق، والمضيّ بها حتى انطلاق الإعلان بتاريخ 15 تشرين الثاني/ نوفمبر 2005.
جاء بفكرة الإعلان اثنان من أبرز ناشطي المجتمع المدني، هما الراحلان ميشيل كيلو وحسين العودات، ووضعا الفكرة في عهدة التجمع الوطني الديموقراطي، الذي تابع المهمة بدءًا بصياغة الوثيقة التأسيسية، ثم التفاوض مع القوى السياسية المعارضة حتى تاريخ إنجازها يوم الإعلان عن انطلاقته. وأكدت الوثيقة أنّ التحولات المطلوبة تشمل مختلف جوانب الحياة، وتشمل الدولة والسلطة والمجتمع، وتؤدي إلى تغيير السياسات السورية في الداخل والخارج، وأنّ إقامة النظام الوطني الديمقراطي هي المدخل الأساس في مشروع التغيير والإصلاح السياسي، ويجب أن يكون سلميًا ومتدرجًا ومبنيًا على التوافق، وقائمًا على الحوار والاعتراف بالآخر، وإطلاق الحريات العامة، وتنظيم الحياة السياسية عبر قانون عصري للأحزاب، وتنظيم الإعلام والانتخابات وفق قوانين عصرية توفر الحرية والعدالة والفرص المتساوية أمام الجميع.
ضمّ الإعلان أوسع طيف سياسي في تاريخ سورية، مشكلًا ائتلافًا من أحزابٍ وهيئاتٍ وشخصياتٍ مستقلة، فقد كانت هناك أحزاب التجمع ومنظمات المجتمع المدني والجبهة والتحالف الكرديين، اللذين يضمان تسعة أحزاب إضافة إلى حزب يكيتي، كذلك ضم حزب المستقبل (نواف البشير) والمنظمة الآثورية الديمقراطية ومجموعة الإسلاميين الديمقراطيين، إضافة إلى عشرة من الشخصيات المستقلة بعضها يحمل مشروعًا ليبراليًا، وقد أعلنت انطلاقة الإعلان عبر مؤتمر صحفي بُث مباشرة من مكتب المحامي حسن عبد العظيم، الناطق الرسمي باسم التجمع، لكنّ الشرطة اقتحمت المكتب وصادرت الكاميرات وأوقفت المؤتمر، وكان الإعلان قد وصل إلى العالم الخارجي، وعلى الفور، أعلنت حركة الإخوان المسلمين وحركة العدالة والبناء انضمامهما إلى الإعلان، مع التنبيه بأنّ الإخوان لم يكونوا بعيدين عن المشاورات التي سبقت انطلاقة الإعلان.
تمدد الإعلان بسرعة، وتشكلت له منظمات في كل المحافظات السورية، واستطاع تشكيل 11 منظمة في 11دولة من دول المهجر. أما نظام الدولة الأمنية، فقد تصيّد الفرصة لضرب الإعلان في محطتين: أولاهما، بعد التوقيع على إعلان دمشق- بيروت في أيار/ مايو 2006، الذي دعا فيه الموقعون، وهو سوريون ولبنانيون، إلى إعادة النظر بالعلاقات السورية- اللبنانية المُختلة، وإعادة بنائها على أسس عادلة، تُخرج لبنان من أسر العلاقة المجحفة التي فرضها عليه النظام الأمني السوري، حيث اعتقل عشرة من الموقعين، وثانيتهما، اعتقاله 14عضوًا ممن حضروا المجلس الوطني لإعلان دمشق، الذي انعقد في دمشق بحضور 163 عضوًا، بتاريخ 1 كانون الأول/ ديسمبر 2007 ، الأمر الذي حال دون إمكانية عقده مرة أخرى داخل سورية.
10- جماعة الإخوان المسلمين:
بعدما انتقلت قيادة الجماعة إلى الخارج، بعد مجزرة حماة في العام 1982، عاشت تقلّبات وتناقضات كثيرة، إذ أعلنت معارضتها للنظام من خلال تشكيلات معارضة عدة، بدعم من نظام صدام حسين في العراق، أبرزها “جبهة الإنقاذ الوطني”، وكانت جريمة 11 أيلول/ سبتمبر 2001، وما رافقها من توجه أميركي لدعم اتجاهات إسلامية معتدلة، مفصلًا مهمًا في مراجعات الجماعة لوثائقها، حيث أصدرت مشروع “ميثاق الشرف الوطني للعمل السياسي في سورية”، في أيار/ مايو 2001، وعُرض خلال مؤتمر المعارضة السورية في آب/ أغسطس 2002 في لندن. ثم أصدرت في عام 2004 كتابًا من 180 صفحة، بعنوان “المشروع السياسي لسورية المستقبل”، يتضمن رؤية الجماعة لمستقبل الدولة السورية، واعتُبر في حينه نقلة نوعية في نهج الجماعة[45].
وفي عام 2005، أيدت الجماعة إعلان دمشق للتغيير الوطني الديمقراطي، ثم أسهمت عام 2006 في تشكيل “جبهة الخلاص الوطني” المعارضة في المنفى، مع نائب الرئيس السابق عبد الحليم خدام، وذلك في مؤتمر عُقد في بروكسل بمشاركة عدد من القوى الوطنية السورية المعارضة. وأدى التحالف مع خدام إلى التشكيك في مصداقية الجماعة، في نظر كثير من السوريين، خاصة من قيادة إعلان دمشق، نظرًا إلى الدور البارز الذي سبق أن اضطلع به هذا الأخير في نظام الأسد.
لكن مواقف الجماعة من النظام عادت تتأرجح بين صراع واستجابة لدعوات المصالحة معه، وسرعان ما انسحبت الجماعة من الجبهة، على خلفية خلافاتها مع خدام في إثر تعليق نشاطاتها المعادية للنظام، بعد الحرب الإسرائيلية على غزة في عام 2008، “توفيرًا للجهد للمعركة الأساسية مع الاحتلال الإسرائيلي”، كما قالت، في إشارة إلى النظام السوري الداعم لـ “حزب الله”، وهو ما أثار ردات فعل متباينة في الساحة السياسية السورية. وعندما سُئل القيادي في الجماعة ملهم الدروبي: “كيف تفسّر هذه التناقضات والتقلّبات الكبيرة في سياسة الإخوان تجاه النظام السوري ورموزه”؟ أجاب: “جاءت حرب غزة في نهاية 2008 وبداية 2009، فقررت الجماعة الوقوف مع المظلومين في غزة وتركيز كل جهدها في هذا الاتجاه، وأعلنت خروجها من الجبهة وإيقاف أعمالها المعارضة مؤقتًا، وإعطاء فرصة للمصالحة الوطنية والمحافظة على الوطن، لأننا كنا نستشعر أن سورية يهددها خطر التغيير الديموغرافي الذي تقوده إيران، وتعيش حالة انسداد كامل ولا يوجد في الأفق ما يبشر بخير، ولم نكن نتوقع ثورات الربيع العربي، فأراد البعض منا إعطاء فرصة لعلّ الوطنيين يجدون مخرجًا من حالة الانسداد هذه”[46].
كما سعى حزب العدالة والتنمية التركي الحاكم، الذي كان يتمتع بعلاقات جيدة مع بشار الأسد والجماعة على حدٍ سواء، إلى الوساطة بين الجماعة والنظام لحلّ الخلافات، غير أنّ النظام السوري رفض رفع الحظر القانوني عن الجماعة، فباءت المحاولة التركية بالفشل. وفي تشرين الأول/ أكتوبر 2010، بعد انتخاب محمد الشقفة مرشدًا عامًا للجماعة، قال مصرّحًا: “نودّ من الحكومة التركية التدخل لحل المشاكل”، وأوضح لاحقًا أنّ الجماعة كانت مستعدة لتغيير اسمها، إذا سُمح لها بالرجوع إلى سورية، وإذا وافق النظام على مطالبها، إلا أنّ ذلك لم يحصل[47].
وهكذا، بالتأكيد، إنّ المُنتَج السياسي للمعارضة التقليدية لا يوازي أبدًا مقدار التضحيات العظيمة التي قدمتها، ويصح القول: إنّ نظام الأسد استطاع سحقها، كما استطاع أن يحول بينها وبين أي امتداد شعبي متجذّر لها في المجتمع السوري، ولكن ما هو مؤكد أيضًا أنّ تلك المعارضة، وإنْ لم تتمكن من أن تراكم إرثًا سياسيًا يمكّنها من الحضور الفاعل في مشهد ما بعد الثورة، فد استطاعت أن تؤسس لوجود ضمير مقاوم، يرفض الانصياع والاستسلام، مهما بلغت سطوة الدولة الأمنية.
11- قانون الأحزاب الجديد:
في آذار/ مارس 2011، انضمت سورية إلى قاطرة ثورات الربيع العربي في موجته الأولى، واتسعت رقعتها بحيث شملت أغلب الجغرافيا السورية، وتأكد النظام أنه أمام ثورة حقيقية وواسعة، ربما تشكل من حيث اتساعها وشموليتها، لجهة التنوع الاجتماعي للمنخرطين فيها، أكبر تهديد واجهه في تاريخه، قياسًا بالتهديد الذي واجهه في أحداث الثمانينيات، إبان الصدام بين النظام وجماعة الإخوان المسلمين. وذلك من خلال افتراقه عنها في حيثيتين مهمتين: أولاهما أنها جاءت في سياق ثورات الربيع العربي التي انطلقت أواخر العام 2010 من تونس. وثانيتهما شمولية الثورة في بعدَيها الاجتماعي والجغرافي، وكذلك في سلميّتها التي استمرت ستة أشهر، قبل أن تُدفع نحو العسكرة التي يتحمل النظام المسؤولية الأكبر في الدفع إليها، كخيار سيكلف كثيرًا، بحكم عوامل عديدة منها التدخّل الخارجي الذي استدعاه النظام مبكرًا، أو التدخلات اللاحقة لصالحه، وكذلك تدخل أطراف إقليمية أخرى إلى جانب قوى المعارضة، التي راح بعضها ينتظم في تشكيلات عسكرية مقاتلة، شجع عليها انشقاقات كثير من ضباط وعناصر الجيش والقوى الأمنية، الذين رفضوا المشاركة في قتل المدنيين، وكذلك نتيجة حجم العنف الذي استعمله النظام بشكل تصاعدي من ضمن خياره الأمني العنفي.
12- الكيفية والآليات التي التفّ بها النظام على مفهوم التعددية السياسية بعد العام 2011:
قد يكون من المفيد التذكير أنّ النظام، إلى جانب تصعيد خياره الأمني من ضمن خبراته الأمنية، قام بالاتصال بشخصيات معارضة أو بأحزاب مثل التجمع الوطني الديمقراطي والأحزاب الكردية، سواء عبر بعض شخصيات ومسؤولين مكلفين من قبله أو عبر الأجهزة الأمنية مباشرة، تحت عناوين التشاور والتباحث حول دوافع الحالة التي انطلقت في سورية، وما هي السبل الناجعة للتعامل معها سياسيًا، أي الإيحاء باستعداده لإجراء إصلاحات سياسية ودستورية، لكنّ محاولاته تلك لم تُجدِ نفعًا، لأنّ الذين تحاور معهم أو استمزج آراءهم لم يوافقوه رؤيته لتقييم وتفسير ما جرى من جهة، ومن جهة ثانية لحجم الخروج الاجتماعي على النظام، الذي كان أكبر من أن يستطيع أحد ضبطه أو التحكم فيه، خصوصًا أنّ هذه الثورة كانت ثورة غير نمطية، لم تطلقها قوة سياسية أو تحالف قوى، ولم يدّعِ أحد شرف ذلك بطبيعة الحال، وعليه فقد انتهت محاولاته تلك دون نتائج. وكذلك يفيد التذكير أيضًا، أنّ المحاولة ذاتها قام بها إبان أحداث الثمانينيات مع بعض القوى اليسارية، وعلى الرغم من أنّ بعض تلك القوى وافقته في تقييمه لتلك الأحداث، بوصفها على أنها هجمة رجعية، وغيّرت في أولوياتها السياسية، فإنها لم تسلم من بطشه واعتقالاته الواسعة وسنين السجون المديدة، التي نالت أعضاءها من ضمن حملته على القوى اليسارية، بعد أن كسب معركته في مواجهة الإخوان، وهذه لم تشطب من الذاكرة السياسية للقوى السياسية السورية.
ولا يخفى أنّ من محاولات النظام الالتفاف على مطالب الثورة التي بدأت إصلاحية السماحَ بعقد مؤتمر فندق (سميراميس) بدمشق في 4 تموز/ يوليو 2011، الذي حضرته نحو 200 شخصية، تحت عنوان “سورية للجميع في ظل دولة مدنية ديمقراطية”، ولم يعنه منه ومن بيانه الختامي شيء، بل إنّ الحاضرين تعرضوا لمضايقات من بعض الموالين، وإنما أرادها مناسبة للإيحاء بأنه منفتح على السماح للمعارضة، بأن تجتمع في دمشق وتناقش وتطالب، دون أن يكون ملزمًا بالأخذ بمطالبها، كما كانت فرصة لأجهزته الأمنية لتتعرف على نمط تفكير النخب السورية المعارضة، وغير المنتظمة في هياكل الأحزاب التقليدية، وإلى أي مدى يمكن أن تذهب في خياراتها.
وكذلك كان النموذج الثاني السماح بعقد مؤتمر للحوار الوطني في مجمع (صحارى) بأطراف دمشق، ترأسه فاروق الشرع نائب رئيس الجمهورية، في 10 تموز/ يوليو 2011، وعلى الرغم من توجيه الدعوة لأحزاب مثل هيئة التنسيق وبعض الأحزاب الكردية وشخصيات مستقلة داخل البلاد وخارجها، فقد قاطعت كل الأحزاب وبعض الشخصيات المدعوة المؤتمر، وعلى غرار ما حدث بمؤتمر (سميراميس)، تعامل النظام مع نتائج مؤتمر صحارى بعدم اكتراث، حتى إنّ فاروق الشرع الذي ترأس المؤتمر وقال في الجلسة الافتتاحية “إنه لا رجعة عن الحوار الوطني، وأنّ الحوار ليس منّة من أحد، وليس تنازلًا من الحكومة إلى الشعب، وإنما هو واجب” [48]، قد غُيّب هو الآخر من المشهد السياسي السوري بعدها، كما غاب أيٌ من طلبات المؤتمرين وبيانهم الختامي، ذلك أنّ النظام ماضٍ بخياره الأمني، وكل هذا الحراك للتغطية على خياره ذاك.
ما تقدّم أعلاه كان شيئًا من إلقاء الضوء على محاولات النظام الالتفاف على مطالب الثورة وكسب الوقت، وكذلك توضيح المناخ، الذي طرح فيه النظام مشروع السماح بتعددية سياسية، وترخيص أحزاب جديدة، وذلك من ضمن تحركاته وإجراءاته بالالتفاف على مطلب السماح بحرية الرأي والتنظيم، وإنهاء تسلط حزب البعث على الحياة السياسة التي قوننتها المادة الثامنة من دستور 1973، تلك التعددية التي التف عليها البعث مرتين سابقًا، ويريد إفراغها من مضمونها في المرة الثالثة.
ثم جاء المناخ الذي أشاعته الثورة السورية، ليتفتق ذهن النظام وأجهزته الأمنية عن إصدار قانون جديد، يسمح بتشكيل أحزاب سياسية بناءً على مرسوم رئاسي، ووفقًا لما حددته اللائحة التنفيذية الصادرة عن رئاسة مجلس الوزراء لتفعيل القانون والشروط الناظمة لعمل الأحزاب، التي سمح بترخيصها تنفيذًا للمرسوم التشريعي رقم 100 تاريخ 12 أيلول/ سبتمبر2011، ويهدف وفقًا لبيان وكالة الأنباء السورية الرسمية (سانا) إلى “أنه جاء في إطار ترجمة توجهات برنامج الإصلاح السياسي، وبهدف إغناء الحياة السياسية وتنشيطها والمشاركة في مسؤولياتها وتداول السلطة”.
وقد حددت اللائحة التنفيذية الصادرة عن رئاسة مجلس الوزراء الشروط التي تحكم موجبات الترخيص وآلية عمل تلك الأحزاب. ومما ورد في المادة 10 منه: تحدث في وزارة الداخلية أمانة سرّ للجنة تسمّى أمانة سر لجنة شؤون الأحزاب، تتولى تسيير الأمور الإدارية للجنة. وفي المادة 40 اعتبر أحزاب الجبهة الوطنية التقدمية مرخصة حكمًا، وتودع وثائقها خلال ستة أشهر لدى اللجنة بما يتوافق مع أحكام القانون ولائحته التنفيذية.
13- بعض الانتقادات والمآخذ التي وُجهت إلى القانون:
صحيح أن إعلان وقف العمل بقانون الطوارئ والأحكام العرفية كان قبل صدور القانون إلا أنّ الترخيص تم في ظل دستور 1973، الذي تضمنت مادته الثامنة أن حزب البعث قائد للدولة والمجتمع، وعليه، أين بصبح الحديث عن التعددية وتداول السلطة! وكان من المفترض أن يُسبق هذا القانون بدستور جديد، يحدد الحقوق وينظم الحياة السياسية والحريات، وأيضًا فصل السلطات الثلاث بشكل فعلي، وليس نظريًا كما هو واقع الحال.
حرمت الأحزاب الكردية جميعها من الترخيص، بدعوى عدم السماح بقيام أحزاب على أساس ديني أو قومي أو طائفي أو مناطقي، في حين أن حزب البعث الحاكم يبالغ أيّما مبالغة بقوميته العربية، وكذلك وافق على ترخيص حزب التضامن العربي الديمقراطي. ومن جهة أخرى فإن الحزب القومي الاجتماعي السوري، الذي يرفض الاعتراف بالقومية العربية، ممثل بالجبهة الوطنية التقدمية، والتناقض الآخر أنّ الحزب الآشوري الديمقراطي وحزب الاتحاد السرياني، لم يتم الترخيص لأي منهما لتلك الموانع، في حين سمح لهما بتشكيل ميليشيا مسلحة (قوات السوراتو) حظيت بدعم النظام، وقاتلت في أكثر من جبهة في سورية.
أعطى القانون السلطة التنفيذية سلطة القرار في الموافقة على الترخيص من عدمه، من خلال اللجنة المخولة والمشكلة لهذه الغاية، برئاسة وزير الداخلية وعضوية قاض وثلاثة من الشخصيات العامة المستقلة يعيّنهم رئيس الجمهورية لمدة ثلاث سنوات، ثم يشكل وزير الداخلية لجنة لأمانة السر، مهمّتها متابعة الأمور الإدارية للأحزاب المرخصة، وبذلك تكون السلطة التنفيذية (الأمنية) قد حازت حقًّا موجهًا، سمح لها بالتحكم في هذه التعددية، وكان المفترض أن يكون هذا الحق لصالح سلطة قضائية مستقلة عن التحكم الأمني.
اشترط القانون على الحزب المتقدّم بطلب ترخيص أن يكون الطلب موقعًا من خمسين عضوًا من المؤسسين، مثبتة تواقيعهم لدى الكاتب بالعدل، وبعد الحصول على الترخيص أن يقدم الحزب لائحة من 1000 عضو مثبتة تواقيعهم عليها لدى الكاتب العدل، خلال 60 يومًا من تاريخ صدور الموافقة على الترخيص، وألا يقل عدد أعضائه في 50% من المحافظات عن 5% من عدد الأعضاء، والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو أيّ حزب يستطيع جمع هذا العدد في سورية، التي كانت فيها السياسة محرمة وكانت كلفة الاقتراب منه باهظة، ولماذا يريدون أسماء الأعضاء وقيدهم المدني ليحفظ لدى لجنة أمنية؟! وهل حققت الأحزاب المرخصة هذا الشرط فعلًا؟! الشك يسبق السؤال.
ربط القانون بين حصول التنظيم المرخص على مقدار الإعانة المالية السنوية بتقدير لجنة الأحزاب، وبعد مصادقتها على ميزانية الحزب السنوية، وربما بعدد المقاعد التي يحوزها في الانتخابات التشريعية، علمًا بأنه في الانتخابات الأخيرة يُرجح أنّ أي حزب من الأحزاب لم يفز بأي مقعد، مما يجعل هذه الإعانات نظرية ومتحكم فيها.
ما دام القانون جاء تعبيرًا عن انطلاق عجلة الإصلاح، كما جاء في تصريح وكالة (سانا) الرسمية، فعن أيّ إصلاح يتحدث النظام؟ وهو لا يعترف بمشروعية مطالب الثورة، بل يعدّها أداة في مؤامرة كونية، لم يوفّر سبيلًا لوأدها إلا مارسه. وأمام ضآلة الإنجاز الذي حققه القانون وشكليته؛ يبدو الأمر التفافًا على مطالب التعددية، وليس استجابة لها ولا قناعة بها ولا إصلاحًا في الحال، الذي خرجت الناس لتغييره.
14- الأحزاب والحركات التي طلبت الترخيص:
هناك عشرون حزبًا وحركة تقدّم بطلبات ترخيص بعد أن صدرت اللائحة التنفيذية، وقد قبلت لجنة الأحزاب عشرة منها ورفضت عشرة، لكنّ الرفض لم يمنع تلك الأحزاب من متابعة نشاطها، بغض النظر عن فعالية ذلك النشاط، بناءً على قاعدة غض النظر الذي تتبعه الأجهزة الأمنية عادة وفقًا لتقديراتها الأمنية، ومنها -على سبيل المثال- هيئة التنسيق الوطنية وتيار بناء الدولة، وقد صدرت لائحة بالأحزاب التي تمت الموافقة على ترخيصها، مع اعتبار حزب البعث وأحزاب الجبهة أحزاب مرخصة بداهة، وبذلك يكون هناك عشرون حزبًا مرخصًا رسميًا، وقد ثبتت اللائحة التي حُددت فيها الأحزاب المرخصة، قديمها وجديدها، حسب مديرية الوثائق.
أما الأحزاب والحركات التي لم تحظَ بموافقة لجنة الأحزاب فهي:
الحزب الليبرالي السوري؛ الحزب الأشوري الديمقراطي؛ حزب التأسيس السوري؛ هيئة التنسيق الوطنية؛ تيار بناء الدولة؛ الحزب الوطني السوري الجديد؛ حزب النهضة الوطني الديمقراطي؛ حزب الاتحاد السرياني؛ الحزب الديمقراطي السوري؛ الجبهة الشعبية للتغيير والتحرير.
15- السمات العامة لبرامج الأحزاب المرخصة ومحدودية أدوارها في الحياة السياسية:
إنّ برامج أيّ حزب سياسي سوري، بعد ديمومة الدولة الأمنية ووطأتها على مجمل حياة السوريين طوال أكثر من خمسة عقود، ومنها الأحزاب المرخصة في عام 2012، لا تتعاطى مع حاجات المجتمع السوري الملموسة، الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية، انطلاقًا من وضوح آليات إعادة بناء الدولة السورية طبقًا لقيم العصر المتمثلة بالديمقراطية وحقوق الإنسان دون مواربة، ولا يمكن أن تسهم بجدارة في إعادة بناء سورية التي طالب بها السوريون مند حراكهم من أجل الحرية والكرامة، في آذار/ مارس 2011.
ويبدو واضحًا، بعد قراءة متمعنة لبرامج الأحزاب المرخص لها في العام 2012، أنها تعمل “تحت سقف الوطن”، أي تحت خيمة نظام الاستبداد. ولا يغيّر في النتيجة مطالبة حزب الإرادة الشعبية -مثلًا- بـ “إعادة هيكلة الأجهزة الأمنية وفقًا لتحديد وظيفي ودور وطني وصلاحيات واضحة، وإخضاعها للمساءلة القانونية والقضائية، وإعطاء الحكومة حق مراقبتها ومحاسبتها عبر القضاء المستقل”[49]. أو حزب التضامن السوري الذي يرفع شعارات “وطن، عدالة، تحرير”، ويتهرب من الشعارات الملموسة التي تستجيب لحاجات الشعب السوري، نحو شعارات حزب البعث التي خبرها شعبنا جيدًا “نحن أعضاء الهيئة التأسيسية لحزب التضامن نعلن أننا وضعنا هذا النظام لتحقيق الأهداف التي تعبّر عن وعي أمتنا وضميرها الحي والتي ضحى من أجلها الآباء والأجداد في نشر روح المحبة والإخاء والحفاظ على هوية وثقافة وقيم ومثل الأمة. وتنمية الوعي الاجتماعي بين المواطنين حتى يشعر كل إنسان أنه جزء من بنيان الوطن العربي ولضمان الحريات الأساسية وتحرير المواطنين من الفقر والمرض والجهل وإقامة نظام اجتماعي واقتصادي يحقق العدالة الاجتماعية للجميع”[50].
