خطيب بدلة *
في كثير من الأحيان، تتحول مناسبةُ رحيل مبدع ما إلى ساحة للأخذ والرد حول مسألة فنية أو حقوقية تتعلق بنتاجه. حصل شيء من هذا يوم رحيل الباحث محمد شحرور، أواخر سنة 2019، حيث اختلف الناس حول آرائه، وأحقيته في أن يخوض في أمور الدين وهو المهندس غير المختص بشؤون الأديان، وقبل ذلك، عشية وفاة المفكر صادق جلال العظم في أواخر سنة 2016، اختلفوا حول شخصيته، وآرائه، ومواقفه الفكرية.
وحينما توفي الشاعر الفلسطيني هارون هاشم رشيد، في 27 تموز 2020، راحت صفحات التواصل الاجتماعي تحكي عن قصيدته التي تغنيها فيروز “سنرجع يوماً إلى حينا”، وسرى الجدل حول نسبتها له أم للأخوين الرحباني، مثلما تسري النار في الهشيم.
تناول موضوع “سنرجع يوماً” إخوة صحفيون وباحثون ومتابعون، منهم فارس يواكيم، ومعن البياري، وصقر أبو فخر، وإسلام أبو شكير، وراشد عيسى، ومعظمهم أشاروا إلى مقالة قيّمة نشرها الباحث محمود الزيباوي في موقع المدن بتاريخ 26/11/2016، رجح فيها كون الأغنية من تأليف الأخوين الرحباني، وكذلك فعل الأستاذ معن البياري في مقالته بالعربي الجديد يوم 14 آب 2020.
(كنت قد ضمنت مقالة محمود الزيباوي كتابي “السيرة الرحبانية الفيروزية” الذي صدر في إسطنبول 2020).
لن أستزيد هنا في مناقشة موضوع أغنية “سنرجع يوماً” ففي المقالات المذكورة أعلاه أجوبة وإضاءات شافية حولها، وفي وقت لاحق أرسل الأستاذ غازي أبو عقل رسالة إلى طلال حيدر يستفتيه بشأنه بوصفه من معاصري الرحابنة عن قرب، فأجاب طلال بأن هارون هاشم رشيد كتب مقدمة القصيدة، والرحبانيَان أنجزا القصيدة بكاملها. وهذا كلام معقول جداً.
ولكن ما حرضني على الكتابة في هذا الشأن هو مقالة الأستاذ صقر أبو فخر المعنونة “هارون هاشم رشيد ومقصلة الاستعارة والسطو” المنشورة في “ضفة ثالثة” بتاريخ 6 آب 2020، وقد أورد فيها إشارات لعدد كبير من عمليات الأخذ، والاقتباس، وإعادة إنتاج أعمال الآخرين التي مارسها الأخوان الرحباني، ومنها دقوا المهابيج، وتراب عينطورة، وزينوا الساحة، وقالوا لي كِنْ، ناهيك عن اقتباساتهما العالمية مثل: حنا السكران، وحبيتك بالصيف، وآخر أيام الصيفية.
لا يوجد لدي شك في صِدقيَّة الأمثلة التي ساقها الأستاذ صقر، وكلها موثقة، ولكنني أريد أن أرجع معه إلى انطلاقة فيروز والتجربة الغنائية الرحبانية من إذاعة دمشق، في مطلع الخمسينيات، بتشجيع من الزعيم فخري البارودي، وتعاون وصل إلى حدود التبني من مدير الإذاعة أحمد عسّه، وكان التوجه يومئذ أن يعيد الرحبانيان إنتاج بعض الأغاني الفولكلورية الشائعة في بلاد الشام بصوت فيروز، وكُلف المطرب الشعبي السوري معن دندشي، في سنة 1953، بتدريب فيروز مع الفرقة الرحبانية على أداء تلك الأغاني، وإعطائهم نصوص كلماتها الأصلية بأمانة، وكان منها (بردا برداني بردا، وع اللالا ولالا ولالا) التي تُغَنّى في مناطق متعددة من بلاد الشام، وقد غناها فيما بعد نجيب السراج مستنداً إلى الفلكلور الحموي، وهذا ليس ببعيد عن مشروع التوثيق الغنائي الكبير الذي أنجزه الراحل مصطفى هلال وأشار صقر أبو فخر إلى أن الرحبانيين وجدا