سليمان أبو إرشيد *
تقع القدس منذ استكمال احتلال الجزء الشرقي منها عام 1967 في دائرة الاستهداف الإسرائيلي، فلم تتوقف على مدار 55 عاماً مخططات الضم والقضم والمصادرة والاستيطان ومحاصرة المدينة وعزلها عن محيطها الفلسطيني ومجالها الحيوي، إلى جانب اختراق الأحياء الفلسطينية التاريخية وتقطيع أوصالها ونهب بيوتها ومحاصرة تطورها العمراني، والتضييق على حياة السكان وسبل معيشتهم ضمن سياسة واضحة لإفراغ القدس من أهلها ومؤسساتها وتهويدها لتكون فعلا “العاصمة الموحدة لإسرائيل” كما يريدون.
وتعتبر موجة التصعيد التي شهدتها الأيام الأخيرة ذروة أخرى غير مسبوقة، مدفوعة بالتنافس الذي تشهده دولة الاحتلال بين أطرافها السياسية في ظل أزمة الحكومة الإسرائيلية وغياب أغلبية برلمانية لاستقرارها، حيث تقع القدس في مركز التجاذبات السياسية، ويقع أهلها ضحية لهذه التجاذبات.
لإلقاء المزيد من الضوء على المخططات الإسرائيلية في القدس ومعاناة أهلها ومقاومتهم، أجرينا هذا الحوار مع منسق الائتلاف الأهلي لحقوق الإنسان، زكريا عودة:
“عرب 48”: التصعيد الذي شهدته القدس في الأيام الأخيرة يضيء على ما تتعرض له المدينة من مخططات، تستهدف الوجود الفلسطيني بمعالمه المختلفة والإنسان المقدسي في مختلف مجالات حياته؟
عودة: في البداية ولكي نضع الأمور في إطارها الصحيح، يجب التوضيح أن مخطط ضم القدس بدأ فور احتلال الشطر الشرقي من مدينة القدس عام 1967، حيث اتخذت الحكومة الإسرائيلية قرارات هدفت إلى ضم المدينة كليًا، كما قامت بتوسيع حدود ما تسمى ببلدية القدس من 5.5 كيلومتراً مربعاً إبان العهد الأردني إلى 71 كيلومتراً مربعاً وذلك من خلال ضمّ أراض من القرى المحيطة بمدينة القدس، وقد جرى تثبيت ذلك كله بقانون في الكنيست الإسرائيلي صدر عام 1980، والذي تم بموجبه الإعلان عن أنَ القدس “المدينة الموحدة” هي عاصمة إسرائيل.
كما قام الاحتلال بالسيطرة على 88% من أراضي الجزء الشرقي من القدس، وترك للفلسطينيين 12% من الأراضي فقط، ما أثر بشكل كبير على عملية الحق في السكن، وإمكانية البناء والحصول على تراخيص، علمًا أن عملية المصادرة للأراضي تمت لصالح المستوطنات حيث يوجد اليوم خمس عشرة مستوطنة أقيمت داخل ما يسمى حدود بلدية القدس، يقطنها حوالي 215 ألف مستوطن يشكلون ثُلث عدد المستوطنين في الضفة الغربية.
كما اعتمدت سياسة التخطيط الحضري على ثلاثة مخططات هي: المخطط “ع م 30″، والمخطط الإقليمي، ثم المخطط التفصيلي 2020 الذي انبثق عن المخطط الإقليمي، والذي أصبح لاحقًا مخطط 2030، ثم مخطط 2050، ويتضح من جميع هذه المخططات أن الهدف الدائم من سياسة التخطيط هذه هو زيادة السيطرة على الأراضي، ومضاعفة أعداد المستوطنات والمستوطنين في الجزء الشرقي من القدس مقابل تقليل أعداد السكان المقدسيين.
