فيصل عكلة *
في الخامس من شهر حزيران/ يونيو الجاري استفاق الشمال السوري مذعورًا على ثلاث حالات انتحار جديدة سُجلت في محافظة إدلب وريفها ومناطق ريف حلب الشمالي، ليرتفع عدد الحالات التي تم تسجيلها منذ مطلع العام الحالي إلى٣٣ حالة موزعة على الشكل التالي (حسب منسقي الاستجابة السريعة) إلى ٢٦ حالة انتحار أدت إلى الوفاة بينها تسعة أطفال وعشر نساء، وسبع حالات فاشلة بينها أربع نساء.
هذه الظاهرة المحزنة التي انتشرت مؤخرًا في المناطق المحررة، تنذر بالخطر وبأن قتل النفس هو العلاج المتوفر والأسهل للضغوط النفسية التي تزاداد يومًا بعد يوم على السوريين الذين يعانون من ظروف إنسانية صعبة وعلى مدى سنوات عديدة.
وحسب رأي الناس هنا، لا بدّ أن تنهض كافة المؤسسات الرسمية ومنظمات المجتمع المدني والمؤسسات الإعلامية بتبنيّ حملة منظمة للتوعية وتقديم الإرشادات الدينية والنفسية، وفتح باب الأمل للشباب، كما أن هناك جزء من حالات الإنتحار سببها الأمراض النفسية مما يستدعي من المجتمع الوعي بالآثار المترتبة على بعض الأمراض النفسية، وضرورة حصول الشخص المريض على العلاج النفسي في العيادات والمراكز المتخصصة بشكل سريع.
الكاتب أبو سليم الخشتي استغرب من استغراب الناس لتلك الظاهرة: حالات الإنتحار التي بدأت اليوم في المحرر هي حالات اغتراب مجتمعي متأخر ومتأزم، ومن عجيب أن يحس الفرد نفسه غريبًا في مجتمع يعج بمئات المنظمات والجمعيات التي تنثر الأموال على رؤوس الناس والجبال والوديان وأيضًا ترسيخ منظمات تمكين المرأة والارتقاء بالرجل وتحويله إلى أخضر مريخي واستحداث عيادات نفسية متجولة في المراكز والقرى والخيام، ومع ذلك يقّدم الأفراد على الانتحار ويختارون الحالة الأخروية السوداء على تلك الجنان، والأعحب وجود جوقة طويلة عريضة ممن يُلقون ويقدمون الآلاف المؤلفة من خطب ومواعظ الصبر والاحتساب والزهد والتنسك والإيمانيات وما وراء العقل، وأمامه وكل هذا لم يمنع المنتحر من الانتحار والذهاب إلى الآخرة ساخطًا!
أما الناشطة المدنية سارية البيطار تعجبت من عدد حالات الإنتحار في المحرر وفي يوم واحد بعد أن بدأ استقرار جزئي بالتزامن مع توقف القصف وغلاء السلع والمواد وقلة فرص العمل والموارد في الشمال السوري المحرر، وتساءلت “البيطار”: ألم يحن الوقت لفتح مشاريع استثمارية من معامل ومصانع لتشغيل الطاقات الشبابية وشعور الشباب بالإستقرار الأسري النفسي كون اليد العاملة بالمحرر هي الأرخص ثمنًا.
على ما يبدو فإن استخدام حبات الغاز أبرز الطرق في محاولات الإنتحار، حيث أُسعف الشاب ‘محمد’ ابن ستة عشر عامًا إلى المشفى، وأمام الطبيب كشف أنه تناول حبة غاز، ولم تفلح محاولات الطبيب إنقاذه ليلفظ أنفاسه الأخيرة وسط عجز الطبيب وبكاء الأهل.