فيه كنزاً.. مع الإشارة إلى أن الأخوين الرحباني دأبا، منذ البداية، على تحوير كلمات أية أغنية يقتبسانها، وأحياناً إعادة نظمها بما ينسجم مع طبيعة مشروعهما الغنائي، وحتى حينما اقتبسا من سيد درويش “الحلوة دي”، مثلاً، فقد غيرا بعض الكلمات، وألغيا نهائياً الجملة القائلة (مين اليومين دُوْل شافْ تَلْطيم، زي الصنايعية المظاليم)، وهما، برأيي، على حق لخلوّ هذا المقطع من الشاعرية.. ويوم اقتبس الرحبانيان أغنية منيرة المهدية “البنت الشلبية” ألغيا منها أكثر من دور، للسبب ذاته، وبالأخص قول المهدية:
لبست البني قلعت البني، ناوية تجنني منيرة المهدية
وحياة عينيكي، دا أنا أبوس إيديكي، وكعوب رجليكي، وارضي عليا
لبست حلقها قلعت حلقها، ربي خلقها بتعذب فيا
أخذ الرحبانيان من سيد درويش أربع أغان هي: الحلوة دي- زوروني- طلعت ما أحلى نورها- أهو ده اللي صار.. وبهذه المناسبة سأروي حادثة ذات وجهين، الأول؛ أن الفرقة الرحبانية كانت تُجري، في سنة 2000، بروفات لأغان فيروزية في برلين، ومن جملة الأغاني “زوروني كل سنة مرة”، وكان ثمة موسيقار ألماني في مكان قريب، فجاء يسأل عن صاحب هذا اللحن الجميل، (وقال: هل هو موجود بينكم؟) فلما قيل له إنه سيد درويش، المتوفى سنة 1923، زادت دهشته، وكبر إعجابه.. وأما الوجه الثاني للدهشة فهو المعلومة التي أوردها صقر أبو فخر في مقالته إياها، وهي أن أغنية “زوروني كل سنة مرة” نفسها ليست لسيد درويش وإنما للمُلا عثمان الموصلي الذي وُلد في الموصل سنة 1857، وعاش في حلب، والتقى سيد درويش في حلب أيضاً، وتوفي مع سيد درويش في السنة ذاتها 1923، وكان عنوانها الأصلي “زُرْ قبرَ الحبيب مرة”، وكذلك الحال في أغنية “طلعت ياما أحلى نورها”، فهي للموصلي أيضاً، وأصلها “بِهَوَى المختار المهدي”.. والنتيجة التي يصل إليها المرء هي أن تينك الأغنيتين كانتا سبباً في شهرة سيد درويش الكبيرة يومذاك، وبقي المؤلف الأصلي عثمان الموصلي معروفاً لدى قلة قليلة من الباحثين المختصين!
إذا تتبعنا الغناء العربي بعين التدقيق والتمحيص وجدنا لكل أغنية مشهورة أصلاً مختلفاً عن النسبة التي استقرت عليها. أنت مثلاً تستمع إلى أغنية لطفي بوشناق “خلّتي يا خلّتي”، وتنظر في شروحاتها فلا تجد أية إشارة إلى أنها مأخوذة بلحنها وكلماتها وطريقة أدائها (بالكامل) من الشاعر المغني الفلسطيني عبد الله حداد (1938- 1994)، وقد غناها، ذات مرة، بحضور أبي عمار رئيس منظمة التحرير الفلسطينية، وكان ثمة جمهور كبير في القاعة، والكل كانوا يضحكون؛ لأن الأغنية كوميدية على الرغم من التطريب الذي تحتويه، وهذا واضح من كلماتها التي يستحيل أن تتضمنها أغنية عاطفية:
أنا كنت أرعى الغنم في البراري
وأسمع خباركم من راديو ترانزيستُر
وأنا كيف أقول يا ناقتي نخّي
وإنتي طول عمرك جَمَل المحامل
سمعت نغمة أزعجت مخّي
سألت قالوا تكتيك يا جاهل
وإنْ رخوا نشدّ وإن شدّوا نرخي
هيك انشهرنا في المحافل
لازم تكون تكتكجي ابن تكتكجي
وبالتكتيك يا متكتك تَتتكْ تكْ بِتتَّكتكْ كُلّ المسائل
* قاص وسيناريست وصحفي سوري
المصدر: تلفزيون سوريا
التعليقات مغلقة.