علي حبيب الله *
أولاً – ذاكرة في ذمة الملح
تركّز هذه الفقرة على الطنطورة وعلى برّها وبحرها وعلاقة أهلها بهما، وبجُزُرها، وبخاصة ببحرها الذي جمعته وأهل الطنطورة علاقة خاصّة شملت جوانب كثيرة من حياتهم، كالعمل، والمعيشة اليومية، والعادات والتقاليد، والمناسبات وغيرها، والتي سُلِبَت قسرا من أهل الطنطورة بفِعل النكبة والتهجير.
يُروى أن الشيخ الطنطوري عبد الله البجيرمي، حين حطّ على رمل الطنطورة، قادما من مصر في مطلع القرن التاسع عشر، وَجدَ الطناطرة يعجنون طحين القمح بماء البحر!(1) ليس فقط، لأن عَجْن الطحين يتطلّب الماء والملح معا، إنما كان ذلك تودّدا من الطناطرة للبحر، عبر طقس خَلط قمح السهل، بملح البحر، لتغدو بينهم وبين البحر عِشرة “عيش وملح” ظلّت قائمة بينهما، حتى آخر يوم وآخر قطرة دمٍ مسفوحة، بلّلت رمل القرية في عام النكبة والرحيل(httpshttps://www.youtube.com/watch?v=NZ-5nBOw-uU&t=1s).
أقام البجيرمي على إثرها في الطنطورة. ويُقال إنه من علَّم أهلها تنشيف ماء البحر في أحواض، لاستخراج الملح منها(2). ولمّا مات الشيخ، دُفن في القرية على حافة البحر، ليأمن به وبقبره أهالي الطنطورة من مَدّ البحر وهجماته. ثمّ أقاموا عليه مقاما ظلّ يؤمّه الزائرون ومتشفّعون عنده، حتى يومهم الأخير. اجتُثَّت الطنطورة بعد النكبة، ولم يبقَ منها، غير مقام شيخ البرّ والبحر.
في قبضة البحر:
“دورا”، هذا هو الاسم التاريخي للطنطورة في موقعها، على حافة البحر، على مسافة 30كم جنوب حيفا، منذ زمن الكنعانيين(3). ثم تحوّلت إلى “دور” -بالضمّ المُخفَّف- في زمن الرومان، وبقيت حتّى الفتح العربي وحتى الحملات الصليبية على البلاد. وقد أطلق الصهاينة اسم “دور” على مستعمرتهم التي أقاموها على أراضي القرية بعد تهجيرها سنة 1949. والجدير ذكره، أن التسمية الرومانية “دور”، إنما هي لفظ مشتَقّ من اللاتينيّة، ويعني “الباب”. وقد ظلَّ أهالي الطنطورة يطلِقون حتّى عام النكبة على أحد أقدم التلال، المقامَة عليه القرية، اسم “دَبة الباب” أي تل الباب(4).
أما “الطنطورة” فهي تسمية حديثة للقرية. ومن الطناطرة الذين يُكنّون بـ”الطُرّشيّة” من يعتقد، أن الطنطورة تحريف صار مع الزمن لتسمية “دور”(5). بينما في رواية أخرى يذكرها بعض أهالي القرية، فإن الطنطورة هي تسمية مصرية للقرية وتعني المكان المرتفع(6)، خصوصا وأن معظَم عائلات القرية، المُشكِّلة للطنطورة حديثا، كانت من أصول مصرية، توطنت في القرية منذ مطلع القرن الثامن عشر، وتكثفت فيها، بعد حملة إبراهيم باشا على فلسطين، أواسط القرن التاسع عشر.
لم يُعرَف في فلسطين وساحلها عن قرية تجرأت على حافة البحر، مثلما فعلت وتجرأت الطنطورة، فقد ظلّت القرية محفوفة بالبحر وعليه منذ تشكّلها وتشكيلها الاجتماعي الحديث في مطلع القرن الثامن عشر، إلى حدّ صارت فيه قرية في قبضة البحر، لأن نصف الطنطورة كان فيه، إذ على بُعد مئة متر داخل البحر، كانت جُزرٌ ست، لم يملِك الطناطرة سَندات تملُّك لها، لكنهم كانوا أصحابها، وسمّوها كما يسمّون مواليدهم.
كانت بيوت الطنطورة شَطّيّة (شاطئية)، لا تأبه لضربات موج مد البحر، خصوصا في الشتاء، ما دفع أهالي البيوت الشَطّيّة تلك، وتحديدا في الحارة الشمالية، إلى تقميط بيوتهم، أي إقامة “قِماط” على شكل كاسر موج في الرمل، يفصل بيوت الطنطورة الشاطئية عن البحر، لحمايتها من مدّ الموج وهيجانه(7).
ومع ذلك، كان البحر كلما يكبرُ ويعلو شتاءً، يمدُّ موجه شرشفا داخل الطنطورة، إلى حدّ كان يفصل بمائِه الحارة الشمالية عن “القِبلية” الجنوبية، ما كان يجبِر أهالي الطنطورة على التنقل بين حارة وأخرى بالشخاتير عبر الشاطئ(8).
سكَن الطناطرة البحر، وعاشوا مسكونين به، فالبحر من كان يأذن لهم في الزرع والقلع، وفي الحصدْ والصيد. حتى النساء الحوامل من الطنطوريات، لم يكُنْ يؤذَن لهنّ بالولادة، إلا بعد كأس ماء من ماء البحر، اعتادت دايات القرية إسقاءَه للمرأة الولّادة، في اعتقادٍ بأن ماء البحر المالح، يُعين المرأة على ولادة ولد صالح.
عن قرية نصفها في البحر؛ الجُزر وشِبهها:
رغم حميمية تلك العلاقة التي جمعت الطنطورة بالبحر المتوسط، إلا أن أهالي القرية كانوا على حدّ تعبيرهم، مُدرَّعين منه بجُزُرهم، التي كانت بمثابة امتداد لأرضهم داخل البحر. وقد اعتبروها قبل كل شيء، دروعا تكسر مَدّ الموج عنهم(9)، لتظلّ حكاية جُزر الطنطورة واحدة من غرائب الذاكرة الساحلية في فلسطين. إذ لم يُذكَر عن مدينة أو قرية على ساحل فلسطين، تملّكت جُزرا في البحر، إلا الطنطورة.