أما حزب الشباب الوطني للعدالة والتنمية، ذو الميول العلمانية، فهو “يدعو إلى تجديد النظام السياسي السوري، من خلال تمكين وترقية الشباب إلى مناصب القيادة وصنع القرار”، وتطوير “دولة متحضّرة وديمقراطية”[51].
وهكذا، ثمة ملاحظات جوهرية على برامج وآليات عمل هذه الأحزاب: أولاها أنها ما زالت متأثرة بنمطية البرامج السياسية للأحزاب السورية التقليدية، التي تريد التطرّق إلى كل شيء، ولا تقدّم له رأيًا سياسيًا فحسب، بل حلولًا هي واقعيًا خارج إمكاناتها التنظيمية والسياسية، فما زلنا أمام مطولات برامجية. وثانيتها المفارقة البائسة بين اللغة ومدلولاتها، ومن ذلك- مثلًا- ما ورد في مشروع برنامج حزب الإرادة الشعبية، فضلًا عن تقليدية خطابه وماضويته حول الإمبريالية والتحليل الطبقي وسواه، فقد تضمن مبالغات يصعب هضمها، فادعاؤه أنه وريث حركة التحرر الوطني في سورية وفي العالم يجعل المرء يخمّن أنه أمام حزب يعدّ أعضاؤه مئات الألوف ويفرض حضوره بقوة على الساحة الدولية. وثالثتها ما كشفته السنوات الماضية من محدودية عدد أعضاء هذه الأحزاب، ومحدودية تأثيرها في الشارع السوري. ورابعتها تعمدت كل الأحزاب التركيز على أهمية ومركزية دور الدولة في كافة المجالات، وتعمدت الابتعاد عن مفردات من قبيل النظام أو السلطة، أو حتى شكل نظام الحكم.
وطوال السنوات العشر الماضية من عمر قانون الأحزاب- كما كان متوقعًا في دولةٍ مثل سورية- خُنق الحقل السياسي والعمل السياسي، في ظلّ دولة أمنية من نوع خاص، وبدا الأمر كأنه محاولة للتغطية على واقع بائس بلغ حدَّ الانفجار، أو للتضليل في منعرجات الصراع الدائر في سورية، فقد شارك أغلب قيادات هذه الأحزاب في لقائي موسكو الأول والثاني عام 2015، حتى إن السيدة مجد نيازي (الأمينة العامة لحزب سورية الوطن)، حازت شرف الطلب من وزير خارجية كازخستان، في اللقاء الثاني، بأن تتكرم بلاده وتدعو لمؤتمر في آستانا يجمع المعارضة والنظام والدول الراعية، وهكذا اشتُق مسار آستانا، الذي خططت له وأدارته روسيا، بمشاركة كل من إيران وتركيا، بغية الالتفاف على القرارات الدولية ذات الصلة، ومحاولة فرض حل وفق رؤيتها. وبشكل عام، لم يعرف لهذه الأحزاب المرخصة أي نشاط يصبّ في تأييد مطالب الشعب السوري في التغيير الوطني الديمقراطي.
16- أهم الاستنتاجات والتوصيات:
أ- استطاعت السلطة الأمنية، بالقهر والتضييق، أن تصحّر الحقل السياسي، وحرمت المعارضة من تحسين أدائها وفاعليتها وكسب دماء شابة جديدة.
ب- حرص رأس النظام على إنشاء أجهزة أمنية عديدة، تراقب الشعب، ويراقب بعضها بعضًا بهدف خلق التنافس وتناقض المصالح فيما بينها، مع ربطها جميعها به مباشرة، كي تتحول إلى أداة رئيسية من أدوات سيطرته.
ت- الدولة السورية تخرج من الحقل القانوني لدولة الحق والقانون، وتتحول إلى دولة شمولية تتسلط الأجهزة الأمنية فيها على البلاد والعباد، على امتداد تسع وخمسين سنة.
ث- أدت أحزاب الجبهة الوطنية التقدمية وظيفة دعائية لنظام الأسد، الذي كان يحرص على إيهام الآخرين بأنّ ثمة أحزابًا في سورية غير حزب البعث.
جـ- كانت “سوريا الأسد” دولة الحد الأدنى في مجال الخدمات الاجتماعية، ودولة الحد الأعلى في المجال الأمني.
حـ- حوّلت أجهزة الدولة الأمنية المجتمعَ إلى مجتمع الخوف المتبادل والريبة المتبادلة، وأخضعت النسيج الاجتماعي لمقاييس عملائها ومعاييرهم الأخلاقية التي هي معاييرها وقيمها.
خـ- افتقار الوعي السوري العام إلى فهم طبيعة دور الأحزاب السياسية في عملية التغيير، بل خيبة أمل السوريين من ثمرة أي نشاط حزبي، سواء في المستوى السياسي أو الاجتماعي.
د- من دون تفكيك الدولة الأمنية، التي دمّرت المجتمع والدولة معًا وحلت محلهما، لا يمكن للدولة السورية أن تولد من جديد، ولا للمجتمع السوري أن يستعيد حياته وتعايش مكوّناته.
ذ- أثبت الحراك الشعبي السوري، طوال السنوات العشر الماضية، الحاجة الماسة إلى وجود النخب السياسية، لإعادة بناء الدولة الوطنية الحديثة، والسير باتجاه بناء مجتمع متعدد سياسيًا واجتماعيًا، يحافظ على السلم الاجتماعي، من خلال الحكم التداولي للسلطة السياسية.
ر- إنّ وجود أحزاب سياسية في سورية المستقبل يبدو ضرورة مهمة، إذ لا بديل عن الأحزاب في صياغة سياسات الدولة، سواء أكانت هذه الأحزاب في الحكم أم في المعارضة.
ز- بعد مرور ما ينوف عن عشر سنوات على حراكهم من أجل الحرية والكرامة، ما زال السوريون بحاجة ماسة إلى الانتظام في مؤسسات سياسية ومجتمعية فاعلة تعبّر عن تطلعاتهم ومصالحهم، وإلى الإقلاع عن الحذر المتوارث من الدولة الأمنية.
17- مراجع البحث:
- برو، فيليب. علم الاجتماع السياسي، ترجمة محمد عرب صاصيلا، بيروت: المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع.
- بطاطو، حنا. فلاحو سورية، ترجمة، عبد الله فاضل ورائد النقشبندي، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات.
- الحاج صالح، ياسين. بالخلاص، يا شباب! (16 عامًا في السجون السورية)، لندن، دار الساقي، 2012.
- الدبس، مضر. في ضوء الألم (تفكير في بنى الاجتماع السياسي السوري)، بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2021.
- سورا، ميشيل. سورية الدولة المتوحشة، ترجمة أمل سارة بالاشتراك، بيروت: الشبكة العربية للأبحاث والنشر، 2017.
- فان دام، نيقولاس. تدمير وطن (الحرب الأهلية في سورية)، مجموعة مترجمين، بيروت: دار جنى تامر للدراسات والنشر، 2018.
- فان دام، نيقولاس. الصراع على السلطة في سورية (الطائفية والإقليمية والعشائرية في السياسة)، القاهرة: مكتبة مدبولي، 2006.
- كيلو، ميشيل (محمود صادق): حوار حول سورية، القاهرة: دار مدبولي للنشر والتوزيع، 1993.
- كيلو، ميشيل. من الأمة إلى الطائفة (سورية في حكم البعث والعسكر)، إسطنبول، دار موزاييك للدراسات والنشر، 2020.
- مايكل كير وكريغ لاركين. العلويون في سورية (الحرب والدين والسياسة في المشرق)، ترجمة رضوان زيادة وأحمد العبدة، الدوحة: منتدى العلاقات العربية والدولية، 2021.
- هينبوش، رايموند. تشكّل الدولة الشمولية في سورية، ترجمة حازم نهار، لندن: دار نجيب الريس، 2014.
18- الملحق:
{ 67 حالة تتطلب من المواطنين الموافقة الأمنية }:
تتضح هذه الدلالة عيانيًا في المثال السوري، في ما ذكرته الصحافة الرسمية عن تخفيف تدخل الأجهزة الأمنية في حياة المواطنين، فقد نشرت صحيفة “الثورة” السورية، وهي إحدى ثلاث صحف رسمية تصدر في دمشق، يوم الثلاثاء 10 أيار/ مايو 2005، على صدر صفحتها الأولى، خبرًا عنوانه (إلغاء 67 حالة من الموافقة الأمنية المسبقة)، وجاء فيه “علمت الثورة أنه تم إلغاء الموافقة الأمنية المسبقة بشأن 67 حالة “، ثم أوردت الصحيفة قائمة طويلة نقتطف منها ما يأتي: التثبيت أو النقل أو الندب أو التعاقد لدى جميع جهات القطاع العام، الإعادة للعمل بعد انتهاء إجازة الاستيداع واعتبار الشخص بحكم المستقيل والغياب (ما لم يكن الشخص موقوفًا أو مكفوف اليد قبل الإعادة إلى العمل)، قبول الطلاب بالجامعات والمعاهد المتوسطة ومدارس التمريض، التكليف بتدريس ساعات من خارج الملاك في محافظتي دمشق وريف دمشق، وضع الطلاب تحت الإشراف للدراسة خارج القطر، الإيفاد الداخلي والخارجي والاستفادة من المقاعد الدراسية في بعض البلدان العربية والأجنبية، الموافقة على إقامة الندوات الطبية والدعائية للتعريف بمنتجات الشركات، تأسيس الجمعيات السكنية، تثبيت أعضاء مجالس إدارة الجمعيات، إقامة معارض فنية أو أسواق تجارية وأعراس جماعية، الترخيص لمكتب قطع تذاكر سفر، الترخيص لمكتب عقاري، الترخيص لمكتب بيع وشراء وتأجير سيارات، الترخيص لمكتب تعقيب معاملات، الترخيص لمكتب شحن بضائع، الترخيص لمدرسة تعليم وقيادة وإصلاح المركبات والآليات، الترخيص لمعهد تدريب على الحرف والمهن، الترخيص لجليسات الأطفال، الترخيص لمحل بيع أجهزة الخليوي وصيانتها، الترخيص لصالة بلياردو، الترخيص لصالة بينغ بونغ، الترخيص لصالة أفراح، الموافقة على منح الترخيص لفندق، الترخيص لألعاب كمبيوتر، الترخيص لمقهى، الترخيص لسيرك، الترخيص لأستوديو تصوير، الترخيص لمصوّر جوال، الترخيص لمنشأة صناعية للطباعة على الورق والكرتون، الترخيص لكشك، الترخيص لصالون حلاقة، الترخيص لمطعم، الترخيص لمحل بقالة، الترخيص لفرن خبز، الترخيص لاستيراد قطع السيارات الحديثة والمستعملة، الترخيص لمسبح، الترخيص لبيع وشراء وتأجير الدراجات النارية، الترخيص لمحطة محروقات.
19- الهوامش:
[1] – حنا بطاطو، فلاحو سورية، ترجمة، عبدالله فاضل ورائد النقشبندي، (الدوحة: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات)، ص 339.
[2] – فيليب برو، علم الاجتماع السياسي، ترجمة محمد عرب صاصيلا، (بيروت: المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع) ص 194.
[3] – ميشيل كيلو (محمود صادق)، حوار حول سورية، ط 1 (القاهرة: دار مدبولي للنشر والتوزيع، 1993)، ص 39.
[4] – رايموند هينبوش، تشكّل الدولة الشمولية في سورية، ترجمة حازم نهار، (لندن: دار نجيب الريس، 2014)، ص 33 – 39.
[5] – نجيب جورج عوض، في معنى حكم العسكر، صحيفة ” العربي الجديد” – لندن 25 تموز/ يوليو 2016.
[6] – نيقولاس فان دام، تدمير وطن (الحرب الأهلية في سورية)، مجموعة مترجمين، ط 1 (بيروت: دار جنى تامر للدراسات والنشر، 2018)، ص 137.
[7] – ميشيل سورا، سورية الدولة المتوحشة، ترجمة أمل سارة بالاشتراك، (بيروت: الشبكة العربية للأبحاث والنشر، 2017).
[8] – ملحق في أسفل متن البحث: 67 حالة تتطلب من المواطنين الموافقة الأمنية، في عام 2005.
[9] – مركز جسور للدراسات، علاقة السوريين وسلطة الحكم، إسطنبول آذار/ مارس 2018، ص 4 – 6.
[10] – ميشيل كيلو (محمود صادق): حوار حول سورية، المرجع السابق، ص 44.
[11] – بسام يوسف، الدولة الأمنية في سورية وتأثيرها على الحياة السياسية، تلفزيون سوريا 23 تشرين الثاني/ نوفمبر 2021.
[12] – حنا بطاطو، فلاحو سورية، مرجع سابق، ص 339.
[13] – مضر الدبس، في ضوء الألم (تفكير في بنى الاجتماع السياسي السوري)، ط 1 (بيروت، المؤسسة العربية للدراسات والنشر2021)، ص 41.
[14] – عبدالله هوشه، المعارضة السورية ومسألة الديمقراطية، مركز دراسات الجمهورية الديمقراطية – الورشة الأولى أيلول/ سبتمبر 2015، ص 15.
[15] – فيليب برو، علم الاجتماع السياسي، المرجع السابق، ص 194.
[16] – ميشيل كيلو (محمود صادق): حوار حول سورية، المرجع السابق، ص 15.
[17] – أوردها إبراهيم حميدي في تقرير لصحيفة “الحياة” – لندن 9 آب/ أغسطس 2005.
[18] – ميشيل كيلو (محمود صادق): حوار حول سورية، مرجع سابق، ص 152.
[19] – ميشيل كيلو، من الأمة إلى الطائفة (سورية في حكم البعث والعسكر)، (إسطنبول: دار موزاييك للدراسات والنشر، 2020)، ص 232.
[20] – المرجع السابق، ص 249 – 289.
[21] – بشار العيسمي، سورية ما بين العسكر والدولة المدنية (حوار لا بد منه)، صحيفة “أخبار الشرق” الإلكترونية، لندن 4 أيار/ مايو 2006.
[22] – حسن النيفي، الأحزاب السياسية في سورية 1970 – 2011.
انظر الرابط: https://orient-news.net/ar/news_show/85367
[23] – ياسين الحاج صالح، بالخلاص، يا شباب! (16 عامًا في السجون السورية)، ط 1 (لندن: دار الساقي، 2012)، ص 139.
[24] – ميشيل كيلو، من الأمة إلى الطائفة..، مرجع سابق، ص 243 – 245.
[25] – انظر الشهادات في الملف المرفق: أحمد مظهر سعدو، جورج صبرة، حسن النيفي، راتب شعبو، طلال مصطفى، فرج فرج، مازن عدي، محمود الوهب، مصطفى الدروبي، مهران الشامي، موفق نيربية، نادر جبلي، ندى الخش، هنادي زحلوط.
[26] – ميشيل كيلو، من الأمة إلى الطائفة..، مرجع سابق، ص 241.
[27] – دخلت في صراع مع النظام منذ 1964 في حماة، بعدما نصّت قوانين الطوارئ على عقوبة الإعدام لكلّ من يثبت انتماؤه إلى الإخوان، حيث قصف جيش النظام مسجد “السلطان”. ثم جاءت أزمة الدستور في العام 1973 وما تبعها من اغتيال الطليعة المقاتلة للدكتور محمد الفاضل المشارك الرئيسي في وضع الدستور الجديد، وحادثة مدرسة المدفعية في حلب عام 1979، حيث قتل 83 تلميذًا ضابطًا علويًا، التي أدت إلى اعتقال قياداتهم وإعلان الحرب الاستئصالية ضدهم. وصولًا إلى إصدار حافظ الأسد القانون الرقم 49 في العام 1980 الذي حظر الحركة وعاقب كل من يثبت انتماؤه لها بالإعدام. واستمر العنف بين الجانبين حتى شن النظام حملة لسحق الطليعة المقاتلة بعملية عسكرية كبرى استهدفت مدينة حماة في شباط/ فبراير 1982، على مدى شهر كامل، من 2 إلى 28 شباط/ فبراير، قتل فيها ما بين 10 آلاف و25 ألفًا من سكانها. بعد هذه الأحداث، غابت الجماعة عن الحياة السياسية داخل سورية، وهاجر قادتها وكثير من أعضائها الناجين إلى الخارج.
[28] – مطالبهم مقابل الصلح مع النظام كانت تقتصر على إطلاق سراح معتقليهم وإلغاء القانون 49 لعام 1980 الذي يحكم بالإعدام على أعضاء تنظيم الإخوان المسلمين، بالإضافة إلى حرية العمل الدعوي على طريقة البوطي وكفتارو.
[29] – نيقولاس فان دام، تدمير وطن…، مرجع سابق، ص 154.
[30] – عبد الله هوشه، المعارضة السورية ومسألة الديمقراطية، مرجع سابق، ص 16 و17.
[31] – منذر مصري، تم القضاء على المعارضة السورية… انبسطوا – موقع “كلنا شركاء في الوطن” الإلكتروني، 15 شباط/ فبراير 2008.
[32] – مايكل كير وكريغ لاركين، العلويون في سورية (الحرب والدين والسياسة في المشرق)، ترجمة رضوان زيادة وأحمد العبدة، ط 1 (الدوحة: منتدى العلاقات العربية والدولية، 2021)، ص 277.
[33] – جاد الكريم الجباعي، المعارضة السورية ومسألة الديمقراطية، مركز دراسات الجمهورية الديمقراطية – الورشة الأولى، أيلول/ سبتمبر 2015، ص 14.
[34] – عبد الله هوشه، المعارضة السورية ومسألة الديمقراطية، مرجع سابق، ص 16 و17.
[35] – طارق ناصيف، تجليات الحوكمة الرشيدة في الواقع السوري المعاصر، مركز حرمون للدراسات المعاصرة، 24 آب/ أغسطس 2020.
[36] – شمس الدين الكيلاني: الحزب والسلطة في سورية، صحيفة “المستقبل” اللبنانية، 20 حزيران/ يونيو 2007.
[37] – بشار العيسمي، سورية ما بين العسكر والدولة المدنية (حوار لا بد منه)، صحيفة “أخبار الشرق” الإلكترونية، 4 أيار/ مايو 2006.
[38] – نيقولاس فان دام، الصراع على السلطة في سورية (الطائفية والإقليمية والعشائرية في السياسة)، (القاهرة: مكتبة مدبولي، 2006)، ص 180.
[39] – ميشيل كيلو، على أبواب المؤتمر القطري لحزب البعث العربي الاشتراكي.. آراء لـ مثقفين ومفكرين وكتاب ونشطاء، صحيفة “تشرين” 17 أيار/ مايو 2005.
[40] – عصام خوري، الأحزاب السورية ومعايير الحكم الرشيد، صحيفة “أخبار الشرق” الإلكترونية، 28 كانون الثاني/ يناير 2006.
[41] – حسن النيفي، الأحزاب السياسية في سورية 1970 – 2011، مرجع سابق.
[42] – حازم نهار، هل يبقي البعث في سورية على صيغة الجبهة الوطنية التقدمية؟، صحيفة “الحياة” لندن، 4 أيار/ مايو 2005.
[43] – ياسين الحاج صالح، صورتان لمفهوم الأمن الوطني السوري/ مقاربة نقدية (1)، صحيفة “السفير” بيروت، 2 شباط/ فبراير 2006.
[44] – بسام يوسف، الدولة الأمنية في سورية وتأثيرها على الحياة السياسية، تلفزيون سوريا، 23 تشرين الثاني/ نوفمبر 2021.
[45] – حاوره إياد شربجي: ملهم الدروبي في حوار حول جماعة الاخوان المسلمين في سورية، نُشر في موقع “كلنا شركاء في الوطن” – 18 آب/ أغسطس 2016.
[46] – المرجع السابق.
[47] – المرجع السابق.
[48] – تقرير صحفي بعنوان مؤتمر الحوار الوطني السوري، انظر موقع http://www.dww.com
[49] – جريدة قاسيون، مشروع البرنامج السياسي حزب الإرادة الشعبية، 13 أيلول/ سبتمبر 2013.
– https://kassioun.org/politics/item/3123
[50] – موقع الحزب على فيسبوك: hzbaltadamon-https://m.facebook.com
[51] – مركز مالكوم كارنينغي للشرق الأوسط، http://carnegie-mec.org، 25 أيلول/ سبتمبر 2012.
* * *
20- شهادات من الحياة السياسية في سورية:
مقدمة:
حرصًا منّا على تعزيز دراستنا النظرية “تجليات الدولة الأمنية في الحياة السياسية السورية”، بشهادات من بعض الفاعلين في الأحزاب السياسية، نقدّم هذه الشهادات لرموز ممن كانت أحزابهم مشاركة في “الجبهة الوطنية التقدمية”، وآخرين من المعارضة التي تنتمي إلى التيارين اليساري والقومي، الذين عانت حيواتهم وأحزابهم وطأة الدولة الأمنية، وقد التزم اثنان من معتقلي جماعة الإخوان المسلمين في ثمانينيات القرن الماضي بمدّنا بشهادتيهما، ولكنهما لم يفيا بوعدهما.
هنا جملة من الشهادات لمجموعة من الناشطين السياسيين، الذين مارسوا السياسة في أحزاب الجبهة والمعارضة، ودفعوا أثمانًا باهظة من حياتهم بالسجون المديدة مع تضييق سُبل العيش والعمل عليهم، وقدّموا مشكورين نبذةً مهمّةً عن تجاربهم السياسية ومعاناتهم، وخُلاصاتٍ وقناعاتٍ واقعية حول تداعيات نهج الدولة الأمنية وممكنات العمل السياسي، في ظل مثل هذه الدولة، متجاوزين البعد التوثيقي أو التاريخي لمرحلة عاشوها، إلى محاولة رسم دليل عمل أمام شباب سورية، يكون أكثر فاعلية وجدوى في المستقبل.
1 – أحمد مظهر سعدو
منذ أن خطف حافظ الأسد الدولة والوطن السوري، عبر انقلابه (سيئ الذكر) الذي قام به ضد رفاق دربه في حزب البعث العربي الاشتراكي ورفاق سلاحه في الجيش السوري صبيحة 16 تشرين الثاني/ نوفمبر 1970، ومن ثم قيامه بزج الجميع في أتون سجونه المظلمة، وصولًا إلى الهيمنة الكلية على كل مفاصل المجتمع السوري، السياسية والاقتصادية والمجتمعية، واضعًا إياها جميعًا في جيبه وبوتقته الأمنية ودولة الأمن المتغولة على كل شيء؛ عاشت سورية حالة مأسوية، على مختلف الصعد، حيث زجّ نظام الأسد كل من يخالفه في غياهب السجن والمعتقل الأسدي، حتى غدا الوطن كلّه معتقلًا كبيرًا، إذ بنى الأسد دولته على هذا المعطى، ليكون أساس بناء الدولة لديه قائمًا على كيان وبنيان الدولة الأمنية، فلا سياسة في المجتمع بدون إشراف الأمن، ولا وجود لأي اقتصاد بلا هيمنة وتغوّل ومحاصصة أمنية، ولا مؤسسة دينية بدون سيطرة وضبط أمني، ولا نشاط لحزب البعث ولجبهته الوطنية التي أقامها بتبعية أمنيّة يومية، ولا قيام جمعية خيرية بدون ذلك، ولا موافقة على فتح نادٍ أو مقهى أو مطعم بدون موافقات أمنية وضبط أمني محكم. هذه الحالات هي ما عاشه السوريون من خلال سطوة أمنية مفرطة ولاجمة لكل شيء، سواء خلال حكم الأسد الأب أو بعده، من خلال وريثه غير الشرعي بشار الأسد.
