الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

مراجعات فى الأمن والعنف وحرية الصحافة

عبد الله السناوي *

عندما هبت رياح الخريف على مصر بدأت تأتيها رسائل ملغمة بقرب أن تدخل أحزمة النار. في نيسان/ أبريل (2004) بدت أصوات التفجيرات المتزامنة في «الجزائر» و«الدار البيضاء» مسموعة فى «القاهرة» ومنذرة باحتمالات وصول تنظيم «القاعدة» إلى شوارعها.

كانت أسوأ قراءة ممكنة لرسائل نار التشدد في فرض قيود «الدولة البوليسية» بذريعة ضمان الأمن والأمان، وصون الاستثمارات والسياحة ــ على ما كان يقول الرئيس الأسبق «حسنى مبارك».

قبل تفجيرات «الجزائر» و«الدار البيضاء»، وقبل أن تكون هناك ذريعة جديدة لتمرير «قانون مكافحة الإرهاب»، نسبت للدكتور «فتحي سرور» رئيس مجلس الشعب تصريحات لوحت بعقوبات جنائية تنتظر الصحفيين عند تغطية أعمال ونشاط أية «جماعات محظورة» باعتبارها تحريضاً على الإرهاب ودعما له!

نالت الدكتور «سرور» انتقادات حادة دعته إلى نفي ما نسبت إليه من تصريحات معاتباً الصحف الحزبية والمستقلة لتسرعها في إصدار أحكامها قبل التأكد من صحتها.

سألته هاتفياً بصوره مباشرة: «هل اتصل بك رئيس الجمهورية في هذا الشأن؟». كانت إجابته سريعة وحازمة: «الرئيس يعرف أنني رجل عاقل.. ولا يمكن أن أقول هذا الكلام الفارغ!».

تصادف بعدها أن بثت قناة «المحور» نصوصاً صوتية للدكتور «سرور» تؤكد أن ما نشر قاله فعلاً!

كانت تلك التصريحات أقرب إلى «بالونات اختبار» لردود فعل الصحفيين والمثقفين والتيارات السياسية على بعض البنود، التي قد ترد في قانون مكافحة الإرهاب الجديد.

تبدت خشية استنساخ تفجيرات «الجزائر» و«الدار البيضاء» في شوارع القاهرة، أو أن يستحيل ما وصفه الدكتور «سرور» بـ«الكلام الفارغ» إلى سياسة مقررة ونهائية تمضي إلى نهايتها.

كان تعدد مراكز العنف والإرهاب، وقوة ضرباته في «الجزائر» بالذات بعد شهور طويلة من استتباب الأمن في شوارعها، منذراً بالتمدد إلى مصر.

الأمن المطلق وهمٌ مطلق، هذه حقيقة نهائيــة.

انسداد القنوات السياسية والاجتماعية يشجع على العنف ويدعو إليه. هذه حقيقة نهائية أخرى.

للأمن ضروراته القصوى في مواجهة أي عنف محتمل، لكنه وحده لا يقّدر ولا يستطيع إذا لم يكن مستنداً على بيئة عامة صحية تنظر بأمل إلى مستقبلها.

حرية الصحافة هي رئة التنفس في المجتمع، فإذا ما خُنقت ضربه الاختناق العـــام.

عند حدود اليأس من أية إصلاحات سياسية أو اجتماعية ترُد بعض الحقوق التي نهبت قد يتبنى شباب- لا علاقة لهم بأي تنظيم متطرف- أفكاره ويمضي على طريقه في «لعبة السلاح والدم».

في «الدار البيضاء» تلك المدينة الخلابة لا تصعب ملاحظة الفقر في زواياها وأحشائها.

من أبناء تلك المدينة، ومن رموزها الراحل «محمد البصرى» الشهير بـ«الفقيه البصرى»، وقد أقام في القاهرة منفياً لفترة طويلة مع أسرته، وهو- مع «عبدالرحمن اليوسفي» أول رئيس وزراء للمغرب في نهايات عصر الملك «الحسن الثانى»- من أوثق رفاق الزعيم التاريخي «المهدى بن بركة»، الذى اختطف في باريس وأذيب جسده على يد الجنرال «محمد أوفقير» رجل الملك القوي ووزير داخليته الذى انقلب عليه، ودفعت أسرته بعد إعدام رجلها ثمناً باهظاً ومروعاُ.

كانت تلك مأساة سياسية وإنسانية.

المحزن أن «البصرى» و«اليوسفى» اختلفا في الخيارات السياسية، التي انتهجها الأخير أثناء توليه رئاسة أول حكومة تناوب في تاريخ المغرب.

قبل رحيل «البصرى» بوقت قصير وقف أمام عدد من الشخصيات القومية العربية فى مؤتمر ضمها بـ«الدار البيضاء» أثناء مأدبة عشاء بأحد قصورها الأندلسية، وعبق التاريخ يخيم على قاعاتها، محذراً ضيوفه من الانشغال بسحر المكان عن حقائق ما حوله: «أرجوكم أن تلقوا نظرة على بيوت الصفيح التي تحيط بكم، فالفقر فيها كافر، وقد لا تتصوره مخيلتكم».

كانت تلك رسالة للعالم العربي كله، لا للمغرب وحدها، عن بعض مواطن ومكامن العنف والإرهاب.

كان هناك إصلاح سياسي يمضى وئيداً ومصالحات ومراجعات لخطايا الماضي في تعذيب السجناء السياسيين في أقبية السجون، ومساحات حرية في الصحافة أخذت تتحرك وتنتقد الملك على بعض استحياء.

كانت تلك مؤشرات إيجابية تُحصن المغرب بأكثر مما تُحصِنه الإجراءات الأمنية.

ذلك ما لم يكن يريد نظام «مبارك» في مصر أن يتعلمه، فليس بالأمن- وحده- تتحصن المجتمعات من موجات العنف والإرهاب.

قد تباغت ضربات الإرهاب سلامة أي مجتمع، لكنها لا تنال منه إذا كان محصناً سياسياً واجتماعياً ونوافذه مفتوحة على الأمل فى المستقبل.

للجزائر.. قصة أخرى- أطول وأفدح مع العنف وموجاته.

مطلع تسعينيات القرن الماضي قاد الجنرال «خالد نزار» انقلاباً عسكرياً لمنع «جبهة الإنقاذ الإسلامي» من الوصول إلى السلطة بعد جولة انتخابات تشريعية أولى فازت بأغلب مقاعدها، وبدا أن فرنسا وراء الانقلاب الذي أزاح الرئيس «الشاذلي بن جديد».

كانت التصريحات التي أطلقها الرجل الثانى في تلك الجبهة «على بلحاج» مُحرضة على الانقلاب حين أخذ يتوعد معارضيه بفرض مفهومه الخاص لـ«الدولة الإسلامية» وتغيير طبيعة الدولة بالكامل.

تلت الانقلاب حرب أهلية مدمرة بين «الجيش» و«الجبهة»، التي أخذت تنشق إلى جماعات أكثر تطرفاً، وكل جماعة تميل إلى انشقاق أكثر تشدداً، حتى وصلنا إلى «القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي».

صدمة تفجيرات الجزائر بدت أكبر.

كان الرهان على الإصلاح والمصالحة في ذروته والأمل يسود البلاد كلها أن تساعد قوانين العفو العام على تطويق العنف والإرهاب.

لفترة طويلة نسبياً اكتسب أمن العاصمة طابعه الاعتيادي حتى جاءت الضربة قوية ومحكمة ومؤدية إلى خسائر فادحة في الأرواح لكن الجزائر تجاوزت تلك الضربة وطوت بالوقت نفسه صفحة العشرية السوداء.

كانت المشكلة في مصر أن مشروع الإصلاح السياسي يتراجع ومعدلات الفقر تتزايد، وتخلي الدولة عن أدوارها الاجتماعية يصل إلى منحنى الحديث عن خصخصة الخدمات، وحقوق المواطنة تكاد تُحذف من القاموس السياسي، والنظام يُرهب معارضيه بـ«قانون الإرهاب»!

وقد كان الحادث الإرهابي المروع الذى نال من كنيسة القديسين فى رأس السنة عند مطلع عام (2011) قبل (25) يوماً من انفجار براكين الغضب في كانون الثاني/ يناير دالاً بذاته وسياقه والأجواء التي سبقته أننا أمام مشهد النهاية، نهاية نظام لا يدرك أن الأمن المطلق وهمٌ مطلق، وأن إغلاق المجال العام بالترهيب يضرب في نظام الحكم قبل غيره.

* كاتب صحفي مصري

المصدر: الشروق

التعليقات مغلقة.