عصمت منصور *
جاءت نتائج ثلاثة تحقيقات منفصلة وغير متزامنة، أجرتها كل من شبكة CNN الأميركية الذائعة الصيت، ووكالة الانباء الدولية أسوشيتد برس، بالإضافة إلى التحقيق الذي أجرته النيابة العامة الفلسطينية وأعلن عنه في مؤتمر صحافي عقب تسليم نسخة من نتائجه إلى الرئيس الفلسطيني محمود عباس (أبو مازن) مساء الخميس 26 أيار 2022، لتؤكد أن مقتل الصحافية في قناة “الجزيرة” شيرين أبو عاقلة، تم برصاصة إسرائيلية أطلقها قناص من جيش الاحتلال الإسرائيلي “بشكل موجه ومقصود”.
وكالة أسوشيتد برس قالت إن تحقيقها الذي أجرته خلص إلى “أن الرصاصة التي قتلت الصحافية شيرين أبو عاقلة خرجت من بندقية إسرائيلية”، مستندة بذلك إلى “تأكيدات السلطة الفلسطينية وشهود العيان”، وأن لديها معطيات تؤكد “مسؤولية قوات الاحتلال عن الجريمة”، كما ذكرت الوكالة عينها أن “مقابلاتها مع خمسة شهود عيان جاءت بنتائج تتوافق مع ما توصلت إليه مجموعة (Bellingcat)، وهي مجموعة للصحافة الاستقصائية مقرها هولندا، بشأن موقع القوات الإسرائيلية وقربها من شيرين أبو عاقلة، الأمر الذي يؤكد أن استهداف جنود الاحتلال لها هو الاحتمال المرجح”.
النقطة الأخرى التي تعزز فرضية مقتل شيرين أبو عاقلة بواسطة النيران الإسرائيلية، هي تأكيد التحقيق على أن “الوجود الوحيد المؤكد لمسلحين فلسطينيين كان على الجانب الآخر من القوات الإسرائيلية، وعلى بعد نحو 300 متر، وتفصلهم عن شيرين مبانٍ وجدران”.
بدورها خلصت شبكة CNN الأميركية في تحقيقها إلى أن أبو عاقلة “استُهدفت من قبل قوات الجيش الإسرائيلي”. وتعود هذه الشبكة الأميركية لتؤكد أن التحقيق الذي أجرته “يقدم أدلة جديدة، بما في ذلك مقطع فيديو لمسرح إطلاق النار، ويؤكد أنه لم يكن هناك أي مسلحين فلسطينيين قرب أبو عاقلة في اللحظات التي سبقت وفاتها، ولم يقع أي تبادل لإطلاق النار”، وهي قضية حاسمة في نفي الرواية الإسرائيلية التي وضعت احتمالين وإمكانيتين لتفسير سبب استشهاد أبو عاقلة، وهذا بعد مشاهدة مقاطع الفيديو (مجموعها 11 مقطع فيديو) التي حصلت عليها الشبكة والمدعومة بشهادة ثمانية شهود عيان ومحلل صوتي وخبير أسلحة متفجرة.
أما التحقيقات التي أجرتها النيابة العامة الفلسطينية، وأعلن عن نتائجها النائب العام أكرم الخطيب في مؤتمره الصحافي المذكور، فقد جزمت “بأن أحد عناصر القوات الإسرائيلية أطلق عيارا ناريا أصاب شيرين، بشكل مباشر في الرأس، في أثناء محاولتها الهرب، ما أدى إلى تهتك الدماغ جراء الإصابة بالمقذوف الناري، وهو مقذوف من عيار 5.56 ملم، وله علامة وخصائص تطابق سلاح “ميني فورتي روجر”، وهو سلاح نصف ناري قناص” موضحا “أن مصدر إطلاق النار بشكل مباشر هو من الناحية الجنوبية، مكان تمركز القوات الإسرائيلية وفي نقطة ثابتة”، لافتا إلى أنه “لم تكن هناك أي مواجهات مسلحة أو اشتباكات في مكان الحدث”.