كان عمل المشتغل بالسياسة والمتعاطي بها ومعها في سورية أصعب بكثير من عمل المتعاطين بالمخدرات، وتجارة الممنوعات، وكل من يلج أتون العمل السياسي خارج إطار الدولة الأمنية، وفي مواجهة هذه الدولة الأمنية، يدرك منذ البداية أنه سيتعرض للاعتقال يومًا ما، وقد تتم تصفيته في السجون الكثيرة، وقد تصادر أملاكه وأمواله، نعم هو كذلك، وأذكر أن إحدى المهمات التي قمت بها، كمعارض سياسي، كانت إيصال النشرة المعارضة/ صحيفة (الموقف الديمقراطي) إلى مدينة حلب، وكان يتم ذلك قبل توفر وسائل الاتصال الحديثة إلى المحافظات، عبر الأفراد ومن خلال الباصات العامة، وكانت حقيبتي الخاصة بالثياب محشوة بأعداد من النشرة المعارضة وأعدادها المطبوعة حديثًا، لإيصالها إلى حلب، وقد وضعت الحقيبة تحت المقعد الذي أجلس فيه، وفجأة أوقفت دورية أمنيّة الحافلة التي تنقلني، وتم إنزال كل من كان بداخلها من ركاب، وراحت عناصر الدورية تفتش داخلها، والحقيقة أنني وضعت يدي على قلبي، فلو فتحوا حقيبتي، كنت سأتعرض للاعتقال مباشرة، لكن لعناية المولى ولمحض الصدفة، بعد أن عشت دقائق صعبة جدًّا، أمرهم رئيس الدورية بالنزول قبل أن يصلوا إلى ما تحت المقعد الذي أجلس عليه. فتنفست الصعداء، وصعدت بعدها لأتابع مهمتي إلى حلب وإدلب.
في الفترة التي كانت تسمى (ربيع دمشق)، وهي بعد استلام بشار الأسد دفة الرئاسة، وإفساح المجال أمام إقامة بعض المنتديات السياسية التي برزت في دمشق وحلب، بنفس معارض حقيقي، وقد كنت أحد مؤسسي منتدى الدكتور جمال الأتاسي للحوار الديمقراطي، وأمين سر المنتدى لفترة زمنية معينة، كانت نشاطات ومحاضرات المنتدى شهرية، وكنا نستضيف فيها وجوهًا سياسية معارضة، وتجري نقاشات جريئة بعد إلقاء المحاضرة، وكان يشارك في جلسات المنتدى، بالرغم من مساحة المكان الضيقة، المئات من الناس المتعطشين إلى رأي ورؤيا سياسية مختلفة عن اللغة الخشبية لإعلام النظام السوري، ومراكزه الثقافية، وكان رجال الأمن يملؤون المكان، كما كان هناك كثير من أساتذة الجامعات البعثيين المكلفين بالحضور، حيث يتوافدون إلى المنتدى، في محاولة للتشويش وإفشال الجلسات، ولكي يقال إن هناك آراء أخرى لا توافق على ما يُطرح، وقد مورست أساليب أمنية كثيرة لمنع النشاط منذ البداية، منها أنهم في بعض المرات كانوا يكلفون دورية أمنية بالوقوف على مدخل البناء، ويطلبون ويسجلون بطاقات الهوية لكل من يدخل إلى المنتدى، في محاولة منهم لتخويف الراغبين في الحضور، وكانوا يمارسون الضغوط على مجلس إدارة المنتدى تخويفًا وتهديدًا لمنع بعض النشاطات من القيام، منها على سبيل الذكر لا الحصر محاضرة رياض الترك/ أبو هشام، والكثير سواها. ثم جاء أمرٌ باعتقال بعض أعضاء مجلس الإدارة، وبمنع نشاطات المنتدى كليًّا، وبوقوف دوريّة أمنية دائمة على باب بناء المنتدى لمنع ذلك، وأذكر أننا وقفنا مرة خارجًا بالقرب من البناء، بعد قرار المنع، وحملنا لافتات تؤكد حرصنا على الاستمرارية؛ فهاجمتنا الدورية وحطمت كل ما كان في أيدينا من لافتات، وهددتنا بالاعتقال، إن لم ننسحب بعيدًا عن المكان.
ولم يقتصر التضييق الأمنيّ على السوريين فقط، بل تعداهم إلى ناشطين عرب موجودين في دمشق أو طلاب عرب يدرسون في جامعاتها، وقد كنت مشاركًا في تأسيس مجموعة أو لجنة للتضامن مع الشعب العربي الأحوازي الذي تحتلّ إيران أرضهم، وكانت اللجنة تضمّ بعض الناشطين الأحوازيين العرب، وهم في معظمهم ممن يدرس في جامعات سورية. وعندما ضاق صدر الدولة الأمنية السورية بهذا النشاط، استدعاني الفرع الداخلي، لتهديدي وإخافتي وإيقاف هذا النشاط، واعتُقل بعض الإخوة الأحوازيين في دمشق، بتاريخ 21 نيسان/ أبريل 2005. وتم الضغط عليهم وتخويفهم واتهامهم بأنهم وراء انتفاضة الأحواز في الداخل عام 2005، ثم أُفرج عنهم، ثم اعتُقلوا مرة أخرى في 11 أيار/ مايو 2006، وكان عددهم 9 أشخاص، وعلى رأسهم الناشط الأحوازي طاهر مزرعة/ أبو نضال. وظلوا في الفرع الداخلي بدمشق أيامًا، ثم سُلّموا إلى قوات الأمن الإيراني الذي أخذهم إلى طهران، حيث أعدِم بعضهم، واعتقل الآخرون مدة تزيد على 10 سنوات.
كانت اجتماعات مجلس تحرير صحيفة (الموقف الديمقراطي) الناطقة باسم التجمّع الوطني الديمقراطي، التي أشارك فيها، محفوفةً بالمخاطر، وكنا نتخفى ونعدد المسارب من الحارات للوصول إليها، خاصة أنه كان معنا اثنان أو أكثر من المعارضين السوريين المطلوبين والملاحقين، على رأسهم الراحل الكبير عبد الله هوشة/ أبو يوسف، والناشط الملاحق المهندس مازن عدي/ أبو عمر، ولذلك كانت اجتماعاتنا مشوبة بالخطر، خاصة أنها تنتج جريدة معارضة ومهمة، وكانت تُزعج الدولة الأمنية وتُقلق راحتها. وأذكر أن جلاوزة الدولة الأمنية قد أرسلوا، أكثر من مرة، الدكتور بديع الكسم رحمهُ الله (شقيق رئيس الوزراء في ذلك الحين الدكتور عبد الرؤوف الكسم)، ليسأل صديقه الراحل الكبير الدكتور جمال الأتاسي عن الأشخاص الذين يكتبون في (الموقف الديمقراطي) وفي جريدة (العربي) الناطقة باسم حزب الاتحاد الاشتراكي العربي الديمقراطي، وكان جواب الدكتور جمال الدائم: “قل لهم إننا نكتب بلا أسماء، وليس من حق أحد أن يعرف أسماء الناشطين والكتاب الذين يكتبون، إلا إذا كان مصرحًا عن اسمهم في الصحيفة”. كان العمل الكتابي والثقافي يهمهم كثيرًا، لكونهم يدركون مدى خطورة الكلمة على بنيان دولتهم الأمنية القمعية، فكانوا يحاولون دائمًا الإصرار على معرفة كتّاب المعارضة، وقد حاولوا في الثمانينيات من القرن المنصرم مرارًا وتكرارًا معرفة ذلك، خلال حملة الاعتقالات التي شملت بعض الناشطين في دوما الذين ينتمون إلى الاتحاد الاشتراكي المعارض، وقد صمد الإخوة الفُضلاء دون أن يدلوا بكلمة عن آلية عمل نشرة العربي التي كانت تصدر عن الاتحاد.
أما في مرحلة الثورة السورية/ ثورة الحرية والكرامة، فقد كان التشديد الأمني للدولة/ العصابة الأمنية أكثر وأشد، فقد حاولوا قمع التظاهرة الأولى الكبرى التي شاركتُ فيها، وكانت قد خرجت من جامع دوما الكبير، حيث قام عناصر الأمن بالهجوم، وهم مئات، في محاولة لمنعنا واعتقالنا، ولم يستطيعوا، فكان ما كان بعدها من أسلوب الأمن والخيار العسكري الذي جوبه به المتظاهرون السلميون بالرصاص الحي، وسقط الشهداء تلو الشهداء، وكانت هناك عمليات اغتيال كثيرة للناشطين شملت كثيرًا من الوجوه النشطة المعروفة، محاولين في حينها أن يضيّعوا ماهية قاتل الناشطين بين عناصر الأمن وبعض المتشددين في دوما والتل، وقد كان الضحايا مناضلين وناشطين سلميين، على رأسهم الدكتور عدنان وهبي، والمناضل محمد فليطاني/ أبو عدنان، في دوما، والناشط السلمي بسام بصلة/ أبو فاروق في مدينة التل بريف دمشق.
هذا غيض من فيض مما فعلته الدولة الأمنية المتغولة على كل شيء في سورية، وهو ما ترك الأثر الكبير على العمل السياسي برمته في الواقع السوري الحديث.
2 – جورج صبرة
مؤثرات الدولة الأمنية على الحياة السورية (تجربة ووقائع):
انتسبت إلى الحزب الشيوعي السوري- المكتب السياسي، في بداية السبعينيات، وبسبب ذلك نُقلت من ملاك وزارة التربية إلى وزارة المالية سنة 1982. وتعرضت للملاحقة من أجهزة الأمن، وعملت في الحياة السرية متخفيًا داخل البلاد بين 1984 و1987، حيث اعتُقلت في دمشق، وأمضيت في السجن 8 سنوات في سجن صيدنايا العسكري. وأُطلق سراحي في 1995، مفصولًا من العمل، ومحرومًا من حقوقي المدنية عشر سنوات.
حكايات بمؤشرات مبكرة ودالة:
بدأ جهد الدولة الأمنية في بداية السبعينيات، مُركزًا على إنهاء التنظيم السياسي للبعثيين المختلفين مع النظام وامتداداته في المؤسستين العسكرية والأمنية وفي إدارات الدولة.
وفي 1972، في إطار السعي لاحتواء السياسة في المجتمع السوري وتدجينها وإفسادها وجعلها تابعة للنظام ومن أدواته، تم تشكيل “الجبهة الوطنية التقدمية”. وفي 1973، جرت انتخابات لاختيار أعضاء مجلس الشعب، بعد تشكيل “الجبهة الوطنية التقدمية” التي سيطرت على معظم مقاعد المجلس. كان بينهم أحد رفاقنا من حمص، وهو المحامي نوري حجو الرفاعي، حيث كان الحزب الشيوعي بفريقيه ضمن الجبهة. وحين ذهبنا لتهنئته بالفوز، معلنين دهشتنا بحصوله على أكثر من مئة ألف صوت، ضحك الرجل الحكيم، وقال: “يا رفاق، يضحكون علينا ويخدعون الشعب، فهل ننخدع ونضحك على أنفسنا أيضًا؟ اعّقلوا يا رفاق . . . فلا تدعوا أساليب السلطة ومخابراتها تخدعكم”.
طوَّب دستور 1973 السلطةَ في سورية لحزب البعث أبديًا، عندما حددت مادته الثامنة أن “حزب البعث هو القائد في الدولة والمجتمع”، وارتفع بعدها شعار يقول: “البعث التزام بمسيرة القائد”. إذن، هي دولة الفرد وإرادته وخيارات زبانيته ومؤسساته، وليست دولة الكل الوطني، كما يفترض. فالأجهزة الأمنية هي صاحبة الشأن والقرار والحرية المطلقة بالفعل في حقل الدولة ومؤسساتها وبنية المجتمع. وعوضًا عن أن تكون الدولة للشعب وأحد منتجاته، يصبح الشعب للدولة وبعضًا من أدواتها.
كانت السياسة أعدى أعداء النهج الجديد والدولة الموعودة، التي يجري بناؤها بتصميم ممنهج وخطوات متدرجة. بدأت بمحاصرة الأحزاب واحتوائها، ثم قامت بتقسيمها وإضعافها، وتحويل حزب السلطة إلى مكان لسماع الخطابات والتعليمات وامتياح المصالح. فجميع أحزاب الجبهة انتهت إلى الانقسام، ليس مرة واحدة بل مرات. حتى صار بعضها مجرد عنوان لزمرة أسدية تابعة أو مجموعة أصدقاء ومنتفعين. وجميع هذه الأقسام مُخترقة أمنيًا، ويجري التعامل معها وتنفيعها تبعًا لدرجة انصياعها للقرارات وتنفيذ المطالب. وبدأت اليد الأمنية بالتسلل إلى الإدارات بشكل متدرج وثابت وممنهج.
الثمانينيات عقد أسود:
جاءت عاصفة الثمانينيات وتداعياتها، لتشكل ذروة التوحش الذي أظهرته دولة التسلط الأسدية بجوهرها الأمني وقدرتها على الإفلات من أية قيود وطنية أو حدود دستورية وقانونية أو معطيات أخلاقية وإنسانية خلال حملاتها السياسية والعسكرية على الشعب، من خلال مواجهتها لنشاط النقابات المهنية وحراكها ونتائج مؤتمراتها، وضد الفعل السياسي للأحزاب وناشطي المعارضة الديمقراطية التي بدأت بالتشكل والظهور، حيث نشأ “التجمع الوطني الديمقراطي”، كتحالف من خمسة أحزاب قومية يسارية برئاسة الدكتور جمال الأتاسي. وكان حزبنا من المؤسسين لهذا التجمع عام 1979. فتمّ حلّ المجالس المنتخبة للنقابات وإيداع قادتها في السجن لأكثر من عشر سنوات. وتم تعيين مجالس جديدة، حوّلت النقابات إلى دكاكين أمنيّة تتلقى التعليمات التي تمثل إرادة السلطة وتخدم توجهاتها. وبدأت حملات ملاحقة أحزاب التجمع واعتقال المئات من قادتها وناشطيها، لأنها نددت بما فعله النظام وحملته المسؤولية. وكان لحزبنا نصيب وافر من اعتقالات 1980، وقد شملت الاعتقالات منظمات سياسية أخرى، كانت تطالب بالتغيير الديمقراطي كرابطة العمل الشيوعي (حزب العمل الشيوعي لاحقًا).
في 1984، تعرّضتُ للملاحقة، ودخلت عالم الحياة السرّية، في وقت كانت فيه البلاد مسرحًا مفتوحًا لعبث الأجهزة وعناصرها خارج أي حدود أو قيود. كانت المخيمات الفلسطينية بدمشق ومخيمات النازحين من الجولان هي الوحيدة التي تفتح أبوابها لهم. وكان على المتخفي أن يعيش باسم جديد ومهنة مختلفة ومهام مبتدعة، مع تاريخ ومنشأ وطريقة حياة مغايرة كليًا لما اعتاد عليه.
لا ينتهي الأمر بالملاحقة والحياة السرية عند خروج المطلوب من بيته؛ إذ تصبح أسرته وأولاده موضع المراقبة والمساءلة والتهديد في المحاولة للوصول إليه. فصارت تُستدعى زوجتي إلى فروع الأمن المختلفة، وأُعطيت أرقام هواتف للتواصل معهم وإعلامهم إن عدت إلى البيت أو شوهدتُ في مكان ما، ففي ذلك أمان لها ولأولادها.
وفي 1987، اعتُقلت في دمشق، وأمضيت عامين في منفردة في قبو الفرع 251 للأمن الداخلي، وكانت تلك الحادثة فرصة للتعرّف إلى الحياة الداخلية للدولة الأمنية وأجهزتها، وما يجري بين جدران المؤسسات التي يرتعب المواطن السوري من ذكر اسمها. هناك يجب عليك أن تنسى اسمك ومن أنت، لتصبح رقمًا هو رقم الزنزانة التي وضعت فيها، ولتتعرف عن قرب إلى أدوات التعذيب وأشكاله ووسائط التسلط والترهيب والفساد والابتزاز التي صارت بعضًا من سمات الدولة.
في سجن صيدنايا:
في 1989، نُقلت مع مجموعة من رفاقنا إلى سجن صيدنايا العسكري الذي كان حديث الإنشاء، وكان النزلاء من مختلف الاتجاهات السياسية (إسلاميين وبعثيين وشيوعيين من تنظيمات عدة)، وكان هناك عسكريون ومدنيون من مختلف المهن والطبقات الاجتماعية، ينتمون إلى جميع الطوائف ومن جميع مكونات الشعب.
كان في السجن ثلاث مجموعات، تتكون كل مجموعة من ثلاثة رجال. المجموعات الثلاثة متهمة باغتيال عبد الحليم خدّام، وكل منها من منطقة ولا يعرف بعضهم بعضًا، وليس لأي منهم صلة بأي محاولة، لكنهم اعترفوا جميعًا بالقيام بها. سألتُ أحدهم يومًا: “كيف تعترف بمحاولة الاغتيال وأنت لا تعرف شيئًا عنها”؟ فأجابني: “يا حيفي عليك يا أستاذ! أعترف أنني قمت باغتيال عمر بن الخطاب، بس أخلص من التعذيب”.
محكمة أمن الدولة العليا:
في عام 1991، أطلقت السلطة سراح المئات من مختلف الاتجاهات السياسية، واحتفظت بمئات من رفاقهم وقدمتهم إلى القضاء أمام “محكمة أمن الدولة العليا”، وكنت واحدًا منهم. واجهَنا النظام في المحكمة بتهم مُضحكة وتثير القرف: “وهن عزيمة الأمة“، “معاداة أهداف الثورة“، “تشكيل منظمة سرية”، ونحن في بلدٍ لا وجود فيه لقانون ينظّم نشوء الجمعيات والأحزاب.
دولة بشار الأسد ومخالبها الناعمة:
بدأت نشاطات وفعاليات ربيع دمشق مع مجيء بشار الأسد عام 2000 ببيان وقعه 99 مثقفًا سوريًا للمطالبة بالحريات الديمقراطية، وانتهى بإغلاق المنتديات واعتقال قيادة إعلان دمشق للتغيير الوطني الديمقراطي 2007. شهدتْ تلك الفترة تحركات ثقافية وسياسية في محاولة لاستحضار حراك شعبي من أجل التغيير الديمقراطي في حياة البلاد. ولأسباب متعددة داخلية وخارجية، حاولت السلطة التعامل معها بطريقة مختلفة.
قررنا إجراء اعتصام أمام قصر العدل في دمشق، للمطالبة بالحريات الديمقراطية وإطلاق سراح السجناء السياسيين؛ فتجمعنا هناك حاملين لافتات، وكان معظم الحضور من المحامين والسياسيين المعمرين والمعروفين. وما هي إلا دقاق حتى بدأنا نسمع صوت هتافات وصخب قادم من جهة ساحة الحجاز. وإذا بمجموعة كبيرة من الشباب المنظم على شكل تظاهرة (منظمة اتحاد شبيبة الثورة) يحملون الأعلام بعصيّ مرفوعة، ويهتفون ضد الخونة والعملاء، ويتوجهون مباشرة نحونا. وما إن وصلوا إلى خط التماس معنا حتى نزعوا الأعلام وجرّدوا العصيّ التي بدأت تنهال علينا مع الشتائم المقذعة، ونحن واقفون على الرصيف. كانت أجهزة الأمن الحاضرة بكثافة واقفة تتفرج، وكأنها غير معنيّة بما يجري. كان الهدف إنهاء الاعتصام بوسائط جديدة، ووضع الناس بمواجهة بعضها. وفي ذلك إشارةٌ إلى قدرة الدولة على استخدام أساليب أخرى للقمع، واستعراض خيارها الممكن بوضع الشعب بمواجهة نفسه.
في الثورة:
ظُهر الجمعة 18 آذار/ مارس 2011، وردتني مكالمة هاتفية، وكان على الطرف الآخر الصديق أيمن الأسود. جاءني الصوت فرحًا مهللًا: “يا أبا شادي خرجنا الآن في تظاهرة من الجامع العمري في درعا، اسمع الهتافات”. لم تمضِ أكثر من نصف ساعة حتى جاءني الصوت ثانية، لكن بهلع صارخ: “اسمع يا أبا شادي صوتَ الرصاص، إنهم يطلقون النار علينا، وسقط الجرحى والشهداء”.
تعرضتُ للاعتقال خلال الثورة مرتين: الأولى في نيسان/ أبريل من فرع الأمن الداخلي، والثانية في تموز/ يوليو في أثناء اجتياح قطنا، وكنت بضيافة فرع المنطقة وفرع التحقيق العسكري. وفي كل الأمكنة كنتُ أواجه بالسؤال الخبيث الذي يُضمر غير ما يظهر: “لماذا جورج صبرة عندي، وما يفعل هنا”؟ رسالة التحقيق كانت واضحة أن مكاني كمسيحي (كما يعتقدون ويريدون) ليس هنا مع الآخرين، الذين يخرجون من المساجد هاتفين للحرية وصاخبين ضد السلطة. فشكرًا للثورة التي عرّت المستور، وأظهرَت أن للطائفية قدمين للسير والتجول، ويدين لحمل السلاح وإطلاق النار، وكشفت الدولة عن وجهها الحقيقي كدولة أمنية متوحشة.
في محكمة بداية الجزاء بقطنا، بحضور المحامي خليل معتوق، قالت لي القاضية وهي تقرأ من إضبارة أمامها: “أنت مُتهم بتأسيس إمارة إسلامية في قطنا، فماذا تقول”؟ قلت: “ليش حضرة القاضية هل انتهى المسلمون جميعهم، ولم يبق من يؤسس لهم الإمارة الإسلامية، حتى يأتي مسيحي ليفعل ذلك”!! فقالت مبتسمة: “لا بد أن أسألك، فهو سؤال من إضبارة التحقيق”. تاريخ الشهادة تشرين الثاني/ نوفمبر 2021
3 – حسن النيفي
النهج الأمني وتداعياته على ممارسة السياسة في سورية:
ما من شكّ في أن السياسة كضرب من النشاط المجتمعي، لدى الدول المستقرة ذات المرجعيات الديمقراطية، إنما تعني ممارسة المواطن لحق من حقوقه المشروعة حيال المشاركة في إدارة الشأن العام والشأن الحياتي للأفراد، إلّا أن هذا الحق المشروع يكاد ينزاح عن سمْته الوظيفي كلّيًا لدى البلدان التي تحكمها أنظمة شمولية استبدادية، كما هو الحال في سورية، ولعل المبعث الأساسي لهذا الانزياح هو الغياب الحقيقي لمفهوم الدولة، بمقابل الحضور المطلق لمفهوم السلطة، ومن ثم التدرّج نحو اختزال السلطة بعدد من الكيانات البشرية (شخص، أشخاص، عائلة، طائفة.. إلخ)، ومن هنا، لا تغدو السياسة نشاطًا اجتماعيًا تشاركيًا تحكمه المعايير والضوابط القانونية، بقدر ما تغدو حراكًا تصادميًا بين الفرد – المواطن – والسلطة، ولعل هذه المعادلة – المواجهة بين المواطن والسلطة، بعيدًا عن مفهوم الدولة، هي التي اختزلت مفهوم السياسة في “سوريا الأسد”.
لقد سعى حافظ الأسد منذ استيلائه على السلطة 1970 إلى شرعنة مصادرة السياسة من المجتمع، حيث احتكرت المادة الثامنة من الدستور العمل السياسي لحزب البعث الحاكم فقط، فيما كان إحداث ما يُدعى بـ(الجبهة الوطنية التقدمية) عام 1974، بموجب قرار سياسي من رأس النظام، وليس كحق يكفله ويصونه الدستور أو القانون، إحدى الطرق لاحتواء أي نشاط سياسي في المجتمع السوري خارج عباءة السلطة أو بعيدًا عن مراقبتها وهيمنتها التامة.
لعل منهج (احتواء النشاط السياسي في المجتمع السوري) الذي مارسه الأسد في الثلث الأول من فترة سلطته على الحكم قد وصل إلى لحظة الانفجار في بداية الثمانينيات، على أعقاب المواجهة الدامية بين جماعة الإخوان المسلمين والسلطة، ذلك أن تداعيات تلك المواجهة قد شملت جميع السوريين- كقوى وأحزاب ومنظمات نقابية- إذ إن خيار الأسد آنذاك المتمثّل بالاعتماد على الجيش والقوى الأمنية في مواجهة المجتمع، واعتماد منهج العنف إلى درجة التوحّش، كان له الدور الحاسم في تحديد خيارات العمل السياسي أمام السوريين، والتي تجسّدت ضمن التموضعات التالية:
1 – الولاء المطلق للسلطة والتماهي مع خطابها السياسي، والعمل على تبرير سلوكها الأمني، بعيدًا عن أي محتوى فكري أو نظري أو أي التزام قيمي للقوى والأحزاب والجماعات التي تعمل في هذا النسق من السياسة (حزب البعث الحاكم- الجبهة الوطنية التقدمية).
2 – انعدام إمكانية العمل السياسي ضمن المساحة الفاصلة بين الولاء المطلق والخصومة المطلقة، ولعل هذه الحالة هي التي أدّت إلى انقسامات واضحة في صفوف بعض الأحزاب، كالانقسامات التي شهدتها بعض الأحزاب الناصرية.
