
عبدالله السناوي *
من شأن التحليل السياسي النظر في سيناريوهات المستقبل وما قد يحدث فيه، هذه مسألة توقعات تصيب وتخطئ بقدر ما يتوفر لها من معطيات ومعلومات ووثائق. بقوة الدراما في التقاط المعاني الكبرى من التفاصيل الصغيرة، يفتح الأدب مغاليق التحليل السياسي ويطل الأديب على مستقبل قد لا يراه السياسي.
هكذا كان شأن أديب العربية الأكبر نجيب محفوظ في روايته «بداية ونهاية» التي نُشرت عام 1949.
كانت تلك آخر رواية كتبها قبل ثورة «تموز/ يوليو»، وبدت بأبطالها وحوادثها أقرب إلى نبوءة تستمد من عنوانها.
بعد حرب فلسطين، بدت النهايات قريبة، بالرغم من أن هناك من تصور أن النار باتت رماداً، لم يكن الشأن السياسي العام من شواغل بطل الرواية الملازم «حسنين»، وهو نفسه غير مستعد للتضحية من أجل أية قضية، غير أن المؤلف الملهَم أجرى على لسانه عبارة حكمت المستقبل البعيد في كانون الثاني/ يناير 2011: «إذا قامت ثورة فلا بد من تدخل الجيش».
تحت وهج النيران في فلسطين وُلد جيل جديد من الضباط الوطنيين، وتوارت إلى حد كبير صورة الملازم «حسنين»، وفتحت صفحة جديدة في التاريخ المصري.
إثر حريق القاهرة في 26 كانون الثاني/ يناير 1952، دعا الشاعر “مأمون الشناوي”، الجيش بلا مواربة إلى إطاحة النظام الملكي: «غضبة من عزمك الجبار تمحو كل باطل»، «لن يطول الليل.. بل لا بد أن يأتي الصباح».
وفي نفس توقيت تلك القصيدة التحريضية على قلب النظام الملكي فكـرَ «الضباط الأحرار» باستغلال نزول الجيش إلى الشوارع للقيام بانقلاب عسكري، لكن عبدالناصر، مالَ إلى كسب بعض الوقت، حتى يستكمل مثل هذا العمل فرص نجاحـه.
كان كل شيء يُنذر بنهاية قريبة تنبّأ بها أدباء، وكذلك سياسيون، غير أن أحداً لم يكن بمقدوره أن يتكهن طبيعتها وصورتها وما بعدهـا.
صبيحة يوم 23 تموز/ يوليو 1952 كتب «كامل الشناوي» في صحيفة «الأخبار»: «أين الرجل؟».
نفذت بصيرة الشاعر إلى خفايا ما وراء الغيوم الكثيفة، كأنه كان يعرف أن حركة الدبابات سوف تُحاصر قصر عابدين، أو أن بياناً سوف يصدر باسم «الضباط الأحرار» من الإذاعة المصرية، في اللحظة التي يطالع فيها القراء ما كتب، إلهام الأدب في تلك الحالة بتوقيت النشر لا بتوقع نهاية النظام.
بعد سنوات طوال قُرب الهزيمة العسكرية في حزيران/ يونيو 1967، حذّرت أعمال مسرحية عدة من مخاطر مُحدقة، توشك أن تداهم بطلها.
كانت الستينات ذروة مجد المسرح المصري، وبالرغم من انتساب أهم مؤلفيه ومخرجيه لثورة «تموز/ يوليو»، إلا أنه مارس درجة عالية من نقد المرحلة، محذراً مما تخبئه الأيام.
طلب المؤلف المسرحي ألفريد فرج، الأمان من الحاكم، حتى يجّهر أمامه بما يراه منذراً، كانت تلك إشارة إلى خلل فادح في بنية الحكم، وأنه قد ينهار من داخله ما لم يتسع مجاله لسد ثغراته.
وحذّر مؤلف مسرحي آخر سعد الدين وهبة، من أننا لسنا على «سكة السلامة»، وأن هناك من يضع «العسل في أذن الحاكم».
كانت تلك إشارة أخرى إلى الخلل نفسه، بلغة المسرح توالت الرسائل، أن هناك شيئاً ما خطأ يكاد يقوض تجربة ثورة «يوليو»، وأن حدثاً جللاً قد يداهمنا تسقط به أحلامنا من حالق.
كان ذلك من داخل الانتساب إلى «يوليو» وتوجهاتها لا من خارجها وموقع الخلاف معها كما أشار الناقد المسرحي الدكتور حسن عطية،
ناقشت مسرحية «بنك القلق» لتوفيق الحكيم، تجاوزات «يوليو».
وبالرغم من التحريض على تلك المسرحية، رفض عبدالناصر، مصادرتها فـ«إذا كان من حق توفيق الحكيم أن ينقد النظام الملكي، فمن حقه أن ينقد النظام الجمهوري».
قبل ست سنوات طرح الحكيم، في مسرحيته «السلطان الحائر» سؤال القوة والقانون.. إلى أيهما يجري الاحتكام؟ السؤال نذير مبكر ووصف السلطان بالحيرة اعتقاد في نبله، في الحيرة نبل بقدر ما تنطوي عليه من خطر، إذا ما دققنا في تواريخ نبوءات المسرح، فقد جرى أغلبها عام 1966، في ذلك العام المنذر نشر «نجيب محفوظ» «ثرثرة فوق النيل».
«ما معنى هذه الرحلة؟»
«المهم الرحلة لا المعنى!»
كل النبوءات استندت إلى معطيات مقلقة، استدعت بقوة الدراما مخاوفها فيما كانت قصة «الرحلة» ليوسف إدريس، التي نشرتها صحيفة «الأهرام» في حزيران/ يونيو 1970، نبوءة غير قابلة للتصديق؛ حيث توقع رحيل عبدالناصر، قبل موعده بثلاثة أشهر كأنه يقرأ من كتاب مفتوح.
بشيء أقرب إلى المناجاة والتوحد مع شخص لا يقول من هو يأخذه في رحلة عبر سيارة تمضي بلا عودة. بإيقاع متدفق تستبين رائحة الموت في السيارة قبل أن يُفصح الراوي بنوع من التورية عمن يقصد، إنه الرئيس جمال عبدالناصر.
«وداعاً يا سيدي يا ذا الأنف الطويل وداعاً». «لماذا كنا نختلف؟ لماذا كنت تصر وتلح أن أتنازل عن رأيي وأقبل رأيك؟ لماذا كنتُ دائماً أتمرد؟ لماذا كرهتك في أحيان؟ لماذا تمنيتُ في لحظات أن تموت لأتحرر؟».
«تصوَّر يريدونك أنت الحي جثة يدفنونها.. مستحيل، يقتلونني قبل أن يأخذوك، ففي أخذك موتي، في اختفائك نهايتي، وأنا أكره النهاية كما تعلم».
«يكفي أنك معي.. أنت أنا.. أنت تاريخي وأنا مجرد حاضرك.. والمستقبل كله لنا.. مستحيل أن أدعهم يأخذونك، يميتونك، يقتلونك».
لم يكن “يوسف إدريس“، على صلة وثيقة بمجريات الأمور خلف كواليس الحكم حتى يتسنى له أن يعرف مدى خطورة ما يتعرض له الرئيس من مصاعب صحية.
إنه إلهام الأدب والتوحد مع بطله وروح التراجيديا التي تتوقع شيئاً ما غامضاً يحدث فجأة.
* كاتب صحفي مصري
المصدر: الخليج
التعليقات مغلقة.