إن تطابق نتائج التحقيقات الثلاثة لا يدع مجالا للشك في أن الشهيدة شيرين أبو عاقلة قتلت برصاصة إسرائيلية، وهو ما يستدعي اعترافا إسرائيليا بالجريمة، وإبداء الاستعداد للتعاون مع المنظومات القضائية المحلية والدولية من أجل الوصول إلى القاتل والجهات المسؤولة عنه، وفتح المجال واسعا وتذليل العقبات أمام العدالة لتأخذ مجراها في المحاسبة.
تضليل .. إنكار.. تشكيك!
كشف المحلل العسكري في جريدة “هآرتس”، عاموس هرئيل، في التاسع عشر من أيار 2022، أنه على الرغم من كل الدعوات التي تطلقها اسرائيل لإجراء تحقيق مشترك، أو لقيام السلطة الفلسطينية بتسليم الطلقة التي استقرت في رأس الصحافية وأدت إلى مقتلها إلى اسرائيل للتأكد من مصدرها ومطابقتها مع نوع السلاح الذي أطلقت منه، فإن الجيش الاسرائيلي لن يفتح تحقيقا داخليا في قضية استشهاد أبو عاقلة، موضحا أن السبب وراء ذلك يكمن في “عدم وجود شبهة جنائية” تستدعي التحقيق، وأورد هرئيل سببا آخر هو الخشية من أن “يؤدي التحقيق مع الجنود إلى إثارة انتقادات ونشوب خلافات داخل الجيش والمجتمع الإسرائيلي”.
جاء هذا الكشف بعد أقل من عشرة أيام على مقتل شيرين، وقبل بضعة أيام من الكشف عن تحقيقات وكالة أسوشيتد برس وشبكة CNN الأميركية، وإعلان نتائج التحقيق الذي أجراه النائب العام الفلسطيني، لتنهي مرحلة التضليل ومحاولات التعمية وكسب الوقت، التي انتهجتها اسرائيل من خلال الإصرار على الاشتراك في التحقيق واعتباره المدخل الوحيد لحسم مصدر إطلاق النار، والترويج لرواية مفادها أن اشتباكا وقع في مكان الجريمة.
ما بعد إعلان نتائج التحقيقات الثلاثة بدأت عمليات الإنكار والتشكيك، ومحاولات الطعن إما في الجهة التي أجرت التحقيق، أو في الوثائق والشهادات والأدوات التي استخدمتها للوصول إلى ما وصلت إليه.
جاء رد الفعل الاسرائيلي الأولي على لسان رئيس الدولة الإسرائيلية إسحق هرتسوغ الذي اعتبر في كلمته التي ألقاها في مؤتمر دافوس في 25/5/2022 “أنها نتائج كاذبة” داعيا إلى عدم البناء على “حقائق كاذبة”.
ما بدأ به رئيس الدولة، استكملته وسائل الاعلام الإسرائيلية المختلفة، وتبعه رئيس هيئة الأركان أفيف كوخافي، ووزير الدفاع بيني غانتس، والناطق باسم جيش الاحتلال، في بيانات وتصريحات نشرت تباعا بعد تحقيق شبكة CNN ومؤتمر النائب العام الفلسطيني الصحافي، حيث اعتبر الناطق باسم الجيش في بيان له نقله موقع “واينت” في 25 أيار أن التحقيق الذي أجرته شبكة CNN “لا أساس له من الصحة”، ودعا، أسوة برئيس الدولة “السلطة الفلسطينية إلى تسليم الطلقة وإجراء تحقيق مشترك”، مدعيا أنه لا توجد إمكانية للوصول إلى نتائج حاسمة حول مصدر إطلاق النار من دون استكمال التحقيق وبمشاركة الطرف الإسرائيلي.
موقع “واينت” التابع لصحيفة “يديعوت أحرونوت”، نقل أيضا عن الناطق باسم الجيش السياق الذي قتلت فيه الصحافية، وهو سياق تكرر لدى رئيس الأركان ووزير الدفاع ورئيس الدولة، وهو لا يهدف إلى الاستعطاف، وتبرير اجتياح المخيم بشكل متكرر، بل يرمي فوق ذلك إلى تعويم الجريمة وتعزيز الشكوك حول النتائج التي خلصت إليها الجهات التي أجرت تحقيقات منفصلة حولها.