3 – الانحياز الكلّي والمُعلن نحو معارضة السلطة، علمًا أن مفهوم (المعارضة) لدى الدولة الأسدية يعني (العداء)، وقد كان واضحًا للجميع، منذ ذلك الوقت، أن العمل السياسي في هذا الحيّز بات مشروطًا بظروف هي غاية في الخطورة، تبدأ بالاعتقال المديد، وتنتهي بالتصفيات الجسدية، وقد شملت هذه الممارسات الأمنية للسلطة العديدَ من القوى والأحزاب السورية آنذاك، الأحزاب المنضوية تحت مظلة التجمع الوطني الديمقراطي، حزب العمل الشيوعي، التنظيم الشعبي الناصري، جماعة الإخوان المسلمين، حزب البعث (جناح العراق)، بعض الأحزاب الكردية الصغيرة، وربما مجموعات صغيرة وأفرادًا آخرين.
يمكن التأكيد أن طبيعة المواجهة بين الأسد ومعارضيه أو خصومه، على امتداد عقدين من الزمن، لم تكن مواجهة سياسية أو معرفية أو أيديولوجية، أي ليست محكومة بصراع أو تنافس حول الأفكار والرؤى والتصورات، وبالتالي، يمكن أن تتيح الاحتكام إلى أي شكل من أشكال الحوار أو التفاوض أو أي محاولة لاجتراح حلول يمكن أن تسهم في تقويض الخصومة أو العداء، بل كانت مواجهة أمنية بامتياز، ذلك أن نزوع الأسد نحو التفرّد المطلق بالسلطة، وإخضاع الجميع بالعنف وبوسائل القهر والإكراه لمشيئته، للحيلولة دون ظهور أي رأي مخالف، قد جعل العمل السياسي في صفوف المعارضة شبيهًا جدًّا بعملية التقافز فوق صفيح ملتهب من النيران.
لقد استطاع نظام الأسد خلال عقدين من المواجهة أن يُجّهز على معارضيه، وأثبت تفوّقًا أمنيًا وعسكريًا حاسمًا، بفضل ما يمتلكه من عسكر وأجهزة مخابراتية وجلادين وسجون.. إلخ، وقد أتاح له هذا التفوق توريثًا سلسًا للسلطة بعد مماته لابنه بشار في حزيران/ يونيو 2000.
ولئن كان من الصحيح أن استمرار الدولة الأسدية في البقاء إلى هذه اللحظة إنما يعود الفضل فيه إلى مُنجَزها الأمني، فإن هذا المنجز الأمني كانت له آثارٌ شديدة التدمير، ليس على قوى المعارضة التقليدية فحسب، بل على المجتمع السوري برمته، ويمكن الإشارة- بإيجاز شديد- إلى أبرز معالم هذا الدمار:
1ً– تجريم العمل السياسي في المجتمع السوري، باعتباره ممارسة ضدّ ما هو محرّم أو مقدّس (السلطة) قد عزز في اللاوعي السوري -تدريجيًا- فوبيا جماعية من أي نشاط سياسي، بل باتت السياسة في تصوّر شرائح عديدة من السوريين قرينة للمغامرة والفعل المتهوّر، وغالبًا ما جسّد الابتعاد أو النأي عنها -لدى كثيرين- ضربًا من الحفاظ على الوجود.
2ً– اقتران ممارسة السياسة بمعنى الجريمة هو عدوان سافر وانتهاك فظيع لحق أساسي من حقوق المواطن، أقرته جميع الشرائع والمصادر الحقوقية، فضلًا عن كونه تضليلًا وقلبًا للمعايير الحقوقية والإنسانية.
3ً– الإيغال في ممارسة الترويع والتوحّش، بغية إسكات الخصم، قد عزّز الإحساس بالخوف من السلطة، هذا الخوف الذي تحوّل مع الزمن إلى ثقافة باتت تداعياتها بالتوسع والانتشار، حتى بات الخوف لدى السوريين إحدى السمات التي تميّز سلوكهم الاجتماعي والثقافي والنفسي، بل غالبًا ما ترك آثاره حتى على علاقاتهم العائلية، وغني عن البيان أن المجتمع الخائف هو مجتمع فاقد للحيوية، منكفئ، غير مبادر، فاقد لكثير من طاقاته الخلاقة وقدرته على الإنجاز.
4ً– ويمكن التأكيد أن آثار القمع والتوحّش الأمني في سورية لم تكن محصورة بالجانب النفسي والتكوين البنيوي للمجتمع، بل شملت المنتج السياسي لأحزاب المعارضة ذاتها، ويمكن الإشارة في هذا السياق إلى الأمور التالية:
أ- المعارضة التي تعمل في مناخ شديد السرّية، ومهجوس بالخوف والترقب لتحاشي بطش السلطة، لن يتاح لها أن تراكم إرثًا سياسيًا يتأسس على صلابة معرفية وفكرية، كما لن يتاح لها المزيد من حرية الحوار والبحث الجماعي لما تراه موجبَ التفكير والدراسة، فضلًا عن أن الهاجس الأمني يحرمها في كثير من الأحيان حتى من انتقاء أو اختيار أعضائها.
ب- الحراك السياسي في طور السرّية والتخفّي وتحاشي الاعتقال ومطاردة السلطة، قد وسم مجمل أحزاب المعارضة ببعض السمات المشتركة، من الناحية التنظيمية والفكرية معًا، لعل أبرزها: أولوية الجانب الأمني على ما هو سياسي، الفردية باتخاذ القرار، والأحادية في التفكير، غياب المُنتَج الجماعي.
جـ- تحريم السياسة من جانب السلطة جعل أحزاب المعارضة السورية تفقد كثيرًا من المفكرين والمثقفين السوريين الذين انكفؤوا عن العمل السياسي، بسبب ظروفهم الحياتية أو الجسدية أو الاجتماعية.
5ً– ولعل الأهم من ذلك كله هو أن الظروف الأمنية القاسية التي كانت تحكم العمل السياسي قد حرمت جميع الأحزاب من التواصل الحيوي والفعال بحواضنها الشعبية، واقتصر التواصل على البيانات الورقية التي لا يخلو إيصالها للآخرين من خطورة ومجازفة، حيث إن كثيرًا من السوريين قد تم اعتقالهم سنوات، بسبب بيانٍ وُجد بحوزتهم لحزب معارض.
ومما لا ريب فيه، أن المعارضة التقليدية السورية لم تستطع أن تراكم إرثًا سياسيًا أو تنظيميًا يوازي التضحيات التي قدمتها، ولكنها بكل تأكيد قد راكمت إرثًا نضاليًا لا يمكن نكرانه، بل إن مجرّد استمرارها أو بقائها، في ظل ظروف أمنية شديدة القساوة طوال نصف قرن من عمر الدولة الأسدية، لهو تفوّقٌ أخلاقي على نظام البطش والاستبداد.
4 – راتب شعبو
تأثير الدولة الأمنية على الحياة السياسية:
معروف أن الحياة السياسية في بلدٍ تحكمه دولة أمنية، كما في سورية، هي حياة فقيرة، لأنها محصورة بين الولاء أو الإذعان للسلطة الحاكمة، وبين الخضوع لشتى صنوف القمع وصولًا إلى التهميش والإلغاء. هذه الحياة السياسية الفقيرة تمنع التطور السياسي، وتفرض على المنخرطين فيها حدودًا ذهنية يصعب تجاوزها.
سوف أدلل على هذا بتجربة عشتها خلال سنوات السجن الطويلة. في السجن يتاح للمرء أن يقرأ أكثر، وأن يناقش أكثر، ومن ثم يرى الحياة من منظور أوسع، قياسًا على الشباب المنهمكين بالعمل السياسي المعارض، والذين يستهلك الهم الأمني ثلاثة أرباع تفكيرهم، أما الربع الباقي، فإنه يبقى محكومًا لشعور معاداة السلطة الساعية بكل وسيلة قمع ممكنة لسحق أي معارضة.
بعد عشر سنوات من اعتقالي، كانت خلالها قد تطورت لديّ نظرة يمكنني أن أقول إنها أكثر سعة وهدوءً من النظرة التي دخلت بها إلى السجن، وصل إلى السجن اثنان من مناضلي الحزب، ممن نجوا لسنوات من حملات الاعتقال المتواصلة، قبل أن تطالهم أخيرًا يد أجهزة المخابرات. كان يمكن ملاحظة شعورهما بالراحة، فقد عبرا سنوات من التخفي المليء بالتوتر والترقب والخوف، ثم عبرا فترة التحقيق المليئة بالتعذيب والضغوط النفسية، وها قد صارا إلى “الراحة” في السجن. كان لديهما أيضًا حماس واضح، وكانت كفاحية أحدهم عالية إلى حد يثير الإعجاب، إلى حد يشحن فيك الأمل بمستقبل سورية.
حين جاء دور النقاش الجاد، اكتشفت كأنني أتكلم مع نفسي التي كانت قبل عشر سنوات، كأن شيئًا لم يتغير! تعابير ثابتة وتقييمات منتهية وهدف راسخ كالأصنام. هذا مع العلم أن التجربة الاشتراكية كانت في ذلك الوقت قد لفظت أنفساها الأخيرة منذ بضع سنوات. هكذا يتعقلن الأمل أكثر وتقول في نفسك إن الحماس والكفاحية لا يرافقان التأمل والتفكير المتأني، بل يرافقان الفكرة المستقرة المرفوعة إلى مستوى العقيدة والإيمان.
الدولة الأمنية تفرض على معارضيها حياة التخفي والملاحقة والتقاط الأنفاس، وهذه الحياة لا تعطي المناضل فرصة للتأمل، أو فرصة للقراءة المتأنية، أو لمراجعة الذات. حتى لو توفر ذلك للبعض، فإنه يبقى بلا فاعلية، ليس فقط لأن لفكر الحزب وما زرعه لدى أعضائه، قوة عطالة يصعب التغلب عليها، بل أيضًا لأن السلطة التي تجنّد كل إمكانات الدولة لسحق التنظيم المعارض لا تسمح لك بالمراجعة أو النقد أو التأمل، فهي لا تقبل أن تكون في محل ثالت سوى السجن أو الإذعان.
الدولة الأمنية التي تسرق أعمار المعارضين السياسيين جعلت البعض يحرقون مكتباتهم أو يرمونها. فلا محل إلا للإذعان والغرق في الشأن الشخصي، أو للمواجهة المفتوحة مباشرة على القتال المسلح.
5 – طلال مصطفى
تجارب معيشة من العمل السياسي ومنهجية الإقصاء في سورية:
(1)
اللجان الشعبية – حزب العمل الشيوعي:
تجربتي بالعمل السياسي كانت في اللجان الشعبية، التي أعلنت على إثر حرب إسرائيل ضدّ منظمة التحرير الفلسطينية في لبنان عام 1982 وخروج فصائل منظمة التحرير من لبنان، وحصول الانشقاق التنظيمي والسياسي في حركة فتح الفلسطينية، وبروز ما يسمى “فتح الانتفاضة” في لبنان وسورية، وحصول انقسام سياسي فلسطيني حاد، وانقسام سوري أيضًا، حول الموقف السياسي المطلوب اتخاذه من التوجه السياسي لمنظمة التحرير الفلسطينية، وما رافق ذلك من تشتت سياسي في الساحة الفلسطينية في سورية (المخيمات)، حيث بادر بعض الشباب السياسي السوري (من الوسط السياسي لحزب العمل الشيوعي) وبعض الشباب الفلسطيني من وسط التنظيمات اليسارية (الجبهة الشعبية، جبهة التحرير الفلسطينية وفتح الانتفاضة)، إضافة إلى الشباب المستقل من السوريين والفلسطينيين، بالعمل على إيجاد صيغة تنظيمية سياسية جديدة تكون مرنة إلى حد ما ومختلفة كليًا عن التنظيمات اليسارية بشكل عام، للنهوض بالعمل السياسي على الساحة السورية الفلسطينية في سورية على أسس وطنية، بعيدًا عن الأيديولوجيات المعروفة في الساحة السياسية السورية والفلسطينية، أي على ألا يكون لهذا الجسم التنظيمي المرن طابع حزبي أو أيديولوجي، تكفي رغبة الشخص في العمل الوطني كي يعمل ضمن صفوف اللجان الشعبية دون الاعتراض على حقه بالعمل في أي حزب سياسي ذي أيديولوجية محددة .
بالفعل، تشكلت مجموعة من اللجان في دمشق وبعض المدن السورية، معظمها في المخيمات والأحياء الفلسطينية على أسس مناطقية (أحياء) أو مهنية (طلاب).. الخ. وأصدرت نشرة سياسية بلغة وطنية مبسطة إلى حد ما، وحضور فاعل في الندوات الثقافية والسياسية. ولكنها مع الأسف لم تدم طويلًا، بسبب رغبة أكثر من جهة حزبية في الهيمنة على هذا الشكل التنظيمي التحالفي العريض والمرن، وأيضًا رغبة البعض ممن عمل في اللجان في تحويلها إلى حزب سياسي مستقل، وبدأت الانسحابات منها إلى أن استقرت على هيمنة أعضاء حزب العمل الشيوعي والأصدقاء المقربين منه أو في طور الانخراط في الحزب تنظيميًا، وبدأ الحديث عن اللجان الشعبية أنها التنظيم العلني والرديف لحزب العمل الشيوعي، هذا الأمر وصل إلى الأجهزة الأمنية للنظام السوري، مما استدعى التعامل مع اللجان الشعبية أمنيًا كتعاملها مع حزب العمل الشيوعي، وشنت حملة اعتقالات سنة 1985 و1986 أفقدت اللجان الشعبية وجودها التنظيمي في المخيمات نهائيًا.
حتى في أثناء فترة الاعتقال والتحقيق، تعاملت أجهزة النظام السوري مع أعضاء اللجان الشعبية مثل تعاملها مع أعضاء حزب العمل الشيوعي، ولم يفرقوا بينهما في التحقيق والاعتقال، ولا في أسلوب إطلاق سراحهم من المعتقلات.
من حيث الفكرة، كتجربة تنظيمية سياسية، كانت التجربة جديدة على صعيد العمل السياسي في سورية، ولكن الظروف السياسية والأمنية في منتصف الثمانينيات لم تكن مناسبة لهذه الحالة التنظيمية والسياسية، أي كان فيها جانب من الإرادوية السياسية والتنظيمية، وبمعنى آخر، لم تكن الظروف السياسية مهيأة لهذه التجربة، ربما كانت تحتاج إلى بلد يتوفر فيه هامش من حرية الحركة والعمل السياسي والنقابي، مثل مصر وتونس، أو كتلك الظروف التي عاشتها سورية في الأشهر الستة الأولى من الثورة لعام 2011. حيث تبين أن طبيعة العلاقات التنظيمية في التنسيقيات المحلية التي ظهرت في أثناء الثورة السورية شبيهة إلى حد ما بتجربة اللجان الشعبية، مع اختلاف العامل الزماني والمكاني بكل تأكيد.
أعتقد أن فكرة اللجان الشعبية، تنظيميًا وسياسيًا، ما زال بالإمكان الاستفادة منها في الوقت الحاضر، حيث العمل الوطني الديمقراطي ضرورة ملحة، بعيدًا عن الصيغ الحزبية الأيديولوجية خاصة في مرحلة التشظي الطائفي والمذهبي والسياسي التي يمرّ بها المجتمع السوري، ولذلك نحن بأمس الحاجة إلى صيغ تنظيمية وطنية مرنة.
(2)
البحث عن حرية العمل السياسي في المعتقل:
في منتصف عقد الثمانينيات ونهايته، كانت سجون النظام السوري، ومنها سجن عدرا، تعجّ بالمعتقلين السياسيين السوريين من كل التيارات السياسية، وخصوصًا من التيار اليساري المتمثل في حزب العمل الشيوعي، حزب البعث الديمقراطي، الحزب الشيوعي المكتب السياسي، الناصريين، التيار الإسلامي المتمثل بالإخوان المسلمين وحزب التحرير الإسلامي، إضافة إلى شخصيات سياسية مستقلة، مثل نقابيي المحامين والمهندسين الذين عرّفوا أنفسهم كمدافعين عن الديمقراطية والليبرالية بشكل عام، من دون الالتزام بأيديولوجيا معينة أو بتوجه سياسي معين.
في اللقاءات الاجتماعية غير الأيديولوجية والحزبية، التي تحصل بين المعتقلين السياسيين الحزبيين وغير الحزبيين، وكنت أحضر بعضها، كان أحد المعتقلين من النقابيين المستقلين المعروف بعلاقاته الاجتماعية المتنوعة مع الجميع، حيث كان ينتهي من الصلاة مع الإخوان المسلمين وينضم إلى جلسات الشيوعين لشرب الشاي والزهورات وإطلاق بعض النكات، لتجاوز الزمن الثقيل في السجن، وكان لديه سؤالٌ يكرره ويُوجّهه إلى السياسيين كافة: “في حال وصول حزبكم إلى السلطة، هل سيُسمح له بحريّة العمل السياسي في المستقبل؟ وكان يصل إلى نتيجة مخيّبة للآمال، بناء على أيديولوجياتهم وبرامجهم السياسية الإقصائية، أن لا نصيب له من الحرية بالعمل السياسي، سواء استمر حافظ الأسد في الحكم أو وصلت الأحزاب السياسية المعارضة إلى السلطة.
(3)
دولة كردية في غرفة صغيرة:
بداية، لا بدّ من التنبيه إلى أنني شخصيًا لدي قناعة مطلقة بأن الأكراد في سورية هم أحد مكونات الشعب السوري، وأن ظلمًا مضاعفًا قد لحق بهم تاريخيًا، مقارنة بالعرب السوريين، ناتجًا عن السياسة الإقصائية الاستبدادية لحزب البعث وفيما بعد الأسد الأب والابن، وأن حقوقهم السياسية وغيرها لن يحصلوا عليها إلا في دولة المواطنة، التي تمنحهم الشعور بالهوية الكردية ضمن الهوية السورية الشاملة للمواطنين كافة.
معرفتي بهذا الظلم المزدوج بحق الأكراد تعود إلى الثمانينيات من خلال بعض الأصدقاء الأكراد، الناشطين سياسيًا في مدينة دمشق الذين كانوا يصرّون، بمناسبة ومن دون مناسبة، على الحقّ لهم كأكراد في إقامة دولتهم الكردية العتيدة، في المناطق الشمالية الشرقية من سورية (الجزيرة السورية)، حيث الأغلبية السكانية تعود للمكون الكردي، بل كانوا يطلبون منا الاعتراف بهذه الدولة، ونحن مختبئون في غرفة صغيرة، نتهامس الحديث السياسي خوفًا من استبداد النظام الأسدي وبطشه.
والمفارقة أنّ هؤلاء السياسيين المناهضين للنظام الاستبدادي الأسدي والمعرّضين للاعتقال والتصفية كانوا متعاطفين جدًا مع زعيم حزب العمال الكردستاني عبد الله أوجلان، الذي كان يقيم في دمشق تحت حماية وتنسيق دائم مع الأجهزة الأمنية السورية في تلك الآونة، وما أدهشني في تلك المرحلة هو تصريح لعبد الله أوجلان، في لقاء صحفي مع مجلة كردية أعتقد أنها صادرة عن حزب العمال الكردستاني، حيث قال في ذلك اللقاء إن حزبه “يتبنى أيديولوجيا ثورية، تتضمن تأصيل الماركسية، من خلال تطعيمها بالقيم الثورية الكربلائية الحسينية”، وهذا مؤشر واضح على علاقته بالنظام الخميني الإيراني والسوري في ذلك الوقت، خاصة أنه كان تحت الحماية السورية في دمشق. وفي الوقت نفسه، كان النظام الإيراني في تلك المرحلة، في الثمانينيات، يشن حملات اعتقال وإعدام ميداني بحق الناشطين الأكراد سياسيًا، خاصة الذين شاركوا في الثورة الإيرانية قبل الهيمنة الخمينية عليها، وكذلك النظام السوري كان يعتقل كل من يهمس بالسياسة في الوسط السوري، ومنه الوسط الكردي.
(4)
النخب الأكاديمية السياسية تبحث عن الهوية الطائفية:
في بداية الثورة والتظاهرات السلمية عام 2011، برزت إلى العلن إمكانية اتخاذ بعض النخب الأكاديمية في الجامعات السورية مواقفَ متعاطفة مع الاحتجاجات السورية، وخصوصًا الطلابية، وحصل العديد من الاجتماعات الحوارية خارج الجامعات السورية وداخلها حول الأشكال التنظيمية التي يمكن الإسهام فيها إلى جانب بقية المكونات الاجتماعية المحتجة، وخاصة الطلاب، وبرزت العديد من الاقتراحات، ومنها اتحاد الأكاديميين السوريين الأحرار. وكان الاتجاه العام والغالب بعيدًا عن الأطر الحزبية المعروفة.
بعد أشهر من الثورة، واضطرار البعض إلى الخروج إلى خارج سورية، لمواكبة تشكيل أشكال تنظيمية تمثل الثورة في الخارج، خرج بعض الأصدقاء الأكاديميين، واتفقنا على التواصل والتنسيق عبر (سكايب)، وفي أول لقاء، فوجئت بخطاب أحد الأصدقاء الأكاديميين (وكان من الواضح أن حوله أشخاصًا آخرين) يصفني بـ“الأكاديمي الإسماعيلي الحرّ”، فرددت عليه محتجًا: “أنت تعرفني أنني سوري فقط، ولا أعمل إلا بصيغة سوري”، وكان مُصِرًّا أن يخاطبني في حديثه أكثر من مرة بالأكاديمي الإسماعيلي، وأنا أقاطعة رافضًا التعريف بي بالهوية الطائفية. كان من الواضح أن شكلًا تنظيميًّا يُرتّب بناء على الهويات المذهبية والطائفية.
في المقابل، في إحدى الاستدعاءات الأمنية لفرع الخطيب (الفرع الداخلي) رقم 251 لعام 2015، وبعد انتهاء التحقيق بخصوص وقوفي إلى جانب الاحتجاجات الطلابية؛ قابلني ضابط (خريج جامعي) والواضح أنه رئيس قسم الجامعات في الفرع، لينصحني بالابتعاد عن صداقة بعض الأساتذة، الذين أطلق عليهم (السنة الوهابيين)، وعندما أجبته بأن هؤلاء “بعثيون”، ضحك قائلًا: وهل تصدّق أن هناك سنّي بعثي؟ مشيرًا برأسه بعدم قناعته بذلك، وطبعًا هذا الاعتقاد مبنيّ على خلفية طائفية.
(5)
رأي للنقاش والحوار:
كشفت الثورة، مع الأسف، عن التشوهات السياسية والأخلاقية لبعض من صدّروا أنفسهم، كنخب سياسية معارضة وقادة للثورة، فلم تستطع الخروج من الهويات المذهبية والطائفية، أو الحاجة للركوب عليها والوصول إلى مكتسبات (مناصب) خلبية على أرض الواقع.
أثبتت تجربة الثورة السورية عام 2011 أن هناك حاجة ماسة إلى وجود النخب السياسية المتعددة والمتنوعة اجتماعيًا وسياسيًا، لبناء الديمقراطية والسير باتجاه بناء مجتمع تعايشي ومتنوع، سياسيًا واجتماعيًا، يحافظ على السلم الاجتماعي، من خلال الحكم التداولي للسلطة السياسية.
هذه النخب السياسية السورية لا يمكن أن تنجح في مهماتها ووظائفها، إلا إذا كانت نخبًا مثقفة ومبدعة، تحمل في برامجها المصلحة الوطنية السورية، قبل المصلحة الشخصية والطائفية الضيقة، بمعنى آخر: لا يمكن للنخب السياسية أن تكسب قيمتها الاجتماعية، إلا إذا كانت بوصلتها باتجاه خدمة المجتمع والمواطن السوري على الصعد كافة.
6 – فرج فرج
تداعيات الدولة الأمنية السورية على العمل السياسي:
لم تنتظم الحياة السياسية في سورية منذ قيام الوحدة السورية- المصرية عام 1958، ومنذ ذلك التاريخ، لم تعرف الدولة السورية قانونًا ناظمًا لعمل الأحزاب السياسية، وأصبحت مشروعية أي حزب سياسي مرهونة بعضويته، في ما بات يعرف بـ“الجبهة الوطنية التقدمية” التي أعلنت عام 1972، وحصرت العمل في صفوف الجيش والطلبة بحزب البعث الذي تكرست قيادته للدولة والمجتمع في المادة 8 من دستور 1973، فكان الديدن الرئيسي لأجهزة مخابرات النظام مراقبة كل من يخرج عن ذلك، وتعريضه لكل أشكال الاضطهاد، وشمل ذلك الأفراد كما شمل الأحزاب وأي تشكيل منظم آخر خارج إدارة سلطة النظام، ولو كان بمستوى مجموعة تعمل على تنظيف شوارع بلدتها .