كما لم تأخذ تلك المخططات بعين الاعتبار وجود الشعب الفلسطيني في القدس، وهو ما يظهر على ظروف البنية التحتية وأوضاع الطرقات في القدس وأحيائها التي ظلت تعاني من الإهمال وعدم السماح بالتطوير، كما أن هدف هذه المخططات هو تقليل نسبة السكان الفلسطينيين في القدس بحيث يغدون أقلية بسيطة في المدينة الموحدة حتى الوصول إلى أرقام فيها التوزيع الديموغرافي يكون 80% من اليهود و20% من الفلسطينيين، بدلا من 60% يهود و40% فلسطينيين كما هو قائم اليوم.
“عرب 48”: لكن من الواضح أن السنوات الأخيرة، وتحديدا منذ اعتراف ترامب بالقدس عاصمة لإسرائيل ونقل السفارة الأميركية إليها، شهدت تصعيدا واضحا في مختلف المستويات؟
عودة: صحيح، تلك الإجراءات الأميركية كانت بمثابة الضوء الأخضر لإسرائيل في تسريع مخططاتها وتكثيفها وإنجاز المشاريع التي تستهدف تطويق المدينة، من الجنوب على أراضي بيت صفافا، وجبل أبو غنيم حيث يقيمون “جفعات همتوس” لفصل القدس عن بيت لحم والخليل، وفي الشرق يخططون للبناء الاستيطاني على أراضي “أي 1” وتوسيع “معاليه أدوميم” وفصل شمالي الضفة عن جنوبها، وفي الشمال هناك مخطط لبناء آلاف الوحدات الاستيطانية على أراضي مطار القدس (قلنديا) لعزل القدس عن رام الله.
هذا بالإضافة إلى العمليات الاستيطانية الجارية داخل المدينة في الشيخ جراح وسلوان والبلدة القديمة، وكلها تهدف إلى فصل الأحياء عن بعضها وتقطيع أوصال المدينة وهي جزء من الاستراتيجية في تفتيت الحيز المدني الفلسطيني وتغيير الميزان الديمغرافي وضرب الحضور الوطني الفلسطيني، عن طريق إفراغ القدس من مؤسساتها حيث قاموا منذ عام 2000 بإغلاق 53 مؤسسة بحجة أنها مؤسسات سيادية وقد شملت مؤسسات ثقافية وفنية ونقابية وغيرها.
رؤيتهم للقدس وفق ما حددها مخطط 2020 هي “القدس موحدة ذات أغلبية يهودية وعاصمة للدولة اليهودية ومركز اليهود في كافة أنحاء العالم”، وهذا يتطلب ليس تكثيف الاستيطان فقط بل التضييق على الفلسطينيين في السكن والبناء من خلال وضع قيود صعبة على إصدار تراخيص البناء وشروط معقدة وتكاليف باهظة تصل إلى 40 ألف دولار لأجل بناء بيت بمساحة 100 متر مربع.
“عرب 48”: إذا ما أضيف ذلك إلى سياسة سحب الهويات والحواجز والجدران والحصار الاقتصادي وضرب وإهمال المؤسسات التعليمية والصحية، فإن الهدف هو دفع المقدسين إلى الرحيل عن مدينتهم؟
عودة: نعم هو التهجير القسري وإفراغ المدينة من سكانها الفلسطينيين، واليوم هناك أكثر من 20 ألف مسكن في القدس بدون تراخيص مما يعني أنهم قد يواجهون خطر الهدم حسب قوانين الاحتلال، كما أن عمليات الهدم تجري بشكل يومي.
“عرب 48”: الأخطر أن السياسة الإسرائيلية لا تقتصر على تعديل الميزان الديمغرافي في المدينة فقط، بل هي تسعى إلى تغيير جغرافيتها وطابعها ومعالمها التاريخية، وهي تقوم في سبيل ذلك باختراق الأحياء الفلسطينية في سلوان والشيخ جراح والاستيلاء على بيوتها في أبشع عملية اقتلاع وإحلال؟
عودة: صحيح، الهدف تفتيت الأحياء، ففي سلوان وحدها هناك استهداف لـ4 – 5 أحياء وفي الشيخ جراح شرق وغرب، إضافة إلى قرارات هدم في جبل المكبر والعيسوية وشعفاط وبيت حنينا، إنهم يريدون تحويل أحيائنا إلى غيتوهات مقطعة وأقليات معزولة تقطعها الشوارع ويخترقها القطار الخفيف ليدفعوا الناس إلى الخروج من مدينتهم.