واللافت أنه في كل الروايات والتقارير هناك إصرار على الحديث عن ” مقتل 11 مواطنا إسرائيليا في سلسلة عمليات وقعت في الأسابيع الأخيرة، وكان مصدرها مسلحون فلسطينيون من منطقة جنين” وفق ما نشره “واينت” وعادت وكررته سائر المواقع الإسرائيلية. وهذا الإصرار على الربط بين مقتل الصحافية والعمليات التي وقعت قبلها بأسابيع، كما الحديث عن اشتباكات دارت في المكان ووجود مسلحين فلسطينيين، إنما يراد له أن يحول الجريمة إلى حادث عرضي (في أسوأ الحالات) في حال اضطرت إسرائيل لسبب أو لآخر، إلى الإقرار أو التسليم بأن القتل تم على يد أحد جنودها، وجعل عملية القتل بمثابة حدث مأساوي يتوازى مع أحداث أخرى عاشتها اسرائيل، ولا ذنب لها فيها سوى أنها (تضطر) للقتل لمنع عمليات مستقبلية.
موقع “واينت”، وعلى الرغم من أنه لم ينفرد في نشر بيان الناطق باسم الجيش، إلا أنه ذهب أبعد من ذلك من خلال عدم الاكتفاء بالتشكيك بالمصادر التي استندت إليها التحقيقات، وخاصة شهادة الصحافية شذا حنايشة، زميلة شيرين أبو عاقلة ومرافقتها في المهمة والتي كانت إلى جوارها عندما تم استهدافها، من خلال تشديد “مصادر اسرائيلية” على أنها “تمارس دورا تحريضيا، وبشكل متكرر عبر حساباتها الشخصية” على وسائل التواصل الاجتماعي.
نشر الموقع لمنشور مترجم باللغتين الإنكليزية والعربية للصحافية شذا وإرفاقه في تقريرها حول تحقيق شبكة CNN والتشديد على أنها تسكن في مخيم جنين، يهدف إلى الطعن في شهادتها ومصداقيتها واعتبارها مصدرا غير محايد ولا يمكن الوثوق فيه.
لم يعتمد مسلسل التشكيك في التحقيقات فقط على الطعن في الشهادات والمصادر، بل ألمح، كما فعلت صحيفة “معاريف” في التاريخ ذاته، إلى أن هناك جوانب لم يتم التحقق منها واعتراها النقص، من خلال الإشارة إلى وجود المسلحين ونشر صورة رئيسية لمسلح فلسطيني وهو يطلق النار.
والصحيفة لم تنشر تفاصيل الصورة ومكانها الدقيق، كما أن “واينت” لم يشر إلى تاريخ منشور شذا “التحريضي” أو مناسبة نشره.
المواقع الأكثر يمينية مثل صحيفة “يسرائيل هيوم” ومواقع أخرى لم تتطرق إلى نتائج التحقيق في عنوانها الرئيسي، بل اكتفت بنفي الجيش كعنوان، واجترار الفرضية الأساسية بصيغ مختلفة وفحواها “أن الجيش لا ينفي إمكانية أن تكون شيرين أبو عاقلة قد قتلت برصاص أحد جنوده (بالخطأ)، إلا أن التأكُّد من هذه الفرضية يحتاج إلى تعاون من الطرف الفلسطيني”.
حماية الجنود أم السردية؟
يحيلنا تقرير هرئيل في “هآرتس” حول عدم نية الجيش في إسرائيل التحقيق في قضية مقتل الصحافية شيرين أبو عاقلة، إلى فرضيتين هما “الخشية من المجتمع، والخلافات داخل الجيش” عند مشاهدة الجنود وهم يساقون إلى التحقيق بسبب “أحداث تقع نتيجة أوامر إطلاق نار، ومهمات كلفهم بها قادتهم في ساحات قتال معقدة”، وهو ما سيعيد إلى الأذهان الجدل الكبير في الإعلام وبين السياسيين وقادة الجيش في أعقاب محاكمة الجندي إليئور أزاريا، الذي وثقت كاميرات الفيديو قيامه بقتل جريح فلسطيني ملقى أرضاً وبدون حراك، بعد أن تم اعتقاله ولم يكن يشكل أي خطر (عبد الفتاح الشريف) في مدينة الخليل، وهو ما بات يعرف “بقضية أزاريا” والتي بات الجنود يتذرعون بها ويعتبرونها سببا في تراجع روحهم القتالية وخشيتهم من المحاكمة، واتخذها قادة اليمين والمستوطنون أداة لمهاجمة الحكومة وعدم إطلاق يد الجنود، وهي قضية تعاد إثارتها كل مرة من جديد كما حدث عند مقتل القناص الإسرائيلي على الحدود مع غزة العام الماضي، حيث اتهمت عائلته الجيش وقادته بتكبيل أيدي الجنود في مواجهة المقاتلين الفلسطينيين .
