الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

بايدن من “الجافلين” إلى “الهاوتزر”.. رداً على صمود روسيا اقتصادياً

سميح صعب *

روسيا تصمد اقتصادياً وتتعثر ميدانياً. تلك هي المفارقة الكبرى في الحرب الأوكرانية. وكان هذا أحد العوامل الحاسمة التي جعلت القوى الغربية تسارع إلى إحداث نقلة نوعية في إمدادات الأسلحة لكييف والتحول عن “عقيدة الجافلين” إلى مدافع “الهاوتزر”.

قبل الهجوم الروسي على أوكرانيا في 24 شباط/فبراير الماضي، تحدث الرئيس الأميركي جو بايدن كثيراً عن أن العقوبات التي يُجهزها الغرب ضد روسيا، كفيلة بإقناع الرئيس فلاديمير بوتين عن المجازفة باجتياز الحدود. وكان الخوف كله ينحصر من قوة الجيش الروسي، إلى درجة أن الاستخبارات الأميركية توقعت سقوط كييف في غضون 72 ساعة على أبعد تقدير.

مجريات الحرب أثبتت إخفاق هذه التوقعات. فالجيش الروسي غرق في محيط كييف وفي ضواحي تشيرنيهيف وعلى أبواب خاركيف. وحتى هجوم الدونباس، فإنه يسير ببطء شديد، وهذا يثبت إخفاقاً آخر للاستخبارات الغربية.

لكن على الجانب الآخر من الحرب ينقلب المشهد. فقد تمكن الاقتصاد الروسي من الصمود. وها هو الروبل يتجاوز صدمة الموجة غير المسبوقة من العقوبات الغربية، وبعدما تدنى إلى سعر قياسي في مقابل الدولار في الأيام الأولى للحرب، عاد الروبل إلى التعافي ليسجل ارتفاعاً قياسياً للمرة الأولى منذ 2020 ببلوغه 66 روبلاً للدولار.

صمود روسيا اقتصادياً ومالياً، جعل المسؤولين الأميركيين يكررون أن العقوبات المفروضة لن يظهر تأثيرها إلا على المدى البعيد، وزادوا من ضغوطهم على دولتي الصين والهند كي لا تشكلا رافعة تنقذ الاقتصاد الروسي. وإذا بتأثير العقوبات الغربية ينعكس موجة تضخم هائلة لم تعرفها أميركا أو أوروبا منذ عقود. والاحتياط الفيدرالي الأميركي منشغل في كيفية مكافحة التضخم على قدر المساواة من انشغال بايدن في فرض المزيد من العقوبات على روسيا وإرسال المزيد من الأسلحة إلى أوكرانيا، على نحوٍ بدأ مسؤولون ووسائل إعلام يحذرون من عواقب نفاد المخزونات الأميركية من السلاح. وكانت أولى الضحايا صفقات السلاح الموعودة لتايوان وحلفاء آخرين.

وزاد الضغط الأميركي على المستشار الألماني أولاف شولتس كي يبتلع كبرياءه ويتجاوز الإهانات المتكررة التي يوجهها له وللرئيس فرانك-فالتر شتاينماير، الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، وأن يعمد إلى إرسال مدفعية ثقيلة ودبابات على وجه السرعة إلى كييف.

ليس هذا فحسب. أزال الضغط الأميركي التحفظات الألمانية على فرض حظر كامل على استيراد النفط والغاز من روسيا، برغم تحذيرات البنك المركزي الألماني من ركود اقتصادي عميق في حال إتخاذ مثل هذه الخطوة. ومع ذلك وافق شولتس على تقصير المرحلة الانتقالية للاستغناء عن الطاقة الروسية من ثلاث سنوات إلى ستة أشهر. وحصل بذلك على “مكافأة” من زيلينسكي، الذي وافق على توجيه دعوة له ولشتاينماير لزيارة كييف.

وليست ألمانيا هي التي تعوق الآن إصدار الحزمة السادسة من العقوبات الأوروبية، وإنما اعتراضات صدرت عن المجر بشكل أساسي ومن سلوفاكيا وبلغاريا، بسبب اعتماد الدول الثلاث بالكامل على الطاقة الروسية، في غياب بدائل أوروبية أو أميركية مثل تلك التي وُعدت بها برلين، في حال التخلي عن الواردات الروسية.