على مدى هذه السنوات الطويلة، أصاب الحياة السياسية ما يشبه التصحّر، وطغت السلطة الأمنية على كل مناحي الحياة، ومن خلال تجربتي في العمل السياسي الحزبي، يمكن رصد تداعيات هذه السلطة الأمنية على العمل السياسي بالإيجاز التالي:
أصبح هاجس قيادات الأحزاب هو المحافظة على أحزابها وحمايتها من أجهزة المخابرات، وبذلك تحولت من أداة للتغيير إلى غاية بحد ذاتها، ولم تستطع التوفيق بين السرية في بلدٍ تحكمه المخابرات وبين العلنية التي تحتاج إليها الأحزاب للانفتاح على حاضنتها الاجتماعية.
العمل السرّي يحوّل الأعضاء إلى ما يشبه العُصب المنفصلة عن بعضها، قلّما تلتقي، وإن حصل اللقاء فإنما يكون في فترات متباعدة وبهويات غير حقيقية، وفي حالات تقديم العضو إلى مواقع المسؤولية، يجري ذلك من خلال الحلقة الضيقة العارفة بأعضاء الحزب، ولا تكون الكفاءة دائمًا هي المعيار الأساسي في الاختيار، وقد يغلب على ذلك ضمانة الرفيق الأمنية وعلاقة بيئته بالحزب أو ما كان يُطلق على مثل هذه الحالات بنوع من المداعبة بأنه من “عظام الرقبة “، ويتراجع معيار الفكر والثقافة العامة والمهنية، ليصبح المعيار السياسي هو المحدد لموقع العضو داخل الهرم الحزبي، وخاصة في قمته، الأمر الذي لعب دورًا غير قليل في هجر المثقّفين لأحزابهم .
في ظلّ سطوة الأجهزة الأمنية المتعددة، وتجفيف ينابيع العمل السياسي، وضعف الحاضنة الاجتماعية والأسرية للناشط في حقل السياسة، والضريبة الكبرى التي كان يدفعها بسبب تقرير كيدي من جهة أحد المخبرين، أصبح انتساب الفرد إلى حزب معارض قضية محفوفة بالمخاطر، إضافة إلى الاعتقالات التي كانت تشمل الشباب، وإلى حالات مغادرة التنظيم، وهنا أتحدث عن حالة قريبة من حزب محدد “الحزب الشيوعي السوري – المكتب السياسي”، الأمر الذي بدأ يؤثر في التركيب العمري والجنسي في هذا الحزب، وتجلى ذلك بوضوح في تركيب اللجنة المركزية المنتخبة من مؤتمره، حيث وسطيّ العمر 50 سنة، ويصل هذا الوسطي اليوم إلى 75 سنة، والوسطي العمري اليوم لعموم الأعضاء “حزب الشعب الديمقراطي السوري ” ربما يكون قريبًا من هذا الرقم، وهذا يفسّر الأداء المتدني لقيادة الحزب المعطلة لأي محاولة تسعى لتفعيل دوره، وانقلابها على النظام الداخلي وثوابت الحزب وتسويفها لعقد مؤتمر الحزب الذي كان مستحقًا قبل قيام الثورة .
وهنا أشير إلى تآكل الحضور النسائي في هذا الحزب وانعدامه في الهيئات القيادية، علمًا أن اللائحة الداخلية الناظمة لأعمال التحضير للمؤتمر خصصت “كوتا ” للنساء، ومع ذلك، لم تصل نسبتهن في المؤتمر إلى 10% من إجمالي المندوبين.
ومن أطرف الأمور حول ضعف وجود العنصر النسائي في الأحزاب، حضور السيدة ندى الخش إلى حلب، ومشاركتها في إحدى المناسبات القومية التي كانت تقام في ساحة سعد الله الجابري قبل قيام الثورة، حيث لفت انتباهها اقتصار حضور العنصر النسائي عليها فقط.
وبالعودة إلى سبعينيات القرن الماضي، كان متوسط أعمار قيادات وقواعد معظم الأحزاب قريبة من متوسط أعمار السوريين، وكان هذا المتوسط لدى البعض منها لا يتجاوز 25 عامًا.
في الدولة الأمنية، تذوب شخصية عضو الحزب الاعتبارية، فهو يمارس التقية والازدواجية في محيطه الاجتماعي والوظيفي، وداخل الحزب هو أبو فلان، ولا يُعرف باسمه الحقيقي إلا في دوائر ضيقة، ويكون السؤال عن حياة الشخص مثارًا للريبة، وخاصة في الاجتماعات الموسعة، وعضو الحزب لا يعلم عدد الأعضاء في الجماعة التي ينتمي إليها، وهو الأمر البديهي في الدولة الديمقراطية، وتدريجيًا تمسك مجموعة صغيرة بالحزب تبقي لنفسها على “أسراره “، ويتنامى بداخلها دور شخصية محددة، تكون الممسكة الأشد بآلية عمل الحزب وتتحول إلى ما يشبه الشخص الدكتاتور المقبول .
كانت أي معلومة تشتبه بعلاقة عضو الحزب بالجهات الأمنية، أيًا كان موقعه، تثير البلبلة وتعطّل أحيانًا جوانب مهمة من نشاط الحزب، وتترك آثارًا سلبية على علاقة العضو بالحزب.
لسبب ما، كان يشاع عن أجهزة الأمن بأنها كلية القدرة على مراقبة كل شيء، وأن آذانها على حيطان الغرف، وأنها جنّدت عمال النظافة والحجاب وسائقي السيارات العامة ومعاونيهم وبعض فئات الشعب ورجال الدين، وزيادة على كل ذلك، يمكن لها الاستماع لأي حديث عن طريق الهاتف، ولو كانت سماعته مغلقة، وأن لها قدرة على مراقبة رسائل الفاكس وحركة الشفاه.. إلخ، كل ذلك كان يخلق الرعب في الناشط بالمجال السياسي، وكان استخدام الهاتف والفاكس يثير المخاوف، وبالكاد يتم استخدامهما لأغراض تتعلق بنشاط الحزب، وكان يستعاض عنها بوسائل التواصل البدائية عبر الرسل، مع المخاطر التي كانت تنجم عن ذلك والتأخير في إيصال المعلومة، ولا يزال هذا الأمر مشاعًا بأن الأجهزة تراقب الواتس والنقال والبريد الإلكتروني ورسائل الماسنجر، وهذا ما نلمسه حتى هذا اليوم، مع من يتواصل مع السوريين في الداخل عند الحديث عن الشأن العام، حيث ينخفض الصوت وتبدأ لغة التورية والترميز، ويلاحظ أيضًا على السوريين في دول اللجوء تحفظهم عند الحديث مع بعضهم في المسائل المتعلقة بالوضع السوري.
في الدولة الأمنية، تضيق الأساليب الديمقراطية، وتتضاءل الحوارات داخل الحزب، ويُتجنّب إظهار الخلافات وطرح الأسئلة، وتضيق دائرة اتخاذ القرارات ورسم السياسات، تحت يافطة وحدة الحزب في مواجهة النظام، وبذلك تضيق الحريات طوعًا، وتمارس القيادة نوعًا من الدكتاتورية المقبولة، وفي لحظة ما، تبرز الخلافات المتراكمة وتتحول إلى انشقاق ومؤامرة، وتستمر في قوة العادة بمواجهة التحولات النوعية التي أقرها مؤتمر الحزب.
بسبب الاعتقالات وحياة المعتقلين المشتركة والاحتكاك اليومي ببعضهم، وانكشاف نقاط ضعفهم في الجوانب الإنسانية، من كرم وبخل وشجاعة وتضحية وود، كانت تلك الأمور تترك بصماتها على علاقتهم ببعضهم وعلى الحزب، بعد الإفراج عنهم، من خلال الاصطفافات التي تعود جذورها إلى فترة السجن.
كانت تنشأ حساسيات خفية بين فريقين في أحزاب المعارضة: بين من بقي في سورية ومن هاجر، وبين من هاجر طوعًا ومن أجبرته الضغوط الأمنية وضيق سبل العيش، وبين السجين ومن هو خارج السجن، وبين الذي صمد أثناء التحقيق والذي قدّم معلومات للمحقق، وبين الذي أفرج عنه بالتوقيع على ترك الحزب والذي رفض ذلك، كل ذلك انعكس على آلية عمل هذه الأحزاب وترك آثاره السلبية حتى يومنا هذا.
سنوات الاعتقال الطويلة وظروف الملاحقين والحرمان الجنسي والعاطفي، كانت تترك بصماتها السلبية على حياتهم الاجتماعية والأسرية والنفسية، حتى بعد انتهاء الحالات الاستثنائية، وعلينا أن نقدر كيف سيكون أداء من يعمل بالسياسة وهو يعيش تبعات السجن والملاحقة.
شكّلت التجربة النوعية لجماعة الإخوان المسلمين وصراعها العنفي مع النظام، في إحدى مراحل هذا الصراع، سيفًا مسلطًا على رقاب غالبية السوريين، وخاصة بعد صدور القانون 49 الذي قضى بعقوبات على المنتمي أو المشتبه به، تصل إلى عقوبة الإعدام، فكان ثمن تلاوة رسالة من الجماعة، من شخص غير منتمٍ إليها، هو السجن، له ولمن استمع إليها، فلا عجب أن الجماعة التي كانت الحاضر الغائب في تأسيس إعلان دمشق للتغيير الوطني الديمقراطي لم تُدرَج بين المؤسسين للإعلان.
هذا التسلط الأمني جعل الحياة الحزبية في تراجع مستمر، وزاد من انقساماتها، وأدى إلى انحسار معظمها إلى حواضن دينية وقومية وطائفية ومناطقية وعشائرية وأسرية وسواها، وذلك في غياب منظمات المجتمع المدني، وتراجع خطابها الوطني الجامع، إضافة إلى تعدد مسميات التنظيم الواحد، وارتباطه باسم إحدى شخصياته البارزة، وغالبًا ما تكون هذه الشخصية مترهلة فكريًا وثقافيًا، ولا عجب أن نشاهد التبعات السلبية لهذا الحال على الثورة السورية، منذ لحظة انطلاقتها الأولى حتى هذا اليوم.
بسبب القمع المديد لحرية الفكر والتعبير والنشر، تراجع دور المثقفين في الحياة العامة تدريجيًّا، وآثر القسم الأعظم منهم الهجرة إلى الخارج.
بعد أن هزمت الدولة الأمنية المجتمعَ ومعه السياسيين المعارضين لها، ودفعتهم تدريجيًا على مدى سنوات تسلّطها إلى أوكار هذه الهزيمة؛ جاء الثوار على غير ميعاد، ليُخرجوا المجتمع والساسة من هذه الأوكار إلى فضاءات الحرية، فتكالبت عليهم قوى الشر محاولة إعادتهم إلى تلك الأوكار وتشريدهم في المنافي ومناطق النزوح وفي المعتقلات وقتلهم بالحديد والنار والجوع والبرد والقهر، ولا يزال السوريون مصرّين على نيل حريتهم، بعد أن أسقطوا هيبة طغيان أشرس سلطة عرفها التاريخ، ومهما بدا من ظواهر الارتداد، فإن للثورات أحكامها بالوصول إلى غاياتها، وإن طال أمد ذلك، عندما ثار الشباب السوري على هذا النظام المقيت والدموي والفاجر، أعادوا الثقة لشعبهم بأن الظلم مهما طال لا بدّ من انبعاث الثورة لإزالته .
7 – مازن عدي
شهادة في تداعيات الدولة الأمنية في سورية على العمل السياسي:
تجربتي داخل سورية استمرّت أربعة عقود، ولكني في هذه الشهادة سأقتصر على تجربة عقدَين منها، ولكي أقدم ما هو مفيد من تجربتي في العمل السياسي والتنظيمي والتحالفات في ظل الدولة الأمنية، لا بدّ من الإشارة إلى أن الدولة الأمنية في سورية بدأت فعليًّا بالتشكل مع إعلان حالة الطوارئ وفرض الأحكام العرفية، في أعقاب الانقلاب الذي قامت به اللجنة العسكرية لحزب البعث مع حلفائها في 8 آذار/ مارس 1963، لاحتكار الحقل السياسي، بذريعة الشرعية الثورية ومفهوم الحزب القائد، من خلال الأذرع الأمنية والأدوات السياسية أو النقابية المرتبطة بهذه الأذرع، وترسخت وتقوننت وتغولت هذه الدولة الأمنية في عهد الأسدين الأب والابن.
استمرت تجربتي داخل سورية حوالى أربعة عقود، اختلفت حسب مراحل النشاط المختلفة وحسب الهامش الذي تتيحه السلطة للعمل السياسي المعارض؛ وسأتحدث باقتضاب عن وقائع من تداعيات الدولة الأمنية على العمل السياسي وعلى نشاطي في المراحل المختلفة:
1- في أثناء دراستي الجامعية في كلية الهندسة المدنية في دمشق، شهدتُ تأسيس الدولة الأمنية الأسدية التي استندت على ما قبلها، إذ تمت قوننة الاستبداد ومصادرة الحياة السياسية، عبر ميثاق الجبهة الوطنية التقدمية عام 1972، وعبر ما سُمّي بالدستور الدائم، من دون أن ترفع قانونيًّا حالة الطوارئ، وبقي قانون معاداة أهداف الثورة سيئ الذكر ساري المفعول، وانعكس ذلك على تقييد النشاط السياسي للحزب الشيوعي عمومًا وعلى أعضائه، فعلى صعيد الجامعة، انتقل هذا النشاط من مرحلة شبه علنية، بسبب ارتباط الحزب الشيوعي بـ“الجبهة التقدمية”، إلى مرحلة مزدوجة من العلنيّة والسرية. وعلى سبيل المثال، كنت من عناصر لجنة الحزب العلنية المحدودة في منظمة كلية الهندسة المدنية، التي لها صلاحية بالنشاط السياسي والتنظيمي العلني، إذ اقتصر العدد على أربعة كوادر: سهيل جرجورة وفرحان نيربية وحكمت أبو جمرة ومازن عدي، على حين أن العشرات من الأعضاء كانوا يمارسون نشاطًا شبه سرّي بعد حظر العمل السياسي في ميدان الطلبة والجيش على القوى السياسية كافة حتى الأحزاب المنضوية في ما يسمى “الجبهة الوطنية التقدمية”، باستثناء حزب البعث العربي الاشتراكي الذي تحكم السلطة الأسدية باسمه. وتعرض معظم العناصر العلنيين في الحزب للمراقبة أو المتابعة أو الاعتقال، مثل ما حصل مع رفاقي فرحان نيربية، وحكمت أبو جمرة، وغازي البدين، وعبد الرزاق عزّ الدين، وكذلك تيسير الشهابي، في تظاهرة يوم الأرض، في 30 آذار/ مارس 1976، وفي ذلك الحين، خدمتني الصدفة في تجنب الاعتقال، بسبب اضطراري إلى الالتحاق بمركز العمل الجديد بعد تعييني الإلزامي في شركة إنشائية عائدة للدولة (جيكوب) في حمص، قبل ثلاثة أيام من هذا التاريخ.
عايشت مرحلة توقيع ميثاق الجبهة، وأحداث الاعتراض على “الدستور الدائم” عام 1973 في مدينة حماة، وما حصل فيها من حوادث شغب، وكنت شاهدًا غير مباشر عليها، ومن ثم على عملية الالتفاف على مجمل الاعتراض بتغيير السلطة مادةً في الدستور، وما فجّره ذلك من أزمة داخل الأحزاب المنضوية وانقسامات داخلها، وحصل ذلك باستقالة د جمال الأتاسي (أمين عام حزب الاتحاد الاشتراكي ونائب رئيس “الجبهة”) من “الجبهة التقدمية” وخروجه مع حزبه منها، واستقالة وزيريه المحاميين عبد المجيد منجونة وراغب قيظار، مع بقاء مجموعة فوزي الكيالي داخلها التي انشقت عن حزبه، وكذلك حصلت انقسامات داخل أطرافها، مثل حركة الاشتراكيين العرب (خروج تيار عبد الغني عياش دون إعلان رسمي) الحزب الشيوعي السوري الذي فاقم في انقسامه بين التيار التقليدي للحزب المدعوم من القيادة السوفيتية (تيار خالد بكداش ويوسف فيصل ومراد يوسف) والملتزم بتحالفه مع النظام وفق ميثاق الجبهة، وبين التيار الاستقلالي (رياض الترك وعمر قشاش وفايز الفواز) الذي كنت أعمل في صفوفه، والذي عُرف بالحزب الشيوعي السوري/ المكتب السياسي، وكانت هناك انقسامات داخل الأطراف التي استمرت في “الجبهة” (الوحدويون الاشتراكيون وحركة الاشتراكيين العرب والحزب الشيوعي الرسمي)، ولم تكن أصابع الأجهزة الأمنية بعيدة عن ذلك.
2- في مرحلة عملي الهندسي، في إطار العمل الإلزامي مع الدولة من عام 1976 إلى 1980، بدءًا من التدخل العسكري السوري في لبنان إلى بداية تنفيذ ما سمّي بالحل الأمني للأزمة العامة السورية، كان هناك قمع مباشر لأي صوت معارض لسياسات النظام؛ وقد تعرضت في تلك المرحلة لأول تجربة ملاحقة صيف عام 1976، استمرت أكثر من شهرين، بعد أن أفلتّ من الاعتقال حين أتت دورية أمن بمرافقة رئيس ناحية الخفسة إلى منطقة عملي، بسبب مواقفي السياسية وانتقاداتي للتدخل العسكري السوري في لبنان ومواجهته لمنظمة التحرير الفلسطينية وارتكاب قواته مجزرة مخيم تل الزعتر، وكنت في حينها مهندس تنفيذ ونائب مدير مشروع الخفسة على نهر الفرات، لتوسيع محطات التصفية للمياه التي تغذي مدينة حلب بمياه الشرب. انتهت مرحلة التواري القصيرة، بعد تدخل مدير الشركة الإنشائية التي أعمل فيها والالتحاق بعملي وتبليغي رسائل تحذيرية شديدة اللهجة. بعدها بأشهر التحقت بالخدمة العسكرية الإلزامية التي أعادت فرزي بعد الدورة التدريبية إلى العمل في الشركة الإنشائية المدنية التي كنت أعمل فيها، وانتقلت إلى مدينة حماة مسقط رأسي، حيث مارست عملي الهندسي في فرع الشركة في محافظة حماة. وصلتُ إلى موقع المسؤولية السياسية والتنظيمية في منظمة حماة للحزب الشيوعي/ المكتب السياسي، من دون إعلان ذلك، واضطررنا إلى أن نعقد أكثر من اجتماع ومؤتمر للمنظمة بشكل سريّ، وقد ضم المؤتمر الذي عُقد في بداية عام 1978 أكثر من 20 مندوبًا من الريف والمدينة، من دون أن يعرف المندوبون مكان الاجتماع بالتحديد، وبإجراءات احترازية إذ يتم الدخول إلى المكان على مراحل، مع استخدام الأسماء الحركية، وانتخب المندوبون لجنة منطقية، انتخبتني بدورها مسؤولًا أولًا لها، وفي عام 1979 صرت عضوًا غير معلن في اللجنة المركزية للحزب.
مارستُ التنسيق بشكل سري مع ممثلي حزب الاتحاد الاشتراكي العربي وحركة الاشتراكيين العرب الذين خرجوا من الجبهة، وتابعت نشاطي على الصعيدين الثقافي والمدني، وانضممت إلى جمعية العاديات التي تعنى بحماية الآثار والموروث الثقافي، وكان يرأسها الدكتور عمر الشيشكلي، رئيس نقابة الأطباء في حماة ونقيب أطباء العيون في سورية الذي اختُطف وتمت تصفيته في نيسان/ أبريل 1980، مع بداية الحل الأمني. وأسهمتُ في تأسيس النادي السينمائي في حماة، وكان يضمّ ما لا يقلّ عن 140 عضوًا، واضطررنا في مجلس الإدارة إلى أن ننتخب شخصيات محايدة، كي ينال النادي الموافقة الأمنية على نشاطاته التي كنا نقيمها في المركز الثقافي في حماة، وكنت ممثل النادي في الهيئة التأسيسية لاتحاد النوادي السينمائية في سورية، مع مشاركة المخرجين نبيل المالح وعمر أميرالاي وسمير ذكرى ومحمد ملص.. وآخرين. وتوقفت نشاطات الأندية إلى حد بعيد في نهاية عام 1980. وفي هذه المرحلة أسهمتُ في حوارات مع كوادر من القوى السياسية المعارضة، وأثمرت الحوارات المركزية بتشكل التجمع الوطني الديمقراطي نهاية عام 1979، بين خمسة أحزاب وتوقيع ميثاقه، ولعبتُ دورًا في إشراك قيادة حركة الاشتراكيين العرب (عبد الغني عياش) بالحوار مع قيادة الحزب الشيوعي/ المكتب السياسي حينها (رياض الترك وفايز الفواز) بحكم علاقة تاريخية تربطني بقيادات الحركة. وكانت هذه الحوارات سريّة غير معلنة. باختصار: كنتُ أمارس السياسة بشكل علني كفاعلية اجتماعية مع تقية سياسية جزئية وتقية تنظيمية كاملة. ونما النشاط السياسي في بداية عام 1980، بعد إفراجات عن معتقلين سياسيين، ومع اتساع التحرك العلني للنقابات العلمية والمهنية المطالب برفع حالة الطوارئ واستقلالية النقابات وخروج التجمع الوطني الديمقراطي للعلن، من خلال بيان أواسط آذار/ مارس 1980 الذي طالب السلطات بالاستجابة لمطالب الشعب واعتماد المخرج الديمقراطي، وحيّا الحراك الشعبي والإضراب العام الذي حصل في المدن السورية باستثناء دمشق، وعملت قوى التجمع على توزيع هذا البيان على نطاق واسع في سورية، بطرقٍ عدة بعضها حمل روح التحدي وترتب عليه اعتقالات وملاحقات في جامعات دمشق وحلب واللاذقية، وكان قسم منها يتم بسرية وعمل دقيق، كما حصل في مدينة حماة، حيث نجحت عملية توزيع ما لا يقل عن 2000 نسخة من البيان بأسلوب التوزيع الخفي بمداخل الشقق والمحال وإلصاق بعضها على الجدران، بسبعة محاور في توقيت واحد في معظم أحياء المدينة ومناطقها، ونَفذت العملية مجموعة شبابية من أعضاء الحزب، وكنتُ مشرفًا على التنفيذ، ما زال معظمهم أحياء ونجا أحد الأعضاء الموزعين بحسن تدبيره، بعد أن أوقفته دورية من دوريات الأمن المنتشرة في الشوارع. وبالرغم من كل القيود والحظر السياسي، حقّق فرع التجمّع الوطني الديمقراطي في مدينة حماة، وكنت أحد أعضائه، حضورًا مميزًا في الأشهر الأولى من عام 1980، بالاتصال مع الشخصيات العامة والنقابية، وكذلك بالنشاط مع أعداد كبيرة من كوادر الأحزاب سبق أن توقفت عن النشاط والعمل العام، واستطاع أن يبني شبكات في معظم أحياء المدينة، وتحوّلت “المنازيل” التقليدية إلى صالونات سياسية، ولولا الإسراع بالحل الأمني واستخدام القمع على نطاق واسع، لتبلورت حركة شعبية واسعة تطرح المخرج الديمقراطي وترفع شعار “الدين لله والوطن للجميع”، بمواجهة تسييس الدين الذي تقوم به السلطة الأسدية بنهجها الطائفي أو خطاب الطليعة المقاتلة للإخوان المسلمين بشكل معاكس.