يَلفظُ الطناطرة “الجزيرة” بتسكين الجيم. وقد مَلكوا في البحر على بُعد تراوَح بين خمسين ومئة متر داخله، ستّ أو حتى سبْع جُزر، تمددت أربع منها قُبالة القرية على طولها، واثنتين للناحية الشمالية من شاطئ القرية. غير أنّ لأسماء الجُزر الطنطورية، حكاية صارت فيها الجُزر على دين أهلها.
جزيرتا “الشدّادة” و”الفَلتية”، هما أكبر جزيرتين من الجُزر الأربع المقابلِة للقرية. ثمّ جزيرة “أعمر” وجزيرة “الحَمام”(10). أما عن تسمية الشدّادة والفلتية، فإن التسمية جاءت نسبة إلى أهالي الشدّادة والفلتية من سكان القرية، فالطنطورة عرفت تقسيما وتصنيفا لأهلها، تشكَّل بناءً على نمَط عيشهم وأملاكهم، إذ صُنِّفت القرية طوال تاريخها الحديث حتى عام النكبة، إلى ثلاثة فئات: شدّادة، وفلتية و”صيادي” (نسبة لصيادي السّمَك)، فالشدّادة هم من شدّوا الأرض في القرية، أي المُلّاك والزناجيل ممن يملكون الأرض. أما الفَلتية، فهم عُمّال الأرض من حرّاثين ومُرابعين، الذين لا أرض لهم. لذا اعتُبروا “فَلتا” يعملون عند مُلّاك الأرض. والفئة الثالثة، هم الصيّادي الذين امتهنوا واحترفوا صيد السمك في البحر كمصدر رزق وحيد.
اختلف الشدّادة والفلتية من أهالي الطنطورة، على مُلكية أكبر جزيرتين في البحر. خصوصا بعد أن صار استخراج الملح منهما، موردا يدرُّ عائدا على أهالي القرية(11). أصّر الفَلتية، على أن تكون أكبر جَزيرة لهم، لأنه لا أرض عندهم يملّكوها مثل الشدّادة. فكان لهم أكبر جزيرة من الجزر الأربع المقابلة للقرية، ومُنحوا بموجب اتفاق أهليّ حقّ استخراج ملحها(12). بينما أخذ الشدّادة الجزيرة الأخرى، وحملت الجزيرتان اسمهما حتى عام النكبة.
أما جزيرة “أَعمر”، أو “إِعمر”، فهي لأنها واقعة قُبالة بيوت عائلة إعمر الطنطورية. ويُقال إن الشيخ إعمر، الجدّ المؤسس للعائلة، ظلّ حتى مطلع القرن العشرين، يخرج من بيته للجزيرة ليلا في رمضان، ويبقى فيها مؤدّيا صلاة قيام الليل حتى موعد السحور. ثم يعود سيرا عبر ماء البحر إلى فراشه، دون أن تُبلِّلَ ثوبه قطرة ماء!(13). فسُمّيَت الجزيرة باسمه.
كانت جزيرة إعمر من الجُزر التي كان يبتلعها البحر شتاءً، بعد أن يغمرها بمائه، لتختفي طوال فصل الشتاء. ويبقى أبناء عائلة إعمر الطنطورية، في انتظار أن تطلّ جزيرتهم مجددا(14). وإذا ما تأخّر ظهورها، اعتبروا ذلك فأْل شؤمٍ. بينما يحتفل أبناء العائلة حينما كانت تُطلُّ جزيرتهم من قلب البحر، مُعلِنة لهم بداية الصيف، وموسمَيّ الحصاد والصيد.
أما جزيرة الحَمام، فسُمِّيت كذلك، لأنّ فيها كهفا كبيرا، كانت تأوي إليها طيور الحَمام البلديّ، لبناء أعشاشها فيه، فسُمّيت جزيرة الحمام. كما كانت كثافة النباتات العالية في هذه الجزيرة بمثابة ملاذا لطيور الحمام، كي تفرّخ صغارها بينها، ما كان يشجّع أولاد الطنطورة، على السباحة إليها صيفا، من أجل جمع فراخ الحمام (الزغاليل) منها(15).
إلى الشمال من الشاطئ المقابِل للقرية، كانت تقع جزيرة الحصان، وأخرى سمّاها الطناطرة جزيرة “حمدي”. كانت هذه الأخيرة مشهورة بأحواض الملح(16). أما إلى الجنوب من الجُزر الأربعة، فكانت جزيرة أخرى تُسمّى جزيرة “سطيّح”، لأنها مُسَطّحة غيرَ مُقَمّمة، أي لا قمّة لها(17). وكانت تغرق على مدار السنة في البحر أكثر ممّا كانت تظهر منه. وقد دَرَجَ على ألْسِنة أهالي الطنطورة، عندما كان يطلب أيّ ولد يساعد أهله، الراحة من عمل الفلاحة، قولهم له متهكّمين: “بتريّح لما بتطُل سطيّح”. أي لا راحة إلا إلى أن تظهر الجزيرة.
كانت هذه الجزُر، بالإضافة إلى كونها دروعا تقي القرية من مَدّ البحر، بمثابة مورد لاستخراج الملح منها، إذ أنها حَوَت أحواضا منحوتة بالصخر، فإذا ما عَلا البحر شتاءً، كان يغمرُ ماؤه الأحواض، إلى أن يحلّ الصيف، فيجفّ الماء، ليبقى الملح فيها، منتظرا أهله الطُرّشيّة من أجل جَمعهِ(18). ظلّ أهالي الطنطورة، يعتمدون على جُزرهم في استخراج الملح، حتى عشرينيات القرن العشرين، إلى أن أقام الإنجليز أثناء استعمارهم البلاد، مَعمَلا لاستخراج الملح في عتليت، فصار الملح العتليتيّ بديلا عن ملح جزرهم الطنطوري.