وحتى في حال تمكن الإتحاد الأوروبي من تجاوز آخر العقبات التي تعترض الحزمة الجديدة من العقوبات، فإن اقتصادات الدول الأعضاء ستمر باختبار اقتصادي قاسٍ سيزيد من موجة التضخم، كنيتجة طبيعية للتكاليف التي ستتكبدها هذه الدول جراء الدخول في مرحلة الإنفطام عن الطاقة الروسية.

وأمام المفعول البطيء للحرب الاقتصادية الغربية على روسيا، عمدت إدارة بايدن إلى إحداث فارق في الميدان عبر تزويد كييف بالأسلحة الثقيلة التي طلبها زيلينسكي للانتقال من الدفاع إلى الهجوم. ولا يمكن فصل انخراط إسرائيل مؤخراً في تسليح أوكرانيا بعد “حياد” زعمته في الأسابيع الأولى للحرب، عن الحشد الأميركي الدولي لتزويد كييف بأسلحة لا تقتصر على الطابع الدفاعي.

ولعل ما كشفته صحيفة “النيويورك تايمز” عن الدور الذي لعبته الاستخبارات الأميركية في تزويد أوكرانيا بمعلومات استخباراتية مكّنت الجيش الأوكراني من قتل نحو 12 جنرالاً روسياً ومن إغراق الطراد “موسكفا”، إلا عينة عن إزدياد التدخل الأميركي في الحرب.

الاندفاع بوتيرة متسارعة نحو زيادة النشاط الأميركي في الحرب بدأ يثير مخاوف حتى داخل أميركا من إحتمالات ان يقود ذلك إلى توسيع الحرب والوصول إلى نقطة الصدام المباشر بين أقوى دولتين نوويتين في العالم.

وفي هذا السياق، نقلت مجلة “فورين بوليسي” الأميركية عن كبير محللي الشؤون الروسية في وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية “سي آي إي” السابق جورج بيبي، أن إدارة بايدن ربما تكون قد تناست أن “المصلحة الأكثر أهمية للولايات المتحدة هي في تفادي نزاع نووي مع روسيا”. وأضاف “أن الروس لديهم القدرة على جعل الجميع يشعرون بالخسارة في حال فرضت الخسارة عليهم. وربما هذا هو الاتجاه الذي تسير نحوه الأمور. إنها زاوية خطيرة تصعب العودة منها”، وأردف: ”سنكون في حاجة إلى وسيلة لننقل بحذر إلى الروس بأننا سنكون راغبين في تخفيف العقوبات في سياق تسوية دولية. إن المساعدة العسكرية لأوكرانيا يمكن أن تستخدم كرافعة”.

ورأى المسؤول الأميركي السابق “تشارلز كوبتشان” الذي يعمل حالياً خبيراً في العلاقات الدولية بجامعة جورجتاون إن الأمور “تزداد خطورة.. نحتاج إلى تحرك يتجاوز صواريخ جافلين والتحدث عن مخرج سياسي”.

وذكّر المعلق في موقع “بلومبرغ” الأميركي هال مارك، بأن العامل الأساسي الذي دفع اليابانيين إلى توجيه ضربة بيرل هاربر، كان الحظر النفطي الشامل الذي فرضته الولايات المتحدة على طوكيو. واستشهد بالمسؤول العسكري الياباني هايدي توجو لجهة قوله عندما ضاق الخناق على اليابان، إنه في بعض الأحيان “يتعين على المرء أن يستجمع ما يكفي من الشجاعة، وأن يغمض عينيه، وأن يقفز”.

وحذر المعلق الأميركي في “النيويورك تايمز” توماس فريدمان قبل أيام المسؤولين في إدارة بايدن من إطلاق التصريحات التي تفيد بان هدف المساعدة الغربية لأوكرانيا، هو “إنهاك روسيا” نفسها بحيث لا تعود قادرة على شن غزوات على جيرانها، عوض التركيز على إفشال الهجوم الروسي في أوكرانيا.

وإذا وصلت الأمور في أوكرانيا إلى حد وضع بوتين أمام خياري الاستسلام أو توسيع الحرب، فإنه سيختار الثاني على الأرجح، وبالتالي إلى أي مدى يمكن أن تذهب إدارة بادين في التصعيد وإقفال المخارج السياسية؟ هذا أيضاً نوع من الرقص على حافة الهاوية، لكنها هذه المرة قد تكون هاوية يسقط فيها التاريخ البشري بأسره.

* كاتب وصحافي لبناني

المصدر: 180 بوست

التعليقات مغلقة.