وهم كُلّما فشلوا في الوصول إلى غايتهم يصعّدون من عدوانيتهم وحصارهم ويحاولون إثبات سيادتهم عنوة بقوة الاحتلال، وكأن المقدسي لا يكفيه الاستيطان والهدم والقيود المفروضة على الحركة والحواجز والجدار الذي حوّل مدينته الى سجن كبير يدخلها من بوابات تحت السيطرة العسكرية، ليأتوه أيضا بآلاف المستوطنين تحرسهم الآلاف من قوات جيش الاحتلال وشرطته ويستفزونه في حارته وبيته ومحلّه التجاري وشارعه، لمجرّد أن رئيس حكومة يريد أن يحافظ على ائتلافه الهش.
“عرب 48”: هناك أحياء مقدسية كاملة تقع خارج الجدار يضطر سكانها لعبور الحواجز للدخول إلى مدينتهم؟
عودة: هناك 140 ألف مقدسي يسكنون خارج الجدار، وهناك تفكير إسرائيلي جدي بفصل هذه الأحياء عن القدس وذلك في إطار مخطط يسمونه القدس الكبرى، كانوا قد وضعوه في الثمانينيات يقضي بفصل الأحياء الفلسطينية تلك عن القدس وضم أحياء يهودية للمدينة، هي “غوش عتسيون” في الجنوب و”معاليه أدوميم” في الشرق و”جفعات زئيف” في الشمال وبذلك يتم إضافة 65 ألف مستوطن يهودي إلى المدينة لتعديل الميزان الديمغرافي والوصول إلى معادلة 80% يهود مقابل 20% فلسطينيين.
“عرب 48”: التصعيد الأخير بما شمله من اقتحامات غير مسبوقة بحجمها ومضمونها للمسجد الأقصى، كسر ما يسمى بـ”الوضع القائم” ووضع المدينة أمام مرحلة جديدة؟
عودة: نحن أمام تصعيد متواصل بدأ مع قضية الشيخ جراح وهبة باب العامود واتساع الهبة نحو الداخل، وتوحد الشعب الفلسطيني من البحر إلى النهر حول القدس، وهو أمر استمر خلال شهر رمضان.
بالمقابل اقتحامات الأقصى تزايدت واتسعت وأصبحت تنطوي على خطر حقيقي في تنفيذ التقسيم الزماني والمكاني، كما حدث في الحرم الإبراهيمي، وذلك في ظل انهيار عربي وتراجع فلسطيني.
“عرب 48”: تراجع دور السلطة وانسحابها من القدس كان واضحا خلال السنوات الأخيرة، إلا أن حركة “حماس” التي حاولت أن تملأ هذا الفراغ بدت خلال الأحداث الأخيرة غير ناضجة بعد للعب هذا الدور؟
عودة: التحديات التي تواجهها القدس كبيرة جدا والدور الرسمي الفلسطيني ليس على مستوى هذا التحدي، فالناس تواجه بصدورها العارية، رأينا ذلك خلال هبات باب العامود ومواجهات الأقصى وفي الشيخ جراح، مدنيون عزل يواجهون المستوطنين وجنود الاحتلال.
“عرب 48”: لكن بدون غطاء رسمي أو شبه رسمي؟
عودة: كما قلنا سابقا، هناك انهيار عربي وتسابق في عمليات التطبيع مع إسرائيل والولاء لأميركا، وهناك تراجع فلسطيني وبالنسبة لـ”حماس” فإن مقدار خيبة الأمل كان بمقدار الأمل الذي بثته التصريحات، علما أننا نتفهم الظروف والمحدوديات والضغوطات الإقليمية.
* كاتب صحفي فلسطيني
المصدر: عرب 48
التعليقات مغلقة.