التربوي محمد شكيب الخالد عدّد أسباب الظاهرة: ما عاشه السوري خلال أحد عشر عاماً مضت من خوف ورعب وقهر وحزن وفقر وتجهيل وخيبات متعددة وأحمال ثقيلة تنوء الجبال بحملها هو أعجوبة هذا الزمان، إذ كيف تحمَّلنا كل ذلك وكيف تحمل السوري طفلاً أو امرأة أو شيخاً منظر أهله وهم أشلاء، وكيف تحمَّل منظر بيته أو مصدر رزقه وهو ثمرة عمله وأهله لعشرات السنين مدمراً معفشاً محترقاً أو تم تحويله مقراً للقتلة، وكيف تحمل أسئلة أطفاله عن معنى الحياة وهم يعيشون الموت كل لحظة، وبم أجابهم، وكيف تحمل ابتعاده عن أرض ميلاده وحياته وعشقه ومماته وسكن في خيمة، وكيف تحمل المكتفي ذُل السؤال وقهر الدَيّن والمساءلة وخَيرُهُ كان له ولمن حوله؟
صحيفة إشراق التقت المهندس الزراعي سعيد الأحمد وسألته عن توفر حبات الغاز وخطورتها فأجاب: تسبب حبّات الغاز تهتك لأنسجة الجهاز الهضمي وتؤدي إلى التسمم والعطش الشديد، ويُحذر من إعطاء المتسمم الماء لأنه سيؤدي الى إنطلاق الغاز السام ويجب إعطاؤه الزيوت مثل زيت البرافين وزيت جوز الهند، حيث يقوم الزيت بتغليف حبة الغاز ومنعها من تحرير الغاز، وحبّات الغاز موجودة في الصيدليات البيطرية في الشمال السوري بكميات كبيرة وسعرها زهيد، وتأتي عن طريق الاستيراد من تركيا أو الصين وتُستخدم لتعقيم الحبوب والمستودعات، والمُفترض أن تباع وفق شروط معينة من خلال عدم بيعها لغير البالغين وغير الأسوياء، منعًا لاستخدامها في الإنتحار. وحول خطورة نوع هذه الحبوب أضاف ‘الأحمد’: تعتبر هذه الحبة من أكثر المبيدات الحشرية ضررًا بصحة الإنسان، وقد سُجلت في السنة الأخيرة عدة حالات انتحار بين الشبان والمراهقين عبر تناولها وخصوصًا أن الأوضاع المعيشية تضغط في هذا الإتجاه؛ لذلك يجدون في هذه الحبوب الطريقة الأسهل لقتل أنفسهم.
عن تأثير الحبة على الجسم سألنا الصيدلاني نجيب عبد الله فقال: إن معدل النجاة منها معدوم تقريبًا لأنها تقوم بتعطيل كافة الأجهزة في الجسم وخصوصًا الكلى والرئتين والأمعاء، وهي مواد سامة غازية تتحول من الحالة الصلبة (أقراص) إلى الحالة الغازية في جو المخزن؛ ولكنها الوسيلة الأرخص للتعقيم الغازي الموجودة حاليا لعدم وجود البديل؛ وبكل الحالات جميع السموم الغازية المتعلقة بالتعقيم تعتبر سامة للحشرات وذوات الدم الحار، وتسبب الحبة بعد انحلالها في المعدة وانطلاق غاز(فوسيد الهيدروجين) شعورًا بالغثيان والإقياء، وتنتقل منها إلى الجهاز التنفسي مسببًة حرقة بالقصبات الهوائية؛ وشعورًا بالاختناق وعطبًا بالجهاز العصبي المركزي؛ يتبعه غيبوبة كاملة؛ تُعرقل عمل كريات الدم الحمراء وتؤدي لانهيار نسب الأوكسجين في الدم ثم الوفاة.
صحيفة إشراق اتصلت بوزارة الزراعة في حكومة الإنقاذ وسألت عن الإجراءات التي اتخذتها الوزارة لمواجهة هذه الظاهرة ولكنها لم تتلق الرد!
وتبقى ظروف الحرب والتهجير التي فرضها طيران الاحتلال الروسي وأذنابه على ملايين السوريين تقف خلف محاولات الانتحار التي تستهدف على الغالب فئة الشباب والتي تنتظر تعاون الأهل والمدارس وتدخل المنظومة الدينية والجمعيات الشبابية لتوعية الشباب وإبعادهم عن هذا المسلك المدمر.
* كاتب سوري
المصدر: اشراق
التعليقات مغلقة.