3- مع استخدام حافظ الأسد العنف العاري، بدءًا من 7 نيسان/ أبريل 1980، وزجّ الجيش في مواجهة الشعب، ومحاصرة الملايين في حلب وحماة وحمص، وارتكاب التشكيلات العسكرية الفئوية المجازر في تدمر وحماة وحلب وسرمدا، ومجزرة حماة الكبرى في شباط/ فبراير 1982، أزال النظام أي هامش للمعارضة، وأغلق باب الانتقادات، وجفف الحياة السياسية. وفي هذه المرحلة، شنّ النظام حملات قمع شديدةً، ومارس القمع على عموم الشعب أولًا لكونه حاضنة أي معارضة، ثم قام بحملات تصفية للتنظيمات المعارضة. وكنتُ أحد كوادر الحزب الناجين من الاعتقال في 8 تشرين الأول/ أكتوبر 1980، خلال الحملة الواسعة التي استهدفت الجهاز العصبي للحزب، من هيئات قيادية وكوادر ونشطاء وأجهزة طباعية، لشل فاعليته، عشية توقيع معاهدة الصداقة السورية السوفيتية (كان هناك نحو 250 معتقلًا من الكوادر القيادية، قضى معظمهم أكثر من عشر سنوات). وقبل أشهر، اعتقل قادة النقابات المهنية والعلمية، كما استهدفت تنظيمات الإخوان المسلمين، وفي عام 1981، استؤنفت الاعتقالات في صفوف حزب العمل الشيوعي، إضافة إلى الملاحقة التقليدية لأنصار صلاح جديد وإبراهيم ماخوس (حزب البعث الديمقراطي) وهو أحد أطراف التجمع، وكذلك للبعث القومي، أنصار ميشيل عفلق وصلاح البيطار الذي اغتيل في باريس عام 1980، وشددت الضغوط والتهديدات على أطراف التجمع التي لم تتعرض في حينه إلا لاعتقالات محدودة، مثل الاتحاد الاشتراكي وحزب العمال العربي الثوري، وأصابت حملات الاعتقال أيضًا مجموعات سياسية قريبة من قوى التجمع، مثل مجموعة (بدر) والتنظيم الشعبي الناصري. قضيتُ في حالة تواري داخل سورية نحو إحدى وعشرين سنة، أي ما يزيد على العقدين، مع أسرتي، معظمها في دمشق، وأصبحتُ من الدائرة الصغيرة التي تقود الحزب في معركة مفتوحة مع النظام تلقّى الحزب خلالها حوالى عشرين حملة اعتقال في عقد الثمانينيات. وفي هذه المرحلة، كانت هناك عملية تجفيف للعمل السياسي، وكانت استراتيجية الحزب دفاعية، وكذلك التجمع الذي بقي ظهيرًا له. كان قرار الحزب واضحًا، وكانت قناعتي الشخصية ببقاء قيادة الحزب في الداخل، لضمان أفضل لاستقلالية القرار ولتوفير استمرار أكثر جدوى لعمل البنى التنظيمية داخل سورية.
شكّل التجمّع سندًا للحزب في محنة الاعتقالات، واضطر إلى أن يلجأ إلى سرية شديدة، وبعض أطرافه جمّد نشاطه، كالاتحاد الاشتراكي، وأصدر التجمّع بعض الرؤى السياسية المشتركة بدون توقيع، حتى آخر الثمانينيات عام 1989، إذ أصدر رسالة داخلية مفصلية وقّعتها قيادة التجمع، بعد التغيرات الدولية الكبرى التي شهدها العالم بانهيار الاتحاد السوفيتي وانتعاش رياح التغيير الديمقراطي في أنحائه المختلفة. وقد رأى التجمع في ذلك الحين أن وضع البلاد وصل إلى حالة استعصاء شديدة؛ فالنظام (الدولة الأمنية) تحول إلى بنية متكلسة غير قابلة للتغير والإصلاح من جهة، ومن جهة أخرى قوى المجتمع والمعارضة بحالة عجز عن فعل التغيير، ولا بد من العمل على كسر هذه الحالة، بمبادرات وضعها التجمع على رأس مهامه، بتشكيل جمعيات تدافع عن حقوق الإنسان واستعادة النشاط المدني الذي هو حاضنة أي عمل سياسي. وفيما بعد طرح التجمع شعار انتزاع الشرعية العلنية، ولو أدى ذلك إلى خسائر تنظيمية. وكان انعكاس حرب الخليج الثانية على الشارع السوري كبيرًا، وساد جوٌّ من التسييس دفع قطاعًا من المثقفين والمحامين، بدفع من التجمع، إلى إصدار بيانات، كما أصدر التجمع نشرة خاصة به “الموقف الديمقراطي”، وكذلك بيانات بخصوص احتلال القوات العراقية للكويت، وضرورة انسحابها وحل الأمر عربيًّا، ودان التجمع العدوانَ الأميركي على العراق، وترتب على نشاط التجمع بعد مرحلة سبات اعتقالات في صفوفه. وحاول تحريك قاعدته الطلابية، لكنه وصل إلى استنتاج قاسٍ، هو التقلص الشديد لقاعدته الشبابية، بل للقاعدة الشبابية للأحزاب عمومًا، وأحدث ذلك فجوة جيلية تركت آثارها العميقة، ولمستُ هذا الأمر ميدانيًّا، بحكم موقعي في اللجنة التنفيذية للتجمع، وإشرافي المباشر على القطاع الطلابي لدى أطراف “التجمع”، أي أنه في عقد الثمانينيات وفي الطور المتوحش للدولة الأمنية، أوصل نهج إلغاء السياسة من المجتمع إلى درجة عالية أدت إلى تحولات كبيرة في بنية الأحزاب والقوى السياسة، باتجاه تراجع تأثيرها مع تغول الأجهزة الأمنية.
8 – محمود الوهب
أحزاب الجبهة والأجهزة الأمنية (الحزب الشيوعي نموذجًا):
لماذا الحزب الشيوعي بالذات؟ في الحقيقة ثمة اعتبارات عدة أهمّها أنه كان الأكثر جدية ونشاطًا بين الأحزاب منذ ثلاثينيات القرن الماضي، وخلال خمسينياته، إذ كان واجهة في الصراع الدولي على سورية متمثلًا موقف الاتحاد السوفيتي أحد القطبين المتناحرين، وكان يعِدُ آنذاك بعالم جديد للعدالة الاجتماعية من خلال تمسكه ببناء الاشتراكية، ولم يكن في سورية حزب يضاهيه في هذا المجال، وكان أغلب مثقفي ذلك الزمن من مفكرين وأدباء وفنانين يتبنون أفكاره ويدعون لها، فهو أكثر القوى جذرية تجاه بناء الاشتراكية، وحرية الشعوب، أما الأحزاب التي وُجدت زمن حافظ الأسد، فغالبيتها أحزاب قومية انشقت، أصلًا، عن حزب البعث، واكتسبت شعبية خلال فترة الانفصال، وحين جاء حافظ الأسد، بعد وفاة جمال عبد الناصر بنحو شهر وأسبوعين، وجدت قياداتها فيه البديل المناسب. وثمة أمر في غاية الأهمية، هو أن الديمقراطية التي كانت قائمة في سورية، وألغاها حزب البعث، كانت تجربة أكدت أنَّ الديمقراطية يمكن أن تنمو في بلاد نامية أقلّ تطورًا، في علاقاتها الإنتاجية والاجتماعية، وفي تعليمها وثقافتها، من بلدان الديمقراطية الصناعية. ومن هنا، يمكن الإشارة إلى أن الكثير من النقابات العمالية والمنتديات الثقافية والصحف والمجلات وجدت لها في الخمسينيات مجالًا نحو أفق أوسع، ولعل الحزبين الشيوعي والبعثي كانا الأكثر نموًا في تلك السنوات. لذلك أصرّ الحزب الشيوعي على مبدأ الديمقراطية أساسًا في بناء دولة الوحدة، وقوة استمرارها.. ورفض الحزب حلَّ نفسه، وقدّم مقترحًا تضمنَ ثلاثة عشر بندًا، معظمها حول الديمقراطية، والأخذ بالفوارق الطبيعية بين نظامي البلدين، ثم عندما أخذت علائم انهيار الوحدة، تقدّم باقتراح آخر تضمن ثمانية عشر بندًا..
وقبل الالتفات إلى تجربة الحزب في التعاون مع حزب البعث، لا بد من الإشارة إلى ثلاثة أمور: الأول أنَّ تعاون الحزب الشيوعي مع حافظ الأسد أتى، في الحقيقة، بدفع من السوفييت، فلم يكن الحزب مع مجموعة العسكر، ولا مع الانقلابات العسكرية عمومًا. كما لم يكن حافظ الأسد في طروحاته لدى قيادته، قبل انقلابه، مع شعار الجبهة الوطنية ولا مع أي مشاركة لحزب البعث في سلطته. أما الأمر الثاني فيتعلق بتجربة الحزب الشيوعي تجاه الوحدة السورية المصرية، وخاصة ببعض ممن دخلوا السجن طوال فترة الوحدة، إذ تأثروا باختلاطات شابت موقف الحزب من المسألة القومية عمومًا. الأمر الذي انعكس على رؤية الحزب المستقبلية، تجاه تلك المسألة، وأدى فيما بعد إلى انقسام الحزب، وقد وجه المؤتمر الثالث للحزب المنعقد في حزيران/ يونيو 1969، انتقادات سياسية وتنظيمية لقيادة الحزب أقر بها الأمين العام خالد بكداش، وبتحمُّله مسؤوليتها، وقد جاء في تقرير اللجنة المركزية: “إن الحزب لم يؤيد قرارات التأميم، وكوادر الحزب يئنون في السجن تحت سياط الجلادين. إضافة إلى أن السوفييت صار لهم موقف هو أقرب إلى تأييد حركات التحرر الوطني، وبالطرق المختلفة الذي تسلكه، وفق مقولة لينين: سوف تصل أمم الأرض كلها إلى الاشتراكية، وفق ظروفها، وعلى هذا النحو أو ذاك”. أما الأمر الثالث والأهم فيتعلق بأسس التعاون التي أقرّها المؤتمر المذكور، والمفترض أنها مُلزمة للحزب، لكن مجريات الأحداث تجاوزتها. وهي- كما وردت في التقرير المشار إليه- محددة في ثلاثة بنود هي:
أولًا: الذهاب إلى أبعد مدى في التعاون مع القوى الوطنية والتقدمية داخل الحكم وخارجه. ثانيًا: إبراز وجه الحزب المستقل. وثالثًا: الدفاع عن مصالح العمال والفلاحين وعن مكتسباتهما.
دور الأجهزة الأمنية في دولة الأسد العميقة:
إذا كان الجيش درع حافظ الأسد وسند دولته العميقة، فإن الأجهزة الأمنية هي العين الساهرة على كل مواطن، مهما علا شأنه، وأيًا كان انتماؤه! فقد أعطيت الحرية للعبث بكل شيء حتى أحزاب الجبهة، تقسيمًا، وشراء ذمم. وللأمانة، يمكن القول: إن الحزب، مع استمرار ذلك التعاون غير المتكافئ، تماهى بحزب البعث، وبالقائد الأبدي، وإن احتفظ بحق الانتقاد الذي لم يكن ليقدم أو يؤخر، إذ لا يقود، في النهاية، إلى موقف مستقل عن التحالف. وغدا التحالف فوق المصلحة الوطنية كما يراها الحزب، فالوطن ليس المواطن في عيشه وحريته، بل في موقفه “الصوتي” ضد الإمبريالية (لو كنا ننطلق من الوضع الداخلي لكنا في المعارضة/ خالد بكداش)، في وقت أخذت فيه الصراعاتُ داخل الحزب تزداد، حول بعض الفُتات الذي كانت تلقيه السلطة، بدءًا بعضو اللجنة النقابية وانتهاء بمدير عام مؤسسة، أو عضوية مكتب تنفيذي أو مجلس شعب أو وزارة بحقيبة أو بدون. والحديث هنا يشمل عموم أحزاب الجبهة (على الرغم من أن الحزب الشيوعي في البدايات، كان يتمسك بترشيحاته.. وكانت اللجنة المركزية هي التي تقر الترشيحات للمراكز العليا). وإذا كانت تلك الأمور تحدث قبل انهيار الاتحاد السوفيتي، فإن الحزب وجد نفسه بعد الانهيار يتيمًا على موائد اللئام! وفي هذه الفترة، نزف الحزب كثيرًا من كوادره وأعضائه. وغدت بعض أحزاب الجبهة، من جهة أخرى، مطية لبعض رجال الأعمال الطفيليين، فصاروا يدفعون لبعض أمناء تلك الأحزاب، لترشيحهم إلى مكان فيه وجاهة، يمكِّنهم من تمرير مصالحهم وفسادهم، فالدفع لهؤلاء أقل من الدفع لأمناء فروع حزب البعث، أو لأعضاء القيادة القطرية، كما أن المنافسة أقل، والطريق أقصر وأسهل..
إن ذلك كله أسهم في تفتت تلك الأحزاب، كما ألغى وجود معارضة طبيعية، ومتوازنة يمكنها ملاقاة طموح الشعب إذا ما واتته ظروف مناسبة. والحقيقة أن الحزب استمرأ ذلك التحالف الذي كلما استمر في الزمن ضعف نشاطه، وتراجعت فاعليته ودبَّ اليأس بين صفوفه. وأظنه لم يرغب في تكرار التجربة التي كانت مع عبد الناصر؛ ففي ردِّه على مقارنة عضو مكتب سياسي (خلوف قطان) بين حافظ الأسد وعبد الناصر وتماثلهما، قال خالد بكداش: “لا يا رفيق، هذا وضعَنا في الوزارة، وذاك وضعَنا في السجن! فردَّ الرفيق: “طبعًا.. هذا أحببناه، وذاك شتمناه!” (الملاحظ أن المقارنة كانت تؤكد نتائج التفرد بالحكم، فالوحدة لم تعمّر طويلًا، بينما آلت سورية إلى الخراب والاحتلال، وربما إلى التقسيم، وشعبها إلى التشتت في أصقاع الدنيا ينتظر رحمة من بيدهم القرار).
وعودة إلى موضوع الأمن، يمكن القول إن أجهزة الأسد الأمنية استخدمت كلّ أساليبها مع الحزب الشيوعي، فمن دس مخبرين لنقل ما يجري في الاجتماعات من أحاديث، وتقييم للرفاق يترتب عليه اعتقالات أو إزعاجات الرفاق المعنيين في مجال عملهم، وأحيانًا في تأليب فريق على آخر لدى ظهور بعض التباينات الفكرية أو التنظيمية، ويمكن القول إن الصراعات التي نشأت في الحزب الشيوعي لعب فيها البعث (الأمن طبعًا) دورًا كبيرًا، ويمكن الإشارة هنا إلى حادثة ذات دلالة، ففي المؤتمر الثامن للحزب الشيوعي “الموحد” المنعقد عام 1996، ورد في تقرير اللجنة المركزية عبارة لـلينين، حول “حق تقرير المصير”، وكان سياقها يخصُّ الكرد في سورية، فاستدعى عبد الحليم خدام نائب رئيس الجمهورية، وعبد الله الأحمر الأمين القطري المساعد بعض قياديي الحزب، وأبلغاهم: إما حذف العبارة، وإما تصفية الحزب. وحذفت العبارة فعلًا! وبغض النظر عن صواب العبارة أو عدمه، فقد كان يمكن الرد عليها بأسلوب آخر! لكن ما حدث يؤكد نظرة البعث لأحزاب الجبهة على أنها أحزاب تابعة، كما يؤكد عجز الحزب تجاه ما ألزم نفسه به أساسًا للتحالف، مثل بند “إبراز وجه الحزب المستقل” آنف الذكر. وبعد ذلك بسنوات ليست طويلة، لوحظ تدخل البعث/ الأمن في الحزب؛ حيث جرت محاولة غير موفقة للتوحد مع تنظيم قدري جميل..
كل ذلك في تقديري يعود إلى أنَّ فريقًا من الحزب تماهى مع حزب البعث، متأثرًا ببعض الطروحات السوفيتية التي تخص حركات التحرر في البلدان المتأخرة، فغدوا يقولون إن هذا النظام هو نظام وطني وتقدّمي، وعلينا دعمه والدفاع عنه، وامتدت تلك المقولات إلى تلبية مطالب أركانه الأمنية أحيانًا، ما يعني المشاركة في الفساد. وقد لعب الدور في هذا الجانب تغلغل الأجهزة الأمنية في كل مفاصل الدولة، وفي مؤسساتها، وتنظيماتها الحزبية، والمجتمعية كالنقابات ولجان الجبهة، وسواها. وجرت العادة أن يزور مُفرزون من الأمن المؤسسات الحكومية والمنظمات النقابية، وبعض الموظفين، ولم تخلُ المدارس والجامعات من هذه التدخلات الأمنية، وعلى نحو أضيق بعض مكاتب الحزب الشيوعي بمعرفة بعضهم. لا شك في أن بعضهم تلوث من خلال موقعه، وصار بعضهم يتبنى قرارات حزب البعث، حتى سرت عبارة في الحزب عن هؤلاء: “أرسلناهم ليمثلوا الحزب، فغدوا يمثلون حزب البعث عندنا”. وتنطبق هذه العبارة على ممثلي الحزب، سواء في فروع الجبهة، ولجانها القاعدية، أم في المنظمات الشعبية، وفي مجالس المدن ومكاتبها التنفيذية! إذ تراهم يبررون أحيانًا قرارات اتخذت في مواقع تمثيلهم، كأن يجدوا مبررًا لنهب المال العام مثلًا، والتحايل على القوانين بمقولة: إنهم “بحاجة إلى تراكم رأس المال”، وحصل ذلك عندما أخذ رامي مخلوف يرمرم كل شيء.
9 – مصطفى الدروبي
تداعيات الدولة الأمنية في سورية على العمل السياسي (بنيته وتنظيمه وأدائه):
حين سطا الدكتاتور حافظ الأسد على السلطة عام 1970، ورِث كلّ الإرث الأسود للسرّاج، كما ورث التجربة المباحثية المصرية المرعبة، ليحيل سورية إلى سجن كبير، حيث ثقافة الخوف والشكّ والريبة والقلق عمّت القلوب والأحلام، وبنى على نموذجه الخبيث سياساته اللاحقة، حيث احتوى جُلَّ الأحزاب التقليدية في سورية عبر تحالف جبهوي، نجح من خلاله في تدجينها وتحطيمها وإزالة هيبتها في أوساط السوريين، وفي مطاردة القوى والأحزاب التي رفضت الانضواء تحت هذه الخيمة؛ فدخل السوريون كافة زمن الرعب المفتوح، خصوصًا بعد الصدام العسكري بين الإخوان والنظام، عندما استغل حافظ الأسد ذلك ليبسط مروحة سيطرته المطلقة على سورية والسوريين. ومن هنا دخلت البلاد في التّصحر السياسي، فكل من هو خارج الجبهة مشبوه ومتّهم بعدم الولاء، وهو عرضة للاستدعاءات الأمنية.
انتشرت فروع الأمن ومفارزه في عموم سورية، وأخذ الأمن يتدخل بشؤون المواطنين ومصالحهم وأفراحهم، حتى الفرح في سورية غدا يحتاج إلى ترخيص، وعلى المحتفلين أن يقطعوا وصلات مطرب الحفلة، بين الفينة والفينة، ليزفوا التّحايا للقائد المظفر الملهم ولأبنائه ولقادة الفروع الأمنية من بعده، حيث عبادة الفرد نهج يطبق وفق أجندة مقررة. وهذا ينطبق على الجميع نقابات ومنظمات شعبية وغرف صناعة وتجارة ومراكز ثقافية ومدارس تعليمية ونواد رياضية، إلى أن وصل ذلك الداء إلى قاعات مؤتمرات أحزاب الجبهة، حيث تُرفع صورة القائد المؤله وتوضع في الصدارة.
في طقس كهذا، دخل المجتمع السوري في سراديب الرعب، وأصبح كلّ فرد أمام خيارين لا ثالث لهما، فإما الانضمام إلى حظيرة القطيع، وإما أن تُقْطع عنه سبل العيش ويُطارد ويغدو موقع شبهة. وبالتالي غاب المجتمع وغُيّب، وانعدمت روح المبادرة، وحلّ السفهاء موضع النبلاء، واختفى كل نشاط أهلي أو مدني بنّاء.
أذكر أنني قد حضّرت كلمة باسم مندوب الحزب الشيوعي في الشركة الأهلية للغزل والنسيج، لإلقائها في المؤتمر النقابي لعمّال هذا القطاع في محافظة حلب، وكان حافظ الأسد قبل يوم من المؤتمر قد أصدر مرسومًا برفع الرواتب والأجور، فقلت إن هذا الأمر سيزيد نسبة التضخم، وأن هذه الزيادة ستُنقص القيمة الفعلية للأجور، وأنها ليست سوى شكل ظاهري دون مضمون، وإذ بشخص يخطف الورقة من يدي، وحين غادرنا قاعة المؤتمر، تقدّم مني شخص آخر، ليطيحني بكتفه وبقوّة، ويتركني أتدحرج من على الرصيف أمام دهشة زملائي النقابين الذين كظموا غيظهم خوفًا وغضبًا صامتًا.
وهناك حادثة، من الأهمية بمكان الإشارة إليها، حيث خرجتُ مع مجموعة من الرفاق من منطقية بكداش بحلب، لنلتحق بالمؤتمر التوحيدي للشيوعيين السوريين، الذي عُقد بمدينة الشباب في دمشق عام 1991. وفي اليوم الثاني، طُلِب منا (نحن جماعة بكداش) تحديد أسماء بعض الرفاق لترشيحهم للمركزية، وقُبيل الانتهاء من أعمال المؤتمر، نادى يوسف فيصل على المرشحين بأسمائهم، ولم ينادِ على اسمي، فانفجر أحد رفاقنا (ربيع الشعار) في وجه فيصل، وحدثت جلبة وشجار كاد أن يودي بالمؤتمر إلا أن يوسف نزل من منصة المؤتمر ليصافحني ويحتضنني بأسلوب شعبوي رخيص ليسترضيني، فقلت له: “نحن أتينا لنتوحد لا لنتقاسم الحزب كحصص”! إلا أن منطق الكوتا كان قائمًا، وعلمتُ بعد عشر سنين أن الأمن اتصل بدانيال نعمة ليحذره من ترشيحي للمركزية. لقد أوردت هذه الحادثة، لأبيّن كم كانت الدولة الأمنية مخترِقة لما يسمى بأحزاب الجبهة.
أما الحادثة الأخرى، فكانت في مديرية ثقافة حلب، حيث كنت أشتغل على إعداد محاضرة حول الذكرى الثالثة للغزو الأميركي للعراق، مشيرًا خلالها إلى خطيئة النظام العراقي، بعد توقيع اتفاقية “خيمة صفوان” الموقعة بين شوارزكوف- سلطان هاشم أحمد، إثر اندحار الجيش العراقي وخروجه من الكويت، إذ كان على صدام حسين (كما أشرت في نص المحاضرة) أن يحمي العراق وأهله، عبر إصلاحات جدية وجذرية بحيث تمثل جدار صد لكل من يضمر للعراق شرًا، مشيرًا إلى ضرورة إفادة القيادة في سورية من دروس وعِبر المأساة العراقية وتحصين الداخل السوري من خلال إصلاحات واسعة تتمثل بدستور جديد يكرّس التعددية وينهي حالة الركود التي يعيشها البلد، وينهي الرقابة المبالغ فيها، إلا أن الرد كان صادمًا: “نحن غير العراق”!! ومنعوني من إلقاء المحاضرة في مديرية ثقافة حلب حينذاك.
إن النهج الاستبدادي الأسدي جعل من الأحزاب التقليدية (ولبعضها تاريخ مشرّف في الخمسينية الأولى من القرن المنصرم) موضع تندر، حيث بدأ دورها بالانحسار، وضعفت هيبتها بين الجماهير إلى أبعد الحدود، وأصبحت تابعة وملحقة ومخترقة من الأجهزة الأمنية، ففقدت جلّ قواعدها، مما جعلها تفقد وجهها المستقل ويخبو صوتها ويغيب أي دور فعلي لها، بعد تعرضها لانشقاقات عديدة كان للنظام إسهام ليس بالقليل في تحققها، وأصبحت تقتات على بقايا موائد الأسد وأزلامه، إلى أن وصلت اليوم إلى خيانة دماء شهداء الثورة السورية، وتحول ما تبقى من قواعدها إلى شرذمة من شبيحة النظام، بعد أن باركت الاحتلال الروسي والإيراني وتبنّت خطاب الممانعة الكاذب.