يغفل تحليل هرئيل الشق الآخر من المعادلة، وهو تحوّل قضية اغتيال الصحافية شيرين أبو عاقلة إلى قضية دولية، حازت على اهتمام دولي غير مسبوق ونالت تغطية عالمية نادرة، وتجمعت فيها كل العناصر التي تجعل الرواية الحقيقية تتفوق وتظهر بشكل أقوى وأكثر مصداقية من رواية الجيش ودولة إسرائيل التي لا تستطيع أن تتهمها بالتطرف أو ممارسة التحريض، بسبب عراقة تاريخها في العمل الصحافي وسمعتها الدولية ووسيلة الإعلام التي تعمل بها ومهنيتها، كما أن وجودها هناك يعد من صلب عملها ووظيفتها كصحافية تنقل الأحداث من مكان وقوعها، وكذلك اتخاذها تدابير السلامة والأمان المعروفة مثل ارتداء السترة الواقية المميزة للصحافيين بلونها الأزرق وعليها علامة الصحافة، والخوذة الواقية، وكذلك حملها للجنسية الأميركية وديانتها وكونها من مدينة القدس، وهي عوامل ساعدت في انتشار قضية شيرين عالميا وسحب كل الذرائع التي كانت إسرائيل تبرر فيها جرائمها، وجعلت روايتها مهددة بالسقوط.
هذه العوامل إلى جانب مأساوية الجريمة والصور التي صدمت العالم لمشهد الصحافية وهي منكفئة على وجهها بزيها الصحافي والكاميرا ملقاة على الأرض تحت زخات الرصاص، حول قضية مقتلها على مدخل مخيم غفير ومحاصر للاجئين، إلى رواية تعزز السردية والمظلومية الفلسطينية في مواجهة الرواية والسردية الإسرائيلية، التي ظهرت بشكل القوة الغاشمة التي لا تميز بين الصحافي والمقاتل، ولا تتورع عن قتل المدنيين.
تحول جريمة الاغتيال (وفق ما خلصت اليه التحقيقات المذكورة) إلى رواية، وسردية، يصعب على دولة إسرائيل التسليم بها، ويزيد من الخشية بأن التسليم بها سيعني التسليم بانهيار مصداقيتهم أمام حلفائهم والرأي العام الدولي، وبالتالي انهيار روايتهم على المدى البعيد.
لعل ذلك هو ما يفسر كل هذا الإصرار على رفض نتائج التحقيقات التي أجريت بشفافية ومن جهات تتمتع بمصداقية عالمية وغير معروفة بتحيزها للفلسطينيين، وكذلك الإصرار على وضع كل القضية في سياق “الحرب على الإرهاب والدفاع عن النفس” والأهم من ذلك تكرار المطلب بالاشتراك في التحقيق على اعتبار أن هذه الجزئية هي وحدها القادرة على إخراج إسرائيل كدولة وجيشها كمنظومة من دائرة الاتهام وتقزيم القضية على أنها حدث عرضي قد يكون ناتجا عن خطأ بشري لجندي فرد، اقترفه في ظرف صعب وبدون قصد.
تجمعت عوامل كثيرة في هذه الجريمة كي تتحول إلى التحدي الأصعب أمام إسرائيل ومنظومتها الأمنية والقضائية، وهذا ربما يفسر حجم التخبط وتعدد الروايات في بداية القضية، وانعدام الصوت النقدي والدور الجدي للصحافة الإسرائيلية في التقصي والبحث عن أجوبة بعيداً عن الروايات الرسمية.
* باحث فلسطيني
المصدر: مركز مدار
التعليقات مغلقة.