الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

إسلام في فضاء جديد

نور الدين ثنيو *

الإسلام رسالة لكل الناس، تخاطب كل إنسان، ليست قاصرة على مجتمع دون سائر المجتمعات، كما أنها تعني الإنسان بما هو قدرة روحية ونفسية وعقلية وجسدية لا تكف إطلاقا عن التطور والازدهار. واليوم، في اللحظة التي توفرها العولمة يجب أن ننتبه إلى وضعية جديدة على المجتمعات، ليست ذات الأغلبية المسلمة فحسب، بل كل المجتمعات في العالم، خاصة التي كانت إمبراطوريات استعمارية، ونقصد مدنها العملاقة التي صارت فضاءات إنسانية وعالمية، توفر حوافز وأفكارا وتطلعات إلى جميع الناس والمواطنين، ومنها المَضَارب الروحية والمؤسسات الدينية والأخلاقية.

وجدلية الدين والإنسان قائمة على تفاعل حيوي يتغذى من إمكانات وجود كل منهما في صلة تضبط التطور والتقدم، بالقدر الذي يزيد من قيمة كل واحد منهما. وفي حالة تعطل الإنسان يتعطل الدين ذاته، وينتقل التفاعل الجدلي والبيني إلى فضاءات عمرانية أخرى على ما شهدته الحواضر الإسلامية ومدنها طوال قرون وفي مختلف الأمصار.

إسلام يبحث عن فضاء جديد، والدخول في علاقة إنسانية نوعية صارت تتيحها المدن ذات الأبعاد العالمية، حيث تعكس واقعة «كل الناس» جوهر وماهية رسالة الإسلام. ولعلّ تجربة كاهنة بهلول التي اقتحمت منصب «إمامة» مسجد في باريس، تندرج في عملية التواصل والتفاعل بين رسالة الإسلام والبحث عن معناه في آخر مستويات التاريخ والإنسان بما هو ليس رجلا فحسب، بل امرأة أيضا حيث يسود مصطلح « الإنسان» في القرآن الكريم ليشير إلى مثنى الإنس، الكفيل بإظهار الإنسان الكل، أو الإنسان الكامل الذي يعي قدراته واعتباراته المعنوية والمادية ويفصح عنها بالقول والعمل. تعد تجربة امتلاك فضاء روحي لممارسة العبادات والتوجه بالنفع والخير إلى الناس أو المواطنين الجدد، كأفضل سبيل إلى التوجه بالشكر والثناء إلى الله، على ما يفعل الرياضيون، عندما يسترجعون آخر ما في النفس، ويستثمرون آخر ما في جعبتهم من أجل الظفر بالمقابلة وتحطيم الرقم القياسي.. وهذا مجال جديد يُذكر فيه اسم الله بكل لغات العالم وتُرفع أكف الدّعاء وتُوَجَّه الوجوه إلى السماء في لحظة عبادة سارة وحارة. والواقع، أنه لو تم تركيز الوعي والضمير والعقل على ما يجري في عالمنا المعاصر من أفكار وأعمال، وفي اللغات المتداولة، لكنا حقا بصدد رسالة جديدة لإسلام معاصر، يأخذ معناه من وجود وضعية «الناس كافة» ويخاطب الإنسان في كليته، يساهم بقوة جديدة في تخطي كل المذهبيات والممارسات، التي تعود إلى ما قبل الدولة الحديثة ومؤسساتها العمومية، وما قبل الوعي الكوني بالإنسانية الجديدة. تجربة الفرنسية كاهنة بهلول ذات الأصول الجزائرية تجربة فريدة، بمعنى أنها امتلكت القوة الذاتية لكي تفصح عن إسلامها، كما وجّهته إليها الحياة الأوروبية العامة في آخر إنجازاتها المدنية والمؤسساتية والمعرفية. فما هو غير ممكن في الجزائر، يمكن تحقيقه في فرنسا، فكاهنة بهلول إمامة مسجد «فاطمة» في العاصمة الفرنسية تؤم المؤمنين رجالا ونساء، وفق النمط الذي اجتهدت فيه وخلصت إليه من وحي الدراسة والتفكير والمعاملة. فقد درست تجربة المتصوف الكبير محيي الدين بن العربي، وفكرت في الدين الإسلامي كصلة حصرية بين الخالق وعبده، وتعاملت مع قوانين الجمهورية والناس جميعا، ثم راحت إلى فتح فضاء جديد في قلب العاصمة الفرنسيةن من أجل أن تحقق إمكانية وفرصة ومجالا في لحظة لما بعد تصفية الاستعمار. السعي إلى امتلاك فضاء روحي وأخلاقي لراحة الوعي والضمير تستحق أكثر من تنويه، لأنها ترمي في العمق إلى إدغام الديني في دنيا العالم الجديد. فالدين على إطلاقه، وليس في نزعته الوطنية أو في تياره المذهبي هو الذي يعبر ويفصح عن جوهر رسالة الإسلام كآخر الديانات، التي نزلت إلى العالمين وليس لطائفة أو قومية، كما جرى احتكاره طوال قرون من التقدم الحضاري والتراجع الفكري. فقد دلت تجربة الدين الإسلامي على إمكانية التعدد والتنوع والاختلاف الرحيم.

اليوم برز فضاء عالمي وإنساني يتوافق مع الحياة الروحية التي يرجوها ويتوق إليها كل واحد منّا. وخاصية الإسلام كدين للناس جميعا هي الوجود والتعايش في المجال العام والعالمي على ما يمكن أن توفره المدن والمؤسسات الديمقراطية في الغرب، وبعض البلاد الصاعدة، كما فعلت كاهنة بهلول في فرنسا مُستعمِر الأمس. وخلاف ذلك نجد في الجزائر، عودة إلى نظم الزوايا والطرق والخِرَق التي رافقت الاستعمار في أبغض وجوهه ومظاهره الفاسدة. عندما يجد الإسلام كرسالة للعالمين فضاءه الإنساني والمكاني في حياتنا اليوم، تنتفي الصراعات الطائفية والنزاعات الأصولية وظواهر التزمت المذهبي، وتنتفي من ثم إشكالية الديني والسياسي أو الدنيوي