تعرّضت للاعتقال مرتين، لأن ثمة صداقة كانت تربطني بتنظيم يساري كان قد شقّ عصا الطاعة على النظام المستبد، إلى جانب الاستدعاءات المتكررة لي في فروع أمن النظام ومراقبة هواتفي (منزلي ومكتبي الوظيفي)، وكلما زارني مُخبر كنت أحمّله بعض الرسائل بشكل دبلوماسي وغير مباشر، التي تشير إلى المهول القادم على وطننا، إن لم تقم قيادة البلد بإصلاحات جدية، إلا أن كلّ هذا كانت تذروه الرياح، فمن سيُصغي إلينا وكيف يغدو الفاسد مُصلحًا والمجرم قاضيًا! لقد أوصل تغوّل الدولة الأمنية المجتمع السوري بكل أطيافه إلى حالة انضباع، وأصبحت المؤسسة الأمنية وحدها التي لا تغمض لها عين وتعمل بيقظة وجهوزية عالية بكامل طاقاتها، خصوصًا بعد أن اكتشف السوريون أن الترويج للوريث القاصر كان دعاية ساذجة، وأن سورية ذاهبة باتجاه الأسوأ، وأن وعوده بالانفتاح مجرد وهم وطُعم مسموم، حيث كل هذا العهد المقيت لم يحتمل استمرار انعقاد منتدى للقوى الوطنية والديمقراطية السورية، أو استمرار صدور صحيفة، كالدومري مثلًا.
لقد باتت سورية تعيش تصحّرًا سياسيًا شاملًا، وأضحت كل مؤسسات البلد صورية ومزيفة، ولا تمثل إرادة السوريين، فدخلت بلادنا على إثرها في طور الاستنقاع والتآكل لمنظومة القيم الوطنية المتوارثة، وسادت ثقافة “دبّر راسك”، و”إن لم تكن ذئبًا أكلتك الذئاب”، و”ارشي تمشي”، وبدأ الاحتقان الطبقي والطائفي يأخذ طابعه التراكمي في بلادٍ يشكل الشباب الجزء الأكبر فيها من الهرم السكاني، حيث الآفاق سُدت في وجوههم، وكذلك باتت أحزمة الفقر المحيطة بدمشق وحلب وحمص.. تزداد اتساعًا، طردًا مع تراجع الدعم للقطاع الزراعي في ظل غياب حقيقي للخدمات، مع تراجع في القيمة الفعلية للرواتب والأجور، في القطاع العام الذي أضحى مرتعًا للّصوص من القائمين على شأنه. لقد أفسدت الدولة الأمنية كل شيء وأصبحت الحياة لا تطاق، فجاءت شرارة الثورة من تونس، لتوقد النار بالهشيم، وليفجر شباب سورية وفتيانها الأشاوس ثورة عظيمة، امتد أوراها إلى أغلب محافظات البلاد، ولجأت دولة الأمن إلى العسكرة والحلول الأمنية، فكان ما كان.
10 – مهران الشامي
“شو كان بدك بها لشغلة يا ابن العم؟”.. هذا هو السؤال الاستنكاري الذي سمعته من بعض الأقارب، وخصوصًا الشباب منهم، الذين جاؤوا ليسلّموا عليّ، بعد خمسة عشر عامًا ونيّف قضيتها في سجون من يصفونه بـ “الأب القائد”، معتبرين أنّ اهتمامي بالسياسة و”مقارعة السلطة”، ومن ثم السجن الطويل، أدى إلى “خسارة شهادتي الجامعية والقضاء على مستقبلي المهني والحياتي عمومًا”.
“شو كان بدك بها لشغلة؟”.. سؤال لا يحمل جوابه ضمنه فحسب، بل هو أشبه بحُكم مبرم يقذفه مُطلقه بوجهك غير عابئ؛ لا بك ولا بأحلامك وتضحياتك المفترضة! ومع ذلك، لم أُعِره في البداية الاهتمام الذي يستحق، بيد أن تكراره من طيف متنوع من هؤلاء الشباب (الغيورين عليّ والمُحبيّن في أغلبهم) أثار اهتمامي وفضولي على نحو أكبر، وبدأت أرى أنه يستحق مزيدًا من التأمل والتفكير (ليس مني فحسب، بل من كثيرين ممن مرّوا بتجربة الاعتقال المديد)، وصولًا إلى مقاربة إجابات (واقعية وعقلانية) عليه، بعيدًا من الأحكام المسبقة والقوالب الجاهزة.
كان استنكار أقربائي الشباب شبيهًا باستنكار معظم “نزلاء” أحد مهاجع سجن المزة العسكري سنة 1986، وكان معظمهم من تنظيم البعث القومي (العراق)، إضافة إلى بعض الجماعات الدينية الأخرى، عندما عرفوا أنني رفضت الانسحاب من الحزب الذي أنتمي إليه، ردًا على سؤال ضابط أمن قدِمَ إلى السجن خصيصًا، ليوجه هذا السؤال إلى أفراد حزبنا الموجودين هناك، ومعظمهم رفض ذلك أيضًا. كنا آنذاك حديثي العهد في السجن، بينما أغلب هؤلاء قد أمضوا فيه قرابة عشرة أعوام. وكانوا، طبعًا، مغتاظين أشدّ الغيظ من أن يرفض شباب مثلنا (في مقتبل العمر) ما أقدموا، جميعهم تقريبًا، على القبول به والتوقيع على ما هو أسوأ منه بكثير، وأعني تعهّدات سياسية وأمنيّة مُذلّة، لم تنفعهم في إطلاق سراحهم! ولكن في المقابل، هل “نفعنا” نحن رفض طلب الانسحاب، وهل كان مُجديًا ما أقدمنا عليه، وما كنا نظن أنه ينطوي على قيمة كفاحية عليا ومُثلى غير قابلة للمساومة؟ بمعنى آخر: هل مكّننا ذلك من التأسيس لإرث نضالي تتوارثه أجيال المهتمين بالسياسة والشأن العام، في ظلّ هذا الطراز الاستثنائي من الدولة الأمنية التي تحكمنا؟!
وإذا امتلك المرء جرأة أكبر، أمكنه أن يضيف متسائلًا؛ وهل كان لسنوات سجننا الطويلة أصلًا أن تشكل هي الأخرى فرقًا، أو “إرثا نضاليًا” يمكن التأسيس عليه والمراكمة فوقه، سياسيًا وجماهيريًا، على طريق خلق تقاليد كفاحية تتوارثها مجموعات وتنظيمات جديدة قد تتنطح للوقوف بوجه هذه السلطة الأمنية الاستثنائية؟! لا أودّ أن أكون مُحبطًا ومثبطًا لعزيمة من يرغب في فعل ذلك، لكنّي أخشى في الواقع من أنّ الإجابة عن مثل هذا السؤال قد تكون سلبية غالبًا، وفقًا للتجربة العملية التي خضتها وعرفتها على الأقل، وهي تفيد بأنّ العمل السياسي الجذري (الذي لا يمكن أن تضطلع به سوى أحزاب سرّية، وهو ما يحتاج بدوره إلى دراسات ومراجعات منفصلة) القائم على مناطحة السلطة وأجهزتها الأمنية السرطانية، وجهًا لوجه، محكومٌ على الأغلب بالإخفاق والتعثر، وخصوصًا من قبل التيارات اليسارية والديمقراطية والعلمانية، التي لم تعد تملك قواعد جماهيرية وازنة وفاعلة، في ظلِّ المتغيّرات النوعية التي عصفت بالعالم وبمنطقتنا خلال العقود السابقة، ومنها المدّ والنفوذ الواسع الذي باتت تتمتع به قوى “الإسلام السياسي” بمختلف تلاوينها وتدرجاتها، وخصوصًا القوى المتشدّدة التي تعارض -من حيث المبدأ- أيّ عمل سياسي أو ثقافي أو فكري، لا يخضع لضوابط “الشريعة”!
المواجهة السياسية الحديّة والنضال ضد سلطة شمولية، لا تقبل بوجود أيّ هامش لعمل سياسي (أو نقابي وأهلي) مستقلّ ومنفصل عنها، وتقوم على مبدأ أنها في حرب وجود وبقاء (وإبادة تاليًا) ضد كل من يعارضها على نحو جذري، لا يمكن أن تأخذ منحى طبيعيًا وتراكميًا أبدًا. وفي ظل سلطة كهذه، يمكننا أن نلاحظ محدودية أي قوة أو تحالف سياسي (وخصوصًا القوى الديمقراطية والعلمانية) على الفعل والتأثير، ويمكن أن تتعرض نضالات أي قوة سياسية منها إلى التبدّد والضياع، وأقلّه عدم الخضوع لمبدأ المراكمة والبناء على ما سبقه.
وعلى ذلك أيضًا، يمكننا أن نلاحظ كذلك أنّ الاحتجاج ضد مثل هذه السلطات لا يكتسي طابعًا تدرجيًا أو تصاعديًا، إنما يأخذ طابعًا انفجاريًا، وعفويًا غالبًا، بين آونة وأخرى، من دون الخضوع إلى التخطيط المسبق أو القيادة المنظمة. وعند حصول الانفجار، فإنّ الاستقطاب والمشاركة الاجتماعية فيه (أو ركوب موجته)، لا يأخذ شكلًا أفقيًا بل عموديًا، دونما فرق يُذكر بين من كان في صف المعارضة، وبين من كان بعيدًا عن السياسة، أو لديه موقف سلبي منها (مثل أقربائي الشباب الذين ذكرتهم أعلاه، والذين شارك أغلبهم في الحراك الاحتجاجي بعد العام 2011)، أو حتى بين من كان يشغل منصبًا في السلطة، قبل أن يبادر إلى الانشقاق عنها.
هل يشكل هذا دعوة إلى عدم الاهتمام أو الاشتغال بالسياسة (أعني في الداخل السوري الواقع تحت سيطرة النظام)؟ لا، ليس الغرض الوصول إلى هذه النتيجة. وهذا أمرٌ لا سبيل إلى ردّه أو منعه أساسًا، ويخرج بطبيعة الحال عن نطاق التحكّم أو السيطرة عليه. إنما أجد أنه من المفيد التواضع وخفض سقف التوقعات إزاءه، وعدم الرهان عليه كثيرًا، في ظلّ الظروف والشروط المعروفة التي ما زالت تتحكم فيه. وقد يكون من الأجدى، حسب ما أظن، الاشتغال -على الصعيد الفردي أو الجماعي- على الجوانب الدعوية والفكرية المتصلة بالتأسيس وتهيئة (الذات السياسية) لتكون قادرة على الفعل والتأثير، حالما تتبدل هذا الظروف والشروط ويتاح لها ذلك. وتزداد أهمية وخصوصية هذا الاستخلاص، إذا أدركنا واعترفنا بالفقر الشديد الذي تعانيه أغلب القوى السياسية، التقليدية أو الحديثة منها، على صعيد الثقافة السياسية، وما يخصّ الجوانب والقضايا المتصلة بالعقد الاجتماعي و”الحوكمة الرشيدة”، ومعظم الموضوعات الاقتصادية والاجتماعية والدستورية والقانونية والتربوية والتعليمية والإدارية عامة، التي تُبنى على أساسها الدول والمجتمعات الحديثة، بعيدًا من تدخل وبطش وتحكم الأجهزة الأمنية.
11 – موفق نيربية
شهادة عن أثر الدولة الأمنية على عمل المعارضة:
ابتدأتُ العمل السياسي رسميًا في العهد البعثي اليساري سنة 1966، وتفاعلتُ إيجابيًا مع النزعات اليسارية المحتدمة بعد هزيمة 1967 وثورة طلاب العالم 1968، ومع انفجار الوضع داخل الحزب الشيوعي السوري بين محافظيه ومجدّديه، كنتُ طالبًا في النصف الأول من حياتي الجامعية في ذلك العهد. وأخذت فروع الأمن تتوالد وتصبح أكثر رهبة، تعلو منها أصوات التعذيب أحيانًا وتضيف إلى الجو الاجتماعي- السياسي مسحة من خوف. ومع ذلك، لم يصل الأمر إلى حالة مهيمنة بعد، وكنت مثلًا قادرًا على التسلّل من زاوية فرع الأمن والحديث مع الشباب المعتقلين من نافذتهم العلوية ونقل احتياجاتهم وحالاتهم.
الدولة الأمنية مع حافظ الأسد:
قبل انقلاب الأسد في 1970، كان الحكم مزدوجًا بينه وبين حزب البعث- الحكومة. وتحت يديه المخابرات العسكرية وجَنين جديد لمخابرات القوى الجوية ونواة لسرايا الدفاع يقودها أخوه رفعت، في حين يُمسك الحزب بالأمن القومي “أمن الدولة”، الذي يقوده عبد الكريم الجندي الذي كان في الخط الأول في مواجهة التحركات المعارضة؛ إضافة إلى “الأمن السياسي” الذي تأسس في عهد الوحدة، وهو يتبع لوزارة الداخلية والحكومة عمومًا. لم يكن حافظ الأسد ليتورط في ذلك العهد مع أطراف سياسية خارج السلطة، ولم يكن ذلك في مصلحته ومصلحة طموحاته القريبة.
الدولة الأمنية في عهد الطاغية الأب:
في بداية عهد الأسد، كان حريصًا على إعطاء انطباع منفتح ومتسامح. فحين قمنا مثلًا بإضراب طلابي صارخ في ما كان يسمى “المعهد العالي الصناعي” في دمشق، نطالب بإدراج المعهد في جامعة دمشق، وتحويل اسمه إلى “كلية الهندسة الميكانيكية والكهربائية”، ورفعنا مستوى الاحتجاج إلى مستوى الاعتصام والإجراءات التي تتحدى الإدارة والنظام؛ كان وزير التعليم العالي لطيفًا معنا، ووعدنا بالتدريج بتحقيق مطالبنا قريبًا جدًا. ولأنه شخص ذو خلفية أكاديمية ووطنية معروفة- وهو شاكر الفحام- وافقّنا على فك الاعتصام بعد أسبوع من الجلبة العالية والجرأة على ما كان ممنوعًا آنذاك. كان ذلك الأسبوع بعد ثلاثة أشهر من انقلاب الأسد، ورائحة استهدافنا للأخير وسلطته الجديدة كانت واضحة لا تخفى على عين أمنية، إلّا أن سلوك السلطة لم يتعدّ المراقبة واستخدام المخبرين. وحين جاءت دوريات أمنية تطلبني في “المعهد”، تهرّبت مرتين ثم كفّت عن ملاحقتي، واكتفى الأسد بمعاتبة من كان يحسبه “يمون” عليّ في حكومته الأولى. وبعد شهر، اكتفى رئيس فرع الطلاب في الأمن السياسي باستدعائي “لفنجان قهوة” في مكتبه. كان لطيفًا في البداية مع القهوة، ثم زمجر حين أبيت واستكبرت الاستكانة، واكتفى بتهديدي بشراسة وغضب.
ما أريد قوله أن الأسد اكتفى في السنوات الثلاث الأولى له، في الحكم الذي تفرّد به، ببناء الجيش بشراكة قوية مع الاتحاد السوفيتي، وتأسيس مؤسسة أمنية هائلة ومعقدة ولا مركزية تناسب فرديته وتسلّطه، تتداخل مع بيروقراطية الدولة وتبني شبكة تحكّم متينة بها. وحين اشتغل على تحقيق ما وعد به بمشاركة الآخرين في الحكم، من خلال “جبهة” أو تحالف، كان يؤسس للهيمنة على تلك القوى، وشقّها بشكل متتالٍ حين تتحرّك بين يديه.
بعد حرب تشرين 1973 التي كرّست شرعيته وعززتها، وانهمار المساعدات الخليجية وتزايد الموارد من ثمَّ، واستقرار مركزه العربي والدولي، استدار الأسد إلى ممارسة ما تتطلبّه الدكتاتورية والاستبداد، من سياسات الإغواء والشراء وتعميم الفساد مع “عملية البناء”، وتوسّع الطموحات الخارجية، للإطباق على منظمة التحرير الفلسطينية ولبنان، ليصبح مركزًا للقضية العربية المركزية. وبذلك، كان من الطبيعي أن يبدأ الاصطدام مع القوى الداخلية التي تحلم بالمعارضة، والقوى الخارجية التي تهدّد طموحاته الكبيرة. وحين أقدم على التدخّل في لبنان ربيع 1976، ليواجه “الحركة الوطنية” ومنظمة التحرير، وظهور بدايات لاستنكار ذلك بين مثقفي سورية وبعض قواها (الحزب الشيوعي- المكتب السياسي) مثلًا، ابتدأت ظلال الخوف والقمع بقرع طبولها الأولى، وكان لتلك الأجواء تأثير علينا آنذاك، نحن القوى المسالمة أساسًا، والتي يغمرها الشوق للعمل المعارض. فتمّت الدعوة إلى “اليقظة الثورية” وإجراءات “الحماية الأمنية”، وإعادة النظر في طرق العمل التنظيمي والاتصّال. وأدّى ذلك إلى تشتيت الفعالية، وتسرّب أعداد مهمة من المناضلين لأسباب شتّى، كان أهمها الخوف والتردّد أمام تحدّي السلطة التي كانت قد أصبحت ماردًا آنذاك.
كنّا نقوم في إطار طلاب الجامعة ببعض التظاهرات، بالشراكة مع فلسطينيين، لأسباب متنوعة بين وقت وآخر، وكان آخرها في تلك الفترة تظاهرة في شوارع دمشق في يوم الأرض الفلسطيني 1976. حوصرت التظاهرة وهوجمت من الجوانب لاختطاف بعض المنظمين. وبالرغم من المقاومة والشجاعة، اعتُقل عدد منهم، من دون أي مبرر إلا منطق الترهيب والرهائن، وبقوا في السجن ولم يفرج عنهم إلّا مع انتفاضة 1980، ومحاولة الأسد شراء رضا اليساريين وتجنيدهم في مواجهة خطر الأصوليين الذين ابتدأ قسم منهم بتطوير مقاومته للنظام بالعنف. في تلك الفترة أيضًا، جاءت الحملة الأولى على شباب ما أصبح اسمه لاحقًا “حزب العمل الشيوعي”، وعلى بعض النقابيين- عمر قشاش مثالًا- الذين يمكن لهم أن يقولوا “لا”، انطلاقًا من ابتداء ظهور الهوة المعيشية بعد فورة “التنمية- الفساد”، إثر حرب تشرين.
وفي ذلك الجوّ الغامض من الناحية الأمنية في النصف الثاني من السبعينيات، أصبحت الاجتماعات أكثر سرية ويقظة، وعقدت المؤتمرات التنظيمية مع إجراءات خاصة، تتضمن أيضًا إبقاء مجموعات احتياطية تستطيع تسيير العمل، إذا ما نجحت السلطة في كشف الاجتماع أو قررت الهجوم عليه واعتقال الحاضرين. ولكن تلك الإجراءات بذاتها كانت أداة لتحقيق هدف النظام الأهم، وهو إبعاد السوريين عن السياسة ونزعها من حياتهم.
في أجواء من الاغتيالات والعمليات الإرهابية ضدّ النظام أو من قبله، انحلّت قليلًا قبضة النظام عن عنق الوطنيين الديمقراطيين المعارضين بين أواسط عام 1979 وأواسط 1980 (من مجزرة حلب إلى محاولة اغتيال الأسد)، وتنامت نشاطاتنا المعارضة، باسم التجمع الوطني الديمقراطي من جهة، وباسم النقابات المهنية من جهة أخرى، وبلغت ذروتها أواخر آذار (بيان التجمع- الإضراب الكبير)، وكان جزء مهم من تلك النشاطات علنيًا، مع المحافظة على سريّة العمل التنظيمي واللوجيستي بأساسياته.
بعد ذلك، ابتدأت مناورات النظام على خطين: مناوشات متبادلة مع الجهاديين/ الإسلاميين، ورصد وحصار متزايد للديمقراطيين وأنصار حقوق الإنسان. وابتدأت الحملات مع أوائل ذلك الخريف، وقد اعتُقلتُ شخصيًا في أيلول/ سبتمبر مع آخرين، في حملة بلغت ذروتها في الشهر التالي، بعد أن غطى حافظ أسد مطاردته ليساريين بتوقيع معاهدة صداقة مع الاتحاد السوفيتي. وكان اعتقالي بعد اكتشاف مكان طباعة سرّي لنا في حي الوعر في حمص، والاعتقالات والتحقيقات التالية لذلك.
بهجمته على القوى الديمقراطية، تفرّغ النظام للجهاديين والإسلاميين عمومًا. ونزل من بقي خارج المعتقلات تحت الأرض عميقًا، لتصبح فعاليتهم أكثر محدودية، وينتقل مركز نشاطهم إلى الخارج. وفي لحظة تاريخية ما، قرّر النظام أن ذلك كلّه غير كاف، وأنه قادر على استغلال تغطيته الإقليمية والدولية وقوة مؤسساته القمعية، ليهاجم مدينة حماة، ويرتكب مجزرة عنيفة بأهلها، ويدمّر بعض أحيائها. وبالطبع، كانت ذريعته كما أصبحت بعد ذلك دائمًا هي “محاربة الإرهاب”، وأن سبب المجزرة والدمار تحصّن بضع مئات من الجهاديين في حماة ومحاولتهم” تحريرها”. إلّا أن السبب الأكثر عمقًا هو “تربية” الشعب السوري بمجمله، وإخراج أي احتمال للتمرّد أو المعارضة من أذهان السوريين جميعهم.
في ظلّ الدولة الأمنية الذي أصبح فاقعًا وفاضحًا، ومع حالة اقتصادية ومعيشية خانقة رغم الملايين التي تتدفق في جيوب الفاسدين الذين ابتدأت مركزة نشاطاتهم بقيادة عائلة الأسد ومخلوف؛ ساد الصمت عميقًا لعقدين من الزمن، تتخلّله حياة السجون والاعتقالات المتواترة دائمًا، والاستدعاءات إلى أجهزة الأمن على نطاق واسع. بعد خروجي من السجن، في منتصف الثمانينيات، استُدعيت إلى الأمن، مرارًا وتكرارًا، لبّيت في بعض المرات الدعوة، ورفضتها أيضًا مرارًا، على طريقة التجريب والخطأ. في أوائل التسعينيات ومنتصفها وأواخرها، كانت دفعات من السجناء السياسيين تخرج من السجون وأقبية الأمن مكسورة الجناح في كثير من الأحيان، لكنها تشكّل دعمًا للعمل المعارض من جهة ثانية.
وفي هذين العقدين، كان العمل بالغ السرية، محدود العلاقات، يطبع منشوراته بوسائل بدائية ومتحفظة أكثر مما كان لدينا حتى عام 1980. كانت الاجتماعات التي تضمّني تنعقد في أماكن تتغيّر من مرة إلى أخرى، والمواعيد في غاية الدقة في إجراءاتها الأمنية، لكثرة ما اعتُقل من معارضين في وقت مواعيدهم في الطرقات سابقًا. ولكن العامين الأخيرين في القرن السابق، قبل وفاة الأسد وبسبب تحضيره لوراثته، كانتا أكثر انفتاحًا بكثير، وأعادتا الوضع إلى الحالة التي كانت في عام 1979. وابتدأت وقتذاك بعض المنتديات بالظهور هنا وهناك، أقرب إلى الثقافة منها إلى السياسة، ومن قبل جماعات ذات حصانة معينة ونسبية.
الدولة الأمنية في عهد الطاغية الابن:
عند موت الأسد الأب، في حزيران/ يونيو 2000، هاجت مجاميع عصبوية شرسة في البداية، لإرهاب الناس ومنعهم من التحرّك واستغلال المناسبة. ومع ترشيح الأسد الولد مباشرة، رأينا ظاهرة اضطرار أجهزة الأمن إلى القيام بتظاهرات تأييد مهنية، كما يمكن أن يقال، بزعامة ضباطهم الكبار الذين كانوا يهتفون في مقدمتها. ولم يطل الأمر كثيرًا بعد خطاب القسم أواسط تموز/ يوليو حتى انحلّت القبضة قليلًا أكثر، وتنفّس الناس الصعداء من جديد، وانكبّوا بقوة على تطوير نويّاتهم التي ابتدأت في العامين السابقين. ظهرت لجان إحياء المجتمع المدني حراكًا مدنيًا- ثقافيًا- سياسيًا في البداية، وبالتوازي تقريبًا مع ظهور شبكة المنتديات التي انتشرت في كلّ المحافظات السورية. لكن الأجهزة الأمنية كانت تراقب مباشرة وعن كثب، وعن طريق “سفراء” أيضًا لها من بين مثقفي السلطة أو أساتذة الجامعات.
ومنذ بداية العامين الأخيرين قبل وفاة الأب، أخذت ظاهرة ضباط الأمن المثقفين الذين يزايد بعضهم على بعضهم الآخر بروح الانفتاح وتقبّل الديمقراطية بالتفشّي، إغواءً من جهة، وتقربًا للاستطلاع من جهة ثانية، وتحسينًا للسمعة تحسّبًا من أن يكون انفتاح العهد الجديد حقيقيًا. واستمرّت هذه الحال بين مدٍّ وجزر حتى عام 2005. بالرغم من توجيه ضربة مهمة على نسق انتقائي جديد للحراك، انتهت إلى اعتقال عشرة من طلائعه وقيادات وتعريضهم لمحاكمات صورية. ومع إغلاق المنتديات ومنعها من النشاط، تراجع ذلك النهوض، وغاب وجه ربيع دمشق.
في تلك الفترة، صدر بيان الـ 99 في أواخر أيلول/ سبتمبر 2000، وكان مُغفلًا من حيث الصناعة وآلية تجميع التواقيع، وبيان الألف الذي بادرت إليه لجان إحياء المجتمع المدني آنذاك، وشكّل من ثمّ منعطفًا في درجة تقبّل السلطة للحراك، وبداية هجومها على “جزأرة” سورية، كما وصّفها عبد الحليم خدام . وأدركنا أن البشائر كانت كاذبة، وأن تصديقها كان مبنيًا على الأحلام الوردية أكثر منه على الحقائق والجذور.
بعد اغتيال الحريري، وخروج النظام من لبنان درّة تاجه مذمومًا مدحورًا ومتّهمًا، كان من الطبيعي أن تزداد “أطماعنا” في نقل العمل المعارض إلى مستوى جديد. وكان قد تأسس إعلان دمشق في خريف 2005، وابتدأ نشاطًا مختلفًا يجترّ خلافاته الأبدية في دمشق، ويستقل بعمل معارض وجديد في المحافظات، كان ناجحًا بحيث شجّع البعض على التخطيط لعقد “مجلس وطني” بمنزلة مؤتمر شامل ينقل المعارضة إلى مستوى جديد، قادر على تحدي فكرة عدم وجود بديل للنظام، كما تردّد دائمًا. وبصفتي رئيسًا للجنة التحضيرية لذلك المجلس الوطني، عشت فترة صعبة، ولكنها كانت واعدة، من خلال اجتماعات اللجنة بالاشتراك مع مكتب الأمانة العامة، للتحضير تنظيميًا ولإعداد مسودات الوثائق اللازمة. كان معظم تلك الاجتماعات يحصل في بيت رياض سيف، الشخصية الشجاعة والمعروفة، بشكل لم يكن يراقب إلا عن بعد، من دون تدخل مباشر.
تقرّر أخيرًا عقد المجلس في مطلع كانون الأول/ ديسمبر من ذلك العام، وتولّيتُ أيضًا إنجاز الإجراءات الأمنية، لمحاولة الالتفاف على مراقبة الأجهزة وتأجيل اطّلاعها على الأمر بعد نهايته. وبعد أن شاع أننا نخطط لذلك المؤتمر في إحدى فيلات منطقة الزبداني، قررنا فجأة باقتراح من رياض سيف أن نعقده في بيته، الملائم من جهة، والذي هو خارج التوقّعات من جهة أخرى، وكان القرار قبل الاجتماع بيومين فقط. وصل المؤتمرون (وكان عددهم المفترض 222) وحضر منهم فعليًا 167، من جهات مختلفة وبوسائط وأوقات مختلفة. وكان نجاحًا باهرًا، بلقاء ممثلين قادمين من كلّ المحافظات وكلّ القوى والتجمعات المدنية والسياسية، واجتماع على أوراق موحدة. إلّا أن فرحتنا تلك -وتعاسة النظام وأجهزته- لم تكتمل بما حدث من أزمة في العملية الانتخابية وما بعدها من عودة عنيفة إلى النزاعات والحزازات المألوفة.
اعتقل النظام بعد ذلك، بحركة مرتبكة، حوالي أربعين من أعضاء المجلس، كنت من بينهم، في فرع أمن الدولة في حمص. ولارتباك المؤسسة الأمنية وغياب خطة مسبقة للنظام، أفرج في اليوم التالي عن معظمهم، واحتفظ بالبعض الآخر، ومنهم بعض أعضاء الأمانة العامة المنتخبين، الذين كنت من ضمنهم، ولم يتوصّل التحقيق معي إلى شيء، فأُفرج عني أيضًا. ولكن غياب الخطة انتهى بعد أسبوع أو أكثر، وحاصرت أجهزة الأمن منزل رياض سيف الذي كنا مجتمعين فيه في اجتماعنا الأول، ولكن صاحب البيت خرج متحديًا يذود عن ضيوفه، وبقي نحو ساعة ريثما تجري الاتصالات مع كبار أهل النظام، حتى قرروا إخلاء سبيلنا والسماح بخروجنا تحت أنظارهم وبين صفوفهم. تلك التجربة كانت نهاية العهد بما كان من بعض تسامح أمني في تلك الفترة.
اعتُقل قياديون من إعلان دمشق بعدها، ولوحقت شخصيًا وبإصرار، لكني تسللت وهجرتُ حمص حيث بيتي، ونزلتُ تحت الأرض في دمشق. ومرّت بعد ذلك أعوام ثلاثة كئيبة، سياسيًا وأمنيًا، عرف النظام فيهما كيف يعتقل ومن لا يعتقل. لينهي الصفة المفتوحة عن إعلان دمشق، ويحوّله إلى بنية أكثر شبهًا بأحزاب المعارضة القديمة. في الأعوام المذكورة. ولأننا نعرف الرسالة التي يريد النظام توصيلها، وهي العودة إلى ما قبل الممارسة السياسية، إضافة إلى تجربتنا حول أهمية الثقافة والمثقفين في اجتراح الحراك، حاولنا آنذاك أن نعيد تأسيس بنية تجمع المعنيين وتنظيم عملهم، من دون نجاح حقيقي. وجاءت بشائر الثورات العربية من تونس ثم مصر، فاشتعل حماسنا من جديد، وعادت الأجهزة الأمنية إلى ارتباكها وزاد تخبطها وخوفها من المجهول القادم، فحاولت القمع في البداية من دون شدة كبيرة، بمنع التجمعات أو محاولة تفريقها وإبعاد المشاركين فيها أو بعضهم الأكثر أهمية. وكان ذلك كله يشجّع على قدح زناد حراك ثوري جديد مشابه لما حدث في تونس ومصر ثم ليبيا، أشعل النار في السهل كلّه اعتبارًا من آذار 2011.
12 – نادر جبلي
شهادة شخصية:
حول “تداعيات الدولة الأمنية على الحياة السياسية في سورية”، ومن واقع تجربتي الشخصية مع الحزب الشيوعي السوري/ المكتب السياسي (حزب الشعب الديمقراطي حاليًا)، والذي كان، وما يزال، من أكثر التنظيمات السياسية جذرية وأشدّها صلابة في معارضته لنظام الطغمة الأسدية، يمكنني القول إن شراسة ووحشية النظام، في قمع المعارضين والتنكيل بهم وتدمير حيواتهم، أجبر حزبنا، وكلّ أحزاب المعارضة، على اللجوء إلى التخفي والعمل السري، بل المغرق في سريته، خوفًا من الوقوع في قبضة الأجهزة الأمنية وعواقبه الكارثية على المعارضين وأسرهم، الأمر الذي أدى، على المدى الطويل خاصة، إلى تدمير الحياة السياسية في البلاد، عبر تدمير كل شروطها ومقوماتها: تدمير الحياة السياسية الداخلية في الحزب؛ وتدمير العلاقات السياسية بين الحزب وباقي القوى السياسية؛ وتدمير علاقات الحزب مع الناس؛ وتدمير الحياة الديمقراطية في الحزب.
عند النقطة الأولى (تدمير الحياة السياسية الداخلية)، أدى الضغط الأمني والعمل السري إلى اقتصار النقاش السياسي في مجموعتنا الحزبية على إبراز مساوئ النظام وفضح ممارساته، إضافة إلى المسألة الأمنية التي كانت حاضرة في كل لقاء (كيفية تجنب الاعتقال). وفي هذا الصدد، أسوق قصة واقعية معبرة: فقد أعطاني المسؤول عني في الحزب، والذي لم أكن أعرف غيره، جريدة داخلية، فقلت له بعد أن تصفحت عناوينها على عجل: أتساءل ماذا يمكننا أن نكتب أو نقول أو نفعل، إذا صحونا فجأة على سقوط النظام أو موت الرئيس.. هل يعقل أن ينحصر كل تفكيرنا بإبراز مساوئ النظام، وتصبح كل برامجنا هي فضح ممارساته الاستبدادية والقمعية؟ وهل أحتاج أنا، ابن هذا الحزب، إلى من يقول لي إن النظام سيء.. ألا يوجد في الحزب من يستطيع كتابة كلمة خارج هذه المسألة!! ماذا عن برامجنا السياسية ورؤيتنا للمستقبل…؟ إذن جفاف وتكلّس واجترار لموضوع مستهلك، فلا نقاش مع أحد خارج المجموعة، ولا نقاش إلا حول علاقتنا بالنظام، وإذا تناولنا موضوعًا آخر، فبسبب اتصاله وتأثيره على نظام الأسد.
وعن النقطة الثانية (تدمير العلاقات السياسية بين الحزب وباقي القوى السياسية)، كان من الطبيعي أن تتقلص العلاقة بين الأحزاب السياسية المعارضة إلى الحدود الدنيا، لتجنب الاعتقال والاختراقات الأمنية، واقتصر العمل المشترك بين أحزاب “التجمع الوطني الديمقراطي الخمسة”، على إصدار جريدة “الموقف الديمقراطي” على فترات متباعدة. كذلك أدت الحالة الأمنية إلى ابتعاد الحزب عن الناس، وانعدام قدرته على العمل بينهم. أما الكارثة الأكبر ربّما فكانت غياب الحياة الديمقراطية في الحزب، بسبب انقطاع التواصل وعدم القدرة على الاجتماع والنقاش والانتخاب والمشاركة.. واقتصار العلاقة مع القيادة على توجيهات تصلنا من القيادة عبر المسؤول، وطبعًا كل شيء شفهي كي لا نترك أدلة مادية.
بقي أن أقول إنني اكتشفت حجم الدمار وآثاره بشكل أوضح فيما بعد، في محطات معينة، ولكن بشكل خاص بعد اندلاع الثورة، حيث تطلب الأمر الانخراط الكامل في فعاليات ثورة طالما حلمنا بقيامها. اكتشفت أن قيادتنا التاريخية ممسكة بالسلطة بتلابيبها (للأبد)، ولا تسمح بالتجديد، مهما كلف الأمر، وأنها مستعدة لتوسل أساليب النظام نفسه في محاربة من تسوّل له نفسه المنافسة أو المطالبة بالتغيير. ولا أنسى ما حييت كلام الراحل عبد الله هوشة في منزلي، بعيد استقالته من منصب الأمين الأول للحزب، فقد تم تنغيص حياته ووضع كل العراقيل أمامه من قبل القيادة التاريخية إياها، وقد آثر الاستقالة والابتعاد بسبب نبله وسلميته وخوفه على مصلحة الحزب. ولا أنسى أبدًا تعامل القيادة مع مجموعة وازنة من كوادر الحزب، بينهم أعضاء في اللجنة المركزية، ومعظمهم ذوو تاريخ نضالي مشرف، عندما طالبوا القيادة بأداء مختلف يرقى إلى مستوى ثورة الشعب، ويلاقي متطلبات المرحلة المصيرية الجديدة، وعندما تعنتت القيادة وبدأ الصدام معها، طالبوها بالحوار، وبالاحتكام إلى النظام الداخلي، وباللجوء إلى لجنة التحكيم المنتخبة. لكن القيادة تعاملت معهم منذ اللحظة الأولى كمجموعة خارجة عن القانون، تحركها (أصابع أجنبية) حسب تعبير الرسائل الداخلية التي نشرها الحزب آنذاك، وليس ثمة ما يمكن عمله سوى اعتذارهم و(نقد الذات) والعودة إلى القطيع.. وتم تحييد لجنة التحكيم، واعتبارها غير ذات صلاحية، وإبطال قراراها. ثم تفعيل المادة 59 من النظام الداخلي، التي تضع الحزب بما يشبه حالة الطوارئ، وتجعل كل الصلاحيات بيد اللجنة المركزية..
إذن؛ قيادة للأبد، وإن كانت تقود من الخلف (من يعرف اسم الأمين الأول الذي يشغل المنصب منذ 15 سنة؟). وتصلب مع المعارضين. وتوجيه الاتهامات الباطلة والمهينة لهم (الأصابع الخارجية)، وطردهم من الحزب، وتعطيل مؤسسات الحزب وهيئاته المنتخبة.. وتحويل الحزب إلى حفنة من المريدين. فأي خراب أكبر من هذا؟ وماذا تركنا من وسائل النظام الذي نحاربه؟
13 – ندى الخش
تداعيات الدولة الأمنية في سورية على العمل السياسي (بنيته وتنظيمه وأدائه):
لم تكشف الثورة السورية توحش عصابة الأسد واعتمادها الحلّ الأمني والعسكري نهجًا في التعامل مع أي تعبير للتطلعات الشعبية، إنما كشفت هزالة وهشاشة بنية أحزاب المعارضة، وخصوصًا بعد الضربة الكبيرة لها في ثمانينيات القرن العشرين، إذ حدثت حملة اعتقالات واسعة لكل التيارات، مما أدى إلى مزيد من تهميشها، إضافة إلى ما هي عليه أساسًا.
كنتُ أنتمي الى مجموعة أنصار الطليعة العربية، وكانت تعمل لإعداد كوادر، فكريًّا وثقافيًّا وسياسيًّا، كي تبني التنظيم القومي الذي يؤمن بالمشروع القومي التقدمي الاشتراكي، ولأن المهمة الأولى فكرية أساسًا، فقد انتميت إلى الاتحاد الاشتراكي الديمقراطي، لأنه الأقرب إلى أفكارنا، وله جمهوره في منطقة مصياف التي تلتف شعبيًّا حول الفكر القومي والمدرسة الناصرية أكثر من البعثية.
تداعيات الدولة الأمنية أثرت في طريقة وجودنا في الحزب:
كثير من النقاشات كانت تدور حول أساليب حمايتنا الشخصية واعتماد الأسماء الوهمية، والأحاديث في معظمها تدور حول توحش الأجهزة الأمنية. وقليلة تلك الحوارات التي تعتمد التحليل السياسي ونقاش برنامج الحزب السياسي، وهذا ليس في حزب الاتحاد فقط، بل في بنية كل الأحزاب السياسية السورية. كل النقاشات التي تدور تكون حول اختراق الأجهزة الأمنية للأحزاب، واستدعاء عناصر للتحقيق، والبحث عن طريقة لحماية البقية. وهذا لا يؤسس لبناء كوادر سياسية قيادية ولا حتى عادية. إنهم غير معنيين بما يسمى “البرنامج السياسي” وباقتراح تصوّرات لحل كثير من القضايا السياسية والاقتصادية والتعليمية والصحية والقانونية، حتى حين يُعقد مؤتمر للحزب وتُنتخب قيادة، فهذا يكون عبر قوائم شبه جاهزة قبل المؤتمر، ويُتعامل معه بعقل شللي، وأحد أسباب ذلك هو التعامل السري بأسماء وهمية، وهذا يؤثر في طبيعة العلاقات داخل المؤتمر، حيث إن غلبة العقل الشللي على العقل السياسي، والاختلاف حول تصورات الحل السياسي، وبنية الأحزاب السرية الهشة، تنعكس على التحالفات التي تحصل، وقد عشت تجربة إعلان دمشق الذي تتوضح فيه تداعيات الدولة الأمنية.
لم يبلغني الإعلان من الحزب الذي أنا عضوة فيه، إنما من خلال وجودي في مجموعة حوار، شكلناها في إبان الحرب على العراق، في مدينة حماة، كمحاولة لإعادة الناس إلى دائرة الاهتمام السياسي، فكنا نجتمع في حماة كتجمّع يضمّ شخصيات من أحزاب متنوعة ومن كل محافظة حماة، وكان هناك من أهل المدينة ومن مصياف وسلمية والغاب، ووصل بيان الإعلان وتمت مناقشته، وتوافق بعضنا حوله، وانسحب بعضهم من الحوار لاختلافهم معه، وشكلوا فيما بعد ما سمّي “لجان عمل وطني”، وتبين بعد وقت من الزمن أن الأمر كان بتوجيه مخابراتي، وهذا دليل على اختراق أجهزة الأمن لكل الحراك السياسي المعارض. كنّا سريين مع بعضنا وعلى بعضنا ومكشوفين أمنيًّا. تابعنا الحوار حول الإعلان إلى أن تقرّر عقد مؤتمر المجلس الوطني. وللدلالة على التسيّب في الأحزاب، أقول -على سبيل المثال- لم تصل إليّ تعليمات حزبية تخص مشاركتي في المؤتمر الذي هو تحالف قوى ووجود شخصيات مستقلة. ومفهوم شخصيات مستقلة في العمل السياسي السوري المعارض قصة تحتاج إلى التوقف عندها، فحين قدّمت نفسي في المؤتمر، قلتُ إني شخصية مستقلة ممثلة لمجموعة حوار حماة، وكذلك فداء حوراني. ولم يعترض الحزب، بالرغم من وجود الأمين العام حسن عبد العظيم وغيره… والخطأ حصل مع أبو إياس عياش، تم اختيار فداء حوراني رئيسة للمجلس الوطني، ترضية للحزب العربي الاشتراكي الذي لم يحضر لخطأ من حسن عبد العظيم.. وينطبق ذلك أيضًا على الإعلان، وهو تحالف قوى لم يُنجح أحدًا من حزب الاتحاد، واعترض الحزب وقرر الانسحاب، وحينها قال الفائزون في الانتخاب: إن ندى الخش نجحت في الانتخاب، وهي عضوة في الحزب. صحيح أنني في الحزب، لكنني تقدمت إلى الانتخاب كشخصية مستقلة. وهنا أتساءل: كيف أمكنني القول إنني شخصية مستقلة وأنا حزبية؟! وكيف قبل القائمون على تنظيم الأمور تمرير هذه الإشكالية؟! ولم يتوقف الأمر عندي، ففداء عبد العزيز الخير أيضًا قدّم نفسَه شخصية مستقلة، والحزب موجود بشخص فاتح جاموس، ولكن التنسيق بين أعضاء الحزب يكون على قدم وساق مع عبد العزيز الخير.
وطبعًا، لم تتأخر الأجهزة الأمنية في التصرّف، فقامت باعتقال 12 شخصية قيادية، ومنهم فداء حوراني، واستدعت بعضهم ونقلت أمكنة وظائفهم إلى أمكنة أخرى نقلًا تعسفيًا، كما حصل معي، حيث تم نقلي من مصياف إلى حماة، ومن مهندسة إلى كاتبة في ديوان مديرية صحة حماة، مع وضعي تحت المراقبة الأمنية ورفع تقارير يومية عن حركتي. إنه نظام يعرف تمامًا كيف يتعامل مع المعارضين له. في المقابل فإن المعارضة فشلت في التعامل مع بعضها، مثلًا لم ألتزم بقرار الحزب في تجميد عضويتي في الأمانة العامة للإعلان بعد اعتقال القيادة، فتم استدعائي إلى فرع أمن الدولة في حماة، وقد واجهني رئيس الفرع بأني أخالف قرار الحزب، وأنني أتابع في الإعلان.
كيف؟ لا أدري، ولا يزال لغزًا، وكما عبّرت آنفًا، كنّا سرّيين مع بعضنا وعلى بعضنا، ومكشوفين أمنيًّا. كنا كالنعامة نتحرك، مع الأسف. وهذا المرض الذي اسمه شخصيات مستقلة وتحالف قوى لا يزال مستمرًا في العقل السياسي المعارض. وعلى الرغم من مرور عشر سنوات على بدء الثورة، والمآلات الخطرة التي وصلت إليها سورية والسوريون، ليس لدينا قوى، إننا شخصيات معارضة، والتعامل مع هذه الحقيقة ربّما يساعدنا في إيجاد آلية في التعامل السياسي مرحليًّا، حتى نصل إلى مرحلةٍ نتوصل فيها إلى بناء أحزاب تتنافس فيما بينها، ببرامجها السياسي، ويتم الانتساب إليها وفق برامجها، لا وفق عقل الشلل والمناطقية والعائلية والوراثة. في ظل أجواء أمنية بالغة التوحش، يستحيل بناء أحزاب فعالة إيجابية، ولا نزال دون الخطوة الأولى، إضافة إلى مخاطر الأجهزة الأمنية، وتشتت وتهجير ما لا يقل عن 10 مليون سوري خارج سورية. الكارثة تتعمق، وتأخذ أبعادًا أعمق مما كنا نعيشه.
14 – هنادي زحلوط
أعتقد أنّ وحشية النظام الأمني في سورية دفعت الأحزاب والقوى السياسية، ومنها حزب الشعب الديمقراطي السوري الذي أنتمي إليه، إلى إجراء تغيير شامل في طريقة عملها، فكان العمل السرّي هو القاعدة، والعمل السياسي العلني استثناء.
في كل أصقاع الدنيا، يكون للحزب مقرّ، قيادة، مؤتمر سياسي، ومؤتمر إعلامي وناطق باسمه، ومنشورات، كل هذا أصبح من الماضي، بالنسبة إلى أحزاب المعارضة السورية، لا مقرّ للحزب، القيادة الفعلية قد تكون غير معلنة بشكل كامل، اللجنة المركزية للحزب قد يعلن بعض أسمائها، وتبقى أسماء أخرى طي الكتمان، لا مؤتمرات صحفية يستطيع من خلالها المواطن العادي معرفة أخبار الحزب وتوجهه وخطه وأدبياته، لا ناطق باسم الحزب، وكل ذلك لدواعٍ أمنية!
بينما بقي منشور الحزب، منشور الرأي، محدود الانتشار، يُوزع سرًا في دوائر الثقة الضيقة! وعمومًا فإن كل ما هو ممنوع يبقى له سحره، لا أقول ذلك لدواع رومنسية إطلاقًا، بل لأن السحر قد ينقلب على الساحر، ما يظهر تحت ضوء الشمس تستطيع العين أن تراه واليد أن تتلمسه، والعقل أن ينتقده، فكيف تستطيع أن تنتقد قيادة وكوادر مهددين في كل لحظة، يعرضون حياتهم للموت من أجل مبادئهم وآرائهم السياسية؟
ما أريد قوله أنّ مقابل الثمن الغالي الذي تم دفعه كان هنالك ثمن إضافي دفعته أحزاب المعارضة السورية التي أجبرت على سرية العمل، الثمن الإضافي كان أن النقد خفت جدًا، النقد الذي كان ضروريًا جدًا لتطوير هذه الأحزاب الفتية وتطوير أدواتها السياسية.
تحتاج الأحزاب كي تنمو إلى أن تواجه الناس، أن تواجه سخطهم وملاحظاتهم وتقريعهم ونصائحهم أيضًا، في سورية تم عزل الأحزاب مرغمة عن الناس، ولما أتى الحراك السوري في سنة 2011، كانت الأحزاب غريبة عن المجتمع، وكان الناس عاجزين عن الانخراط في أحزاب غريبة عنهم، وعاجزين حتى عن تأسيس أحزاب جديدة، لأن المشاركة في الحياة السياسية كانت فكرة شعبوية لم تنضج في مؤسسات سياسية متمرسة.
أسهمت السرية- برأيي- في أن تعيش أحزاب المعارضة أوهامها، فتضخم تأثير التظاهر وإمكانية التظاهرات المليونية في تغيير نظام الحكم، كما عاشوا أوهامهم مرة أخرى بتوليهم قيادة المعارضة، فظنوا أن النضال السياسي هنا، في المجلس الوطني والائتلاف وهيئة التفاوض، بينما النضال السياسي يكون بكسب الناس وتنظيمهم وإشراكهم في الرؤى وصناعة الحياة السياسية. وبسبب سرّية العمل، فشلت أحزاب المعارضة مرة أخرى في العمل سوية، فهي غريبة عن بعضها، وهنالك أحقاد وتنافس بينها، لأسباب شخصية غالبًا، لم تتعلم هذه الأحزاب العمل الجماعي مطلقًا. كل هذه الآثار السلبية للعمل السري تركت ظلالها الثقيلة على الحياة السياسية في سورية وربما على مصير البلاد لاحقًا بالضرورة.
* * *
(-) رابط أصل الدراسة:
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(*). كاتب أكاديمي وباحث سوري في الفكر السياسي
(**). باحث سياسي وكاتب أكاديمي
المصدر: حرمون تاريخ النشر 13 حزيران / يونيو 2022
التعليقات مغلقة.