كما اعتُبرت جُزر الطنطورة، موقعا لاستجمام أهلها في المناسبات والأعياد، وبخاصة في الصيف، حيث يسهل الوصول إليها سباحةً، أو حتى سيرا على الأقدام. بينما لم يكُن ممكنا الوصول إليها شتاءً إلا بالمراكب. هذا، فضلا عن المواقع الأثرية في بعضها، ففي جزيرة الشدّادة مبنىً أثري، كان يسمّيه أهالي الطنطورة “القَصْر”. ويُقال إنّ الحاج أمين الحسيني حين فرَّ من الإنجليز في ثورة عام 1936 من القدس إلى يافا، ومنها عبر البحر بمساعدة بحّارتها، قد مَرّ بجُزر الطنطورة، وبات في قصر جزيرة الشدّادة، لليلة واحدة، مختبئا من عيون الإنجليز (19). ومن الشدّادة، أكمل المُفتي طريقه في البحر إلى لبنان.
“عَ المَكر”:
لم تكُن المكر أو المقر جزيرة في البحر، إنما شبه جزيرة ظلت من أشهر مواقع الطنطورة الأثرية والبحرية فيها. كانت تقع في الطرف الشمالي من القرية. كما كان في الشاطئ الجنوبي للقرية شبه جزيرة أخرى، تُسمى “الجُرش”(20). وصار يُطلق عليها الطناطرة تسمية “الكراكون”، بعد أن أُقيم عليها مخفر في أواخر العهد العثماني.
إلا أن شبه جزيرة المكر، كانت الأشهر، لأن فيها بئر ماء المكر، التي كانت تنسب إليها الجزيرة في تسميتها. كانت بئر المكر، مَشرب أهالي الطنطورة الأساس حتى اكتشاف بئر “الشِفا” شرقي القرية في أوائل الثلاثينيات(21). غير أن أكثر ما حيّر أهالي الطنطورة في بئر المكر، هو ماؤها الحلو، رغم وجود البئر داخل البحر، وحتى حين كان يغمرها ماء البحر في الشتاء، لم تكن ملوحة البحر تنال من مائها الحلو أبدا(22).
الرحالة الفرنسي لوران دارفيو الذي تنقَّل في البلاد العربية، ومنها فلسطين، أثناء عمله في السِّلْك القُنْصُليّ الفرنسي سنة 1658، مرّ بقرية الطنطورة، مسميًّا إياها في حينه “الطرطورة”. وقد أشار إلى القرية، بوصفها مرفئا، يعيش بقربها بعض الفلاحين، ويقصدها بعض التجار. ومن جملة ما استوقفه فيها، هي مياه بئر جزيرتها العذبة، التي كانت تنبع من صخرة داخل البحر، في إشارة للجزيرة وبئرها المكر. كما أشار إلى قداسة مائها لدى سكانها المُقيمين حولها، إلى حدٍّ اعتبروها وصفة صحيّة للشفاء من داء الرَّمَد وأمراض أخرى(23).
لم تبقَ بئر المَكر مَشرب أهالي الطنطورة منذ الثلاثينيات. لكن شبه الجزيرة، ظلّت مقصد الطناطرة، خصوصا في الأعراس. حيث كان تعبير “الصَمدة ع المكر”، شائعا بين أهالي الطنطورة. إذ تحوّلت المكر إلى مصمد يُصمد عليها عُرسان القرية، ففيها مقاعد منحوتة في الصخر، كان يجلس عليها العروسان(24). بينما يغنّي لهم أهلهما وقوفا في الماء، فيما الخيل المبرشَمة كانت على الشاطئ، تروح وتجيء، يُلاعبها رذاذ الموْج، ومبلِّلا زبدُ البحرٍ حوافرَها، في مشهدٍ لم ينسه كل طنطوريّ عاش وعايش الطنطورة قبل النكبة.
سقطت الطنطورة بعد واحدة من أبشع المجازر التي ارتكبها الصهاينة في فلسطين عام النكبة. بينما جُزر بحر القرية ظلّت صامدة، وكذلك مَصمد العُرسان في المكر، ومعها مقام شيخ البحر البجيرمي، محفورة على جداره سورة “الصَّمد” إلى يومنا.
ثانياً – الداء والدواء والزفزف والزلف
هذه الفقرة تركز الطنطورة وعلى برّها وبحرها وعلاقة أهلها بهما، وبجُزُرها، وبخاصة ببحرها الذي جمعته وأهل الطنطورة علاقة خاصّة شملت جوانب كثيرة، بما في ذلك علاقة الطنطوريات بالبحر.
في أواخر نيسان/ أبريل من كل عام، كان صوت الطنطوريات ينبعث من داخل البحر غناءً في ترويدة ساحلية يقول مطلعها:
والعجّال شمّل والعجّال شرّق
والسمّاك شيّل والبحر زرّق (25)
يروّدنَها ثم يردّدنها الطنطوريات، على إيقاع صوت خبط أقدامهن بماء البحر، ضمن طقس سنوي استمر في الطنطورة أحيانا لأسبوع. ذلك هو موسم غسل صوف الغنم في البحر. كانت نساء القرية تفرك الصوف دعكا بكعابهن إلى أن يرغوَ الصوف بالصابون أبيضَ، بلون زَبَد موج البحر ناصعا مثل الحليب.
يُسمى قطيع البقر “العجّال”، والذي كان يجري جمعه في أيام الربيع، ثم تسريحه إلى مراعي القرية في شمالها أو شرقها، كما تقول الترويدة. وتزامن هذا في الطنطورة مع موسم جَزِّ صوف الغنَم البيضاء، التي كثرت قُطعانها فيها(26). كان سرح عجّال البقر وجزّ صوف الغنم ثم غسله، يتزامنان كذلك مع موسم سمك السردين. ومن هنا قَوْل الترويدة: “والسّمّاك شيّل والبحر زرّق”، في إشارة لموسم السردين وصيده مع أواخر نيسان(27).
إن غسل صوف الغنم بماء البحر، تقليد تعارَف عليه وقتذاك بدو وفلّاحو قرى الساحل، دون أن يتسبب الصوف بأي أذى لماء البحر، على خلاف الأذى الذي كان يخلّفه الدبّاغة للبحر في المدن الساحلية مثل يافا وحيفا وعكا، فدبغ جلود المواشي في البحر، والتي كان يتطلب غسلها ودبغها، مياها ملوحتها عالية، قد حوّل شواطئ تلك المدن إلى أشبه بمناطق صناعية تخمّها رائحة الدم والعَفن، ما أبعد الناس عنها. وقد خاض أهالي يافا في عشرينيات القرن الماضي نضالا وصل إلى حد النزاع مع الدبّاغين من أجل حقهم في شواطئ نظيفة(28).
في البحر الداء والدواء:
لم تقترب الطنطورة بالشكل الذي اقتربت عليه من البحر قبيل نكبتها، إلا في ثلاثينيات القرن العشرين، إذ صارت بيوتها في حينه “شَطّيّة” على حَرف البحر بتعبير أبناء الساحل. وقبل ذلك، أي في القرنين الثامن والتاسع عشر، كانت بيوت القرية أبعد عنه إلى الداخل بعشرات الأمتار. وفوق جبلة -بتسكين الجيم- أي هضبة مرتفعة ومُطِلّة عليه، مكونة من مجموعة تلال، أطلق عليها الطناطرة تعبير “دِبِّاب” مثل: دَبّة الباب، ودَبّة العجرة، وكذلك دَبّة العبدونية وغيرها(29).
التوطن “التِلالي” عن البحر في الساحل، كان تقليدا ينسحب على جميع قُرى ومدن فلسطين الساحلية طوال القرنين الثامن والتاسع عشر (30)، ومردّه هو سؤال “الأمن من البحر”! على أشكاله المختلفة. أهمه كان “الأمن الصحي”، وتحديدا من بصاص -جمع بَصة- الماء، أي “المستنقعات” التي كانت تُبرّكُ قُبالة البحر على شاطئه، متشكلةً بفعل ماء الشتاء، والسيول الجارية من جبال فلسطين الداخلية. مما كان يتسبب بانتشار الباعوض والأمراض مثل الحُمة والملاريا.
لم يترك أهالي الطنطورة شبرًا من أرضهم إلا وأعطوه اسمًا، بما في ذلك بِرك “المستنقعات”، فمنها أرض البصة السهلية الواقعة شرق البلد التي تفصلها عن قرية الفريديس، وأخرى مثل: الزور والحاوي وعيون حسن وحجر الشيخ والصفرا(31). هذه كلها أراضٍ، كانت “مستنقعات” في الشتاء والربيع، ومبعثا للباعوض والملاريا، إلى أن يحلّ الصيف وتجفّ. وفي المقابل، كانت بفعل تبرك الماء فيها، منبتا للحلفا والصُعيد والصمار، النبات الذي استفاد منه الطناطرة في فتل الحبال ونسج الحُصر(32).
ثابر الطناطرة على التخلص من هذه البِرك، عبر حفر واد بأيديهم في ثلاثينيات القرن الماضي، صار يُعرف بوادي المزرعة أو وادي البلد(33)، وذلك من أجل صرف المياه الراكدة في شرق البلد إلى غربها نحو البحر. وفي شمال الطنطورة كانت منطقة تُعرف بـ”الدوّاية”، أيضا بركة راكدٌ ماؤها على حافة البحر. أوجد الطناطرة لها مصرفا من تحت الرمل، ظلّ يَهدرُ منها صوت الماء إلى البحر مسموعا طوال الشتاء وحتى مطلع الربيع. ومن هنا كان اسمها الدوّاية(34). ومع ذلك، ظلّ ماء الشتاء يبرك في مناطق مختلفة من الطنطورة، مما كان يجبر أهلها إلى التوّقي منه بـ”الكوينين”، وأطلق عليه أهالي الطنطورة والساحل عموما، بالعامية اسم “دوا الكينا” (35)، استُخدم شربا كمضاد للطفيليات ولعلاج الملاريا في حينه.
كما لم يتردد الطناطرة حتى مطلع القرن العشرين، في غلي ماء البحر بملوحته مع بعض النباتات والأعشاب للتداوي به من وجع الأسنان، وأعراض الإمساك، وأمراض المعدة. والأهم كما يُقال إنه “لم يُذكر عن طنطوري أن أغمض عينيه تحت ماء البحر” (36)، في إشارة إلى أهمية ماء البحر في منع الإصابة بـ”رمد العيون”، أحد أكثر الأمراض انتشارا على ساحل فلسطين. فيما اعتبر الطناطرة الغطس في البحر بمثابة ممارسة وقائية من الرمد. حتى المصاب به، كان يؤخَذ للبحر مباشرة لقطر عينيهِ من مائه (37). ومن عادة الطنطوريات، قطر عيون مواليدهن الرُضّع من ماء البحر ضمن شَعيرة من طقوس المُيومة الساحلية (38).
الرمل المَلكيّ:
نَمَت بيوت الطنطورة على الرمال، مُشيّدةً من رملها، الذي ظلت حكايته مَلكية منذ قيام القرية على قدميها في القرن الثامن عشر، فحجارة بيوت القرية كلها، كانت مقطوعة ومسقولة من دِبابها وسوافيها الرملية المشرئبّة على سيف البحر. عُرف عن الحجر الطنطوري أنه مُبّيض ونافر، وسُمي بالحجر “المَلكي”، نسبة للرمل المَلكي الذي كان يفترش شاطئ الطنطورة، ممتدا على طول ساحل فلسطين الشمالي. وقد ورد ذكره في كتب الرحلات باسم الرمل “المَكي” أحيانا.
كانت بيوت الطنطورة حتى عشرينيات القرن العشرين مبنية بجدران حِجارها رملية، بينما سطوحها ظلّت مسقوفة بخشب شجر الطرفا، المقطوع من وادي الزرقا جنوب القرية(39)، قبل أن تتحول بعد ذلك إلى مُسطحة بالإسمنت. في شرقي الطنطورة منطقة تلّية عُرفت بالـ”مقاطيع”، والمِقطاع يعني بقاموس أهالي الطنطورة المَحجر، الذي تُقلع وتُقطع منه حِجارة البناء الرملية(40). كان يقول الطناطرة مستظرفين: “ولاد المقاطيع مقاطيع”، والمقصود هو حَجّارة المقاطيع، المنقطِعون عن الناس في التلال والجبال.
حين توسّعت قرية الطنطورة في أوائل الثلاثينيات، كان توسعها وتمددها غربا نحو البحر، لتصبح قرية أكثر شَطية وأقرب للبحر وحافته، ما دفع أهل تلك البيوت وأهليها إلى استخدام الحجر الصخري بدل الرملي في البناء. اقتَلع الطناطرة الحِجارة الصخرية البيضاء من جبل “أم الطوس” الواقع شرقي القرية، بمحاذاة جبال الكرمل(41). ومَرَدّ استبدال الرملي بالصخري يعود إلى البحر ومَدّ موجه المتمادي على جدران تلك البيوت، ما تطلب أن تكون بيوت حِجارها صخرية لمقاومة ماء البحر وملوحته.
كان الطناطرة، كلما صاروا أكثر توددا للبحر، ازدادوا حذرًا منه، فبعض الصور الفوتوغرافية المُلتقطة في الثلاثينيات لبيوت الطنطورة الشاطئية، تظهر أن أهالي الطنطورة قد اقتربوا من البحر متحفظين، ودون أن يعطوه واجهات بيوتهم، فمعظم عتبات البيوت وأبوابها، كانت مفتوحة على الناحية القِبلية وليس الغربية في مواجهة البحر.
الزفزف والزلف:
ما الذي يحمله موج البحر في مده إلى الشاطئ غير الماء؟ الحصى والصدف والتراب وحتى الغبار مبلولا يحمله المدّ معه، ليتركها كلها على حافة البحر رملا خشنًا بحجم ما بين حَبّ السمسم والعدس. وهذا ما كان يسمّيهِ أهل الساحل “الزفزف”، بينما أطلق أهالي الطنطورة عليه اسم “الخَفّان”(42).
كان الزفزف أو الخَفّان موردًا يُستخدم لأغراض البناء والإعمار، وقد تُركت مهمه استخراجه من شاطئ بحر الطنطورة لنساء القرية، يعبئنه في قُفف ثم يملأنَها في أكياس، في انتظار أن تحملها جِمال دار عبد المُعطي والجمّال لنقلها إلى البيوت وأصحاب الطلب (43). في رحلتها الثانية إلى ساحليّ لبنان وفلسطين، في ثمانينيات القرن التاسع عشر، أشارت الرحالة الإنجليزية، ماري روجرز، عند مرورها بالطنطورة إلى هِمة الطنطوريات في جمع الزفزف وحجار الملح من على شاطئ بحرهن(44).
أما “الزَلف”، فهو الصدف البحري الذي كان يقذف به مد البحر إلى شاطئ الطنطورة. أطلق عليه الطناطرة تسمية الزَلف. هو ذاته “صدف الموركس” الذي استخدمه الكنعانيون قديمًا لاستخراج الأصباغ الأرجوانية منه. في الطنطورة، من شمال منطقة البُرج، تلٌ كان يتكوم فيه الصدف، فأطلق عليه أهالي الطنطورة اسم “تل الزَلف”(45).
استعان أهالي الطنطورة بزلف البحر لرصف أزقة قريتهم الداخلية ومداخل بيوتهم به، خصوصًا قبل حلول الشتاء في كل عام(46)، في تقليد تعارفوا عليه لمنع توحّل تربة طُرقاتهم الطينية. كما استُخدم زلف البحر في الطنطورة بعد طحنه علفا للدواجن! ويُقال إن طحن الزلف علفًا تقليد استدلّ إليه الطناطرة من يهود زمارين (“زخرون يعكوف”) الواقعة جنوب شرق الطنطورة، الذين استوطنوها منذ نهاية القرن التاسع عشر(47).
لأهالي الطنطورة، صِلات بالبحر، غير تلك التي بتنا عليها اليوم، نحن الباقون في البلاد. كما أن لهم مع البحر علاقات يوم كانوا حُراسا عليه، وريّاسا فيه. وللشبك والسمك ودموع الصيادين في الطنطورة حكايات. أما عن مغاسل الخيل ومشالح الليّل فيه، فتلك حكاية طنطورية بحرية تطول.
ثالثاً- مغسل الخيّل ومشلح الليل وريح الصيّادين
في حضن البحر:
في الطنطورة، كان كل أبنائها يُجيدون السباحة والغطس في الماء، لكن لا يوجد طنطوري واحد يمكنه تذكّر من الذي علّمه السباحة! فأبناء القرية كلهم ولدوا في حضن البحر، يقول عبد الجبار أبو شكر، ابن قرية الطنطورة المُهجرة(48).
ويُعيد بعض مؤرخي فلسطين، السباحة في البحر المتوسط كممارسة ثقافية – ساحلية، إلى النصف الأول من القرن العشرين، وتحديدا في ثلاثينيات القرن الماضي، على اعتبار أن فلسطينيي الساحل، لم يكونوا يجيدون السباحة قبل ذلك!(49). إلا أن ذلك غير صحيح، أو على الأقل، قد ينطبق تعلم السباحة في بدايات القرن العشرين في البحر على سكان المدن الساحلية. بينما الريف الفلسطيني- الساحلي، والذي همّشته أقلام الباحثين والمؤرخين، فقد تعلم أبناؤه الغطس في الماء في مراحل مبكرة من القرن التاسع عشر(50).
لم تبدأ ممارسة السباحة لدى أبناء قرى ومضارب البدو الساحلية الذين توطنوا حافة البحر المتوسط كممارسة رياضية، بقدر ما أنها تطورت عن ثقافة “الاستحمام” في البحر وخصوصا لدى بدو الساحل. وكذلك أهالي الطنطورة، الذين تعودوا بعد كل يوم عمل مجهد في الحقول، الغطس في البحر لإراحة أبدانهم وغسلها فيه(51). حتى بئر المكر داخل البحر، التي كان ماؤها حلوا صالحا للشرب، تحولت بعد مد شبكة المياه إلى القرية في الثلاثينيات، إلى حوض يستخدمه سبّاحي القرية، لـ”تحلية” أجسادهم، أي شطفها بالماء الحلو بعد الاستحمام بماء البحر(52).
وكان في شاطئ الطنطورة من شمالها، موقعا مخصصا للسباحة، أطلق عليه أهل القرية اسم “مغسل الخيل”(53). ليس لأنهم تعودوا فقط غسل خيلهم فيه، إنما لتقليد متعلق بترويض الخيل داخله أو “تطبيعها” كما يُقال في العامية الفلسطينية. فأهل الطنطورة وأهالي ريف الساحل عموما، انتبهوا إلى فكرة ترويض الخيل وركوبها لأول مرة، داخل ماء البحر؛ وذلك لأن الماء يقيّد ويضبط حركة الفرس أو الحصان المركوب لأول مرة، مما يسهّل عمليه ترويضه.
كما أُطلق الطناطرة على مغسل الخيل، تسمية “مشلح الليل”(54). وهي تسمية نسائية بالمناسبة، فالسباحة في الطنطورة لم تكن تقتصر على الرجال، إنما الطنطوريات أيضا أجدن الغطس والسباحة بماء البحر، ولكن في الليل! تعودت نساء القرية السباحة ليلا، بعد تنبيه مسبق لرجال القرية، إذ كان يجري التعميم على أهالي الطنطورة، بأن نساء القرية سينزلن للسباحة في مشلحهن قبل يوم أو يومين(55). وكن عجائز القرية يتولين مهمة حراسة النساء أثناء سباحتهن في البحر(56). ومن هنا، كان اسمه مشلح الليل، لأنه المكان الذي تعودت نساء القرية خلع وتبديل ثيابهن فيه ليلا،ولأن الليل يتيح للنساء ممارسة خصوصيتهم في البحر بعيدا عن أعين الرجال.
إن “مغسل الخيل” أو “مشلح الليل”، أُختير مسبحا لأهالي القرية، لأن مياه شاطئة كانت صافية، ويمتد داخل البحر عن حافة الشاطئ مسافة كيلومتر واحد بعمق أقل من مترين، مما كان يمنح نواعا من الأمان للسباحة فيه. كما كان يقصد هذا الموقع للسباحة يهود مستعمرة “زُمّارين” (“زخرزن يعكوف”)، بعد استئذان مختار القرية، كما اعتاد الموظفون والعسكريون الإنجليز قضاء عُطلهم الأسبوعية فيه(57).
ونادرا ما تحث أهالي الطنطورة في رواياتهم الشفوية عن علاقتهم ببحر قريتهم قبل تهجيرها، عن حالات غرق تعرض لها أحد من أبناء القرية، لا بل أجاد الطناطرة إنقاذ الغَرقى الغرباء الذين كانوا يفدون شاطئهم للسباحة فيه. ومن مهاراتهم أنهم كانوا “يُقبّون” الغريق الغريب، أي قلبه على بطنه لإخراج ماء البحر منه(58).
زوارق وريّاس:
ما من عائلة طنطورية إلا وكان لها ريّسها في البحر، مثلما لها وجوهها ووجهائها بين الناس. فالطنطورة كانت مقسومة اجتماعيا ومعيشيا إلى ثلاث فئات بين أهلها : شدّادة وفلتية وصيّادي(59). ومع ذلك عاش الطناطرة كما قالوا عن أنفسهم: ” مترابطين مثل شبكة الصيد”، مما جعل امتهان صيد السمك متصلا بعائلات بعينها أكثر من غيرها، وخصوصا تلك التي لم تملك أرضا لفلاحتها، ففرت إلى البحر بحثا فيه عن كسبها ورزقها.
وكان البحر قُبالة الطنطورة يتحول إلى غابة من أشّرعة الزوارق في مواسم الصيد، مزروعة كما لو أن بحر الطنطورة قد غطت وجههِ طيور بيضاء(60)، وتحديدا في موسم صيد سمك السردين، الذي كان يصير كرنفالا بحريا على شواطئ الطنطورة تحتشد فيه زوارق الصيادين وشخاتيرهم قادمة من يافا وغزة جنوبا، وحيفا وعكا شمالا، كلها كانت تلتقي في الطنطورة.
للسردين في الطنطورة موسمين، وليس موسماً واحداً فقط، على ما ظل يذكر أهلها. في الربيع موسم حركة قدومه ومروره بالطنطورة قادما من الأطلسي عبر مضيق جبل طارق ليصل بحر شمال تركيا لوضع بيضه هناك كما كان يعتقد صيّادو الطنطورة. ويستمر موسم صيده هذا مدة ثلاثة شهور من نيسان/ أبريل وحتى حزيران/ يونيو. فيما كان يحل الموسم الثاني في الخريف، مع عودة السردين برحلة إيابه بعد تفقيس بيضه مفرّخا صغاره، مارا بشواطئ الطنطورة، ليستمر صيده من منتصف تشرين الأول/ أكتوبر وحتى منتصف كانون الأول/ ديسمبر(61).
اعتبرت الطنطورة مجمعا للسمك وصيّاديه، إلى حد تفوقت فيه على حيفا. كما كان صيّادو القرية من أكثر صيادي الساحل احترافا في قراءة حركة السمك والمرابطة له في البحر. أما عن الصيادين القادمين من جنوب البلاد وشمالها، فقد تعودوا الإقامة في الطنطورة في مواسم الصيد، حتى أن أهالي القرية كانوا يأخذون من كل صيّاد وافد، تعريفة على كل واحد كيلوغرام من السمك، وقد بنّا الطناطرة من عائد ضريبة السمك مدرسة القرية الحديثة في أواخر الثلاثينيات(62).
تسرح زوارق وفلائك صيّادي الطنطورة مثل ملائكة في البحر. وإذا ما كانت الريح شرقية، والتي كان يهابها الصيّادون والريّاس، لأنها “ترد البحر” كما يقولون، فإن هيجان الموج كان يصل إلى حد حمل فلائك الصيّادين الشراعية قاذفا بها إلى شواطئ قبرص، على ذمة الحاج عادل العموري(63). ومع ذلك، لم تكن الريح وجنونها تمنع أي صيّاد طنطوري من العودة سالما، والقول “الحمد لله الشختورة أوسقت”(64)، أي امتلئت بالسمك. ففي بحر الطنطورة “ياما مرت مواكب، وتكسرت فيو مراكب” كما يقول أهلها.
طنطوري يا سمك:
كان سمك الطنطورة مفخرة حناجر السمّاكين في حيفا وأسواقها، وذلك كلما انبعث منها بصيّحة “سمك طنطوري يا سمك”. ما إن كانت تحط مراكب صيّادي الطنطورة على شاطئ القرية، قادمة كل صباح من بطن البحر، يكون السمّاكين قد صاروا على “العُرش”، مقهى الصيّادين وملتقاهم على شاطئ الطنطورة. ليَحمل السماكون السمك على العربات، وقبل العربات في خِراج الدواب من الطنطورة إلى حيفا شمالا.
من أشهر أنواع السمك الطنطوري، غير السردين، كان “الكبّان” و “الذهبان”، وأسماك “السراغيس” بنوّعيها: “سراغيس الحدّداية، والسراغيس الصخرية”(65). فضلا، عن “البوري” الذي قال عنه صيّادي الطنطورة: ” البوري عاش طنطوري”، وذلك لأنه من المعروف أن سمك البوري، هو من أكثر أنواع السمك عيّشا واقترابا من شواطئ البحر. إضافة إلى أنواع أخرى مثل: المَلّيطة والطبّارة وغيرها. كما أطلق أهالي الطنطورة على سمك القرش اسم كلب البحر(66).
وتعتبر سمكة ” الدواخير” من أجود وأكثر أنواع سمك البحر حضورا في المطبخ الطنطوري، والدواخير هو ما يُطلق عليه اليوم اسم “اللُقس”(67). كانت إذا ما انبعثت رائحة السمك شوائا من طوابين بيوت الطنطورة ومعها رائحة روث البقر محترقا، يعرف الطناطرة أنها رائحة الدواخير.
لدى أهالي الطنطورة “الصيادية الطنطورية” الخاصة بهم، وهي عبارة عن طبق من السمك المطبوخ بالبندورة والبصل. أما الصيّادية المتعارف عليها في مطبخ أهالي ساحل جنوب فلسطين في يافا وغزة، فيُطلق عليها أهالي الطنطورة اسم ” المدفونة”، وهي السمك، الذي يُدفن بعد قلّيه في الرز بلونه الأصفر ليُطبخ معه(68)، ومن هنا اسمها المدفونة(httpshttps://www.youtube.com/watch?v=JBzIJ7rExyg).
مدفونة، ونكبة جعلت من القرية مدافن جماعية، وناجون يحملون شوقا ووجعا دفين على قريتهم التي ظلت ابنتة وفيّة للبحر حتى يومها الأخير. لقد ظلت قدمّا الطنطوري واحدة في السهل وأخرى في البحر، فقد علّمهم البحر وعلّم عليهم أكثر مما تعلم من الجبل فلسطينيو الجبال، إذ إن لدى أهل الساحل مثلٌ يقول: “الجبل للكسل والبحر للعمل”.
الهوامش:
- أبو حارثة، عبد الرازق العوفي، رجال العوفي في فلسطين – وادي الحوارث طولكرم، مجلة الرسالة، عدد 23، تاريخ 11/12/1933.
- المرجع السابق.
- راجع: الموسوعة الفلسطينية. وصايغ، أنيس، بلدانية فلسطين المحتلة (1948 – 1967)، بيروت 1968.
- عن “تل الباب”، راجع: أبو شكر، عبد الجبار، مقابلة شفوية، الطنطورة، موقع فلسطين في الذاكرة، ضمن مشروع تدوين التاريخ الشفوي للنكبة الفلسطينية، تاريخ 16/3/2007.
- اليحيى، محمود يحيى، الطنطورة قرية دمرها الإحتلال الإسرائيلي، دار الشجرة للنشر والتوزيع، دمشق، 1998، ص 15.
- العموري، عادل محمد، مقابلة شفوية، الطنطورة، موقع فلسطين في الذاكرة، ضمن مشروع تدوين التاريخ الشفوي للنكبة الفلسطينية، تاريخ 26/10/2010.
- أبو شكر، داوود، مقابلة شفوية، الطنطورة، موقع فلسطين في الذاكرة، ضمن مشروع تدوين التاريخ الشفوي للنكبة الفلسطينية، تاريخ 27/7/2008.
- اليحيى، محمود يحيى، الطنطورة قرية دمرها الإحتلال الإسرائيلي، ص 17.
- المصري، محمد العائد، مقابلة شفوية، الطنطورة، موقع فلسطين في الذاكرة، ضمن مشروع تدوين التاريخ الشفوي للنكبة الفلسطينية، تاريخ 24/5/2010.
- اليحيى، محمود يحيى، المرجع السابق، ص16.
- سلّام، نايف طه، مقابلة شفوية، الطنطورة، موقع فلسطين في الذاكرة، ضمن مشروع تدوين التاريخ الشفوي للنكبة الفلسطينية، تاريخ 25/5/2010.
- المقابلة السابقة.
- المقابلة السابقة.
- المقابلة السابقة.
- اليحيى، محمود يحيى، الطنطورة قرية دمرها الإحتلال الإسرائيلي، ص 18.
- سلّام، نايف طه، المقابلة السابقة.
- المقابلة السابقة.
- أبو شكر، داوود، المقابلة السابقة.
- أبو شكر، داوود، المقابلة السابقة.
- سلّام، نايف طه، المقابلة السابقة.
- المصري، محمد العائد، المقابلة السابقة.
- المصري، محمد العائد، المقابلة السابقة.
- نقلا عن مقالة منشورة على موقع “المدينة”، بعنوان: آل السمرة (آل قنديل)/ الطنطورة – حيفا، تاريخ 10/10/2009.
- راجع مقابلتَيّ كلا من: محمد العائد المصري، ومحمد عادل العموري السابقتين.
- سلّام، نايف طه، مقابلة شفوية، الطنطورة، موقع فلسطين في الذاكرة، ضمن مشروع تدوين التاريخ الشفوي للنكبة الفلسطينية، تاريخ 25/5/2010.
- اليحيى، محمود يحيى، الطنطورة قرية دمرها الاحتلال الإسرائيلي، دار الشجرة للنشر والتوزيع، دمشق، 1998، ص 134.
- كان موسم صيد السردين يستمر ثلاثة أشهر في الطنطورة منذ نيسان/ أبريل وحتى نهاية شهر حزيران/ يونيو. راجع سلام، نايف طه، المقابلة السابقة. وباقي المقابلات عن قرية الطنطورة على موقع فلسطين في الذاكرة.
- من لقاء مع الباحث والنائب سامي أبو شحادة، ابن مدينة يافا، أجراه الكاتب في تاريخ 11/11/2020. كما أشار أبو شحادة إلى تناول صحيفة الدفاع الفلسطينية لهذه القضية في أحد أعدادها في عشرينيات القرن العشرين.
- سلّام، نايف طه، المقابلة السابقة.
- عن ذلك، راجع: حبيب الله، علي، فلسطين محفوفة ببحرها – ملامح من تاريخ التوتر مع البحر، مقالة منشورة في مجلة “رمان” الثقافية، تاريخ 2/12/2020.
- سلّام، نايف طه، المقابلة السابقة.
- المصري، محمد العائد، مقابلة شفوية، الطنطورة، موقع فلسطين في الذاكرة، ضمن مشروع تدوين التاريخ الشفوي للنكبة الفلسطينية، تاريخ 24/5/2010.
- أبو شكر، عبد الجبار، مقابلة شفوية، الطنطورة، موقع فلسطين في الذاكرة، ضمن مشروع تدوين التاريخ الشفوي للنكبة الفلسطينية، تاريخ 16/3/2007.
- سلّام، نايف طه، المقابلة السابقة.
- أبو شكر، داوود، مقابلة شفوية، الطنطورة، موقع فلسطين في الذاكرة، ضمن مشروع تدوين التاريخ الشفوي للنكبة الفلسطينية، تاريخ 27/7/2008.
- المصري، محمد العائد، المقابلة السابقة.
- أبو شكر، داوود، المقابلة السابقة.
- تعني طقوس “الميومة” تلك العادات والتقاليد الدينية والاجتماعية التي كان يمارسها سكان الساحل في ماء البحر. عن ذلك، راجع: تماري، سليم، الجبل ضد البحر، مؤسسة الدراسات الفلسطينية.
- وادي الزرقا نسبة لنهر الزرقا، وكان يطلق عليه اسم نهر التمساح. تقوم عليه اليوم قرية جسر الزرقا الساحلية.
- سلّام، نايف طه، المقابلة السابقة.
- العموري، عادل محمد، مقابلة شفوية، الطنطورة، موقع فلسطين في الذاكرة، ضمن مشروع تدوين التاريخ الشفوي للنكبة الفلسطينية، تاريخ 26/10/2010.
- سلّام، نايف طه، المقابلة السابقة.
- أبو شكر، داوود، المقابلة السابقة.
- ويلسون، سير شارلز، لوحات من القرن التاسع عشر – لبنان – فلسطين – سيناء، ترجمة: محمد شيا، شركة المطبوعات للتوزيع والنشر، بيروت، 1995. ص 110.
- اليحيى، محمود يحيى، الطنطورة قرية دمرها الاحتلال الإسرائيلي، ص 15.
- أبو شكر، داوود، المقابلة السابقة.
- أبو شكر، داوود، المقابلة السابقة.
- أبو شكر، عبد الجبار، مقابلة شفوية، الطنطورة، موقع فلسطين في الذاكرة، ضمن مشروع تدوين التاريخ الشفوي للنكبة الفلسطينية، تاريخ 16/3/2007.
- عن ذلك راجع : تماري، سليم، الجبل ضد البحر، مواطن – المؤسسة الفلسطينية لدراسة الديمقراطية، رام الله، 2005، ص 22-23.
- حبيب الله، علي، نواطير الرمل – ريف الساحل الفلسطيني، مجلة فسحة الثقافية، مادة منشورة في تاريخ 13/12/2020.
- أبو شكر، داوود، مقابلة شفوية، الطنطورة، موقع فلسطين في الذاكرة، ضمن مشروع تدوين التاريخ الشفوي للنكبة الفلسطينية، تاريخ 27/7/2008.
- أبو شكر، عبد الجبار، المقابلة السابقة.
- اليحيى، محمود يحيى، الطنطورة قرية دمرها الإحتلال الإسرائيلي، دار الشجرة للنشر والتوزيع، دمشق، 1998، ص 18.
- أبو شكر، عبد الجبار، المقابلة السابقة.
- أبو شكر، داوود، المقابلة السابقة. وكذلك مقابلة: أبو شكر، عبد الجبار.
- أبو شكر، داوود، المقابلة السابقة.
- العموري، عادل محمد، مقابلة شفوية، الطنطورة، موقع فلسطين في الذاكرة، ضمن مشروع تدوين التاريخ الشفوي للنكبة الفلسطينية، تاريخ 26/10/2010.
- أبو شكر، داوود، المقابلة السابقة.
- عن ذلك، راجع للكاتب، المادة الأولى من هذا الملف، بعنوان : الطنطورة والبحر… ذاكرة في ذمة الملح.
- سلّام، نايف طه، مقابلة شفوية، الطنطورة، موقع فلسطين في الذاكرة، ضمن مشروع تدوين التاريخ الشفوي للنكبة الفلسطينية، تاريخ 25/5/2010.
- المقابلة السابقة.
- العموري، المقابلة السابقة.
- المقابلة السابقة.
- أبو شكر، داوود، المقابلة السابقة.
- سلّام، المقابلة السابقة.
- المصري، محمد العائد، مقابلة شفوية، الطنطورة، موقع فلسطين في الذاكرة، ضمن مشروع تدوين التاريخ الشفوي للنكبة الفلسطينية، تاريخ 24/5/2010.
- سلّام، المقابلة السابقة.
- أبو شكر، داوود المقابلة السابقة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
* كاتب فلسطيني وباحث في التاريخ الاجتماعي
المصدر: عرب 48
التعليقات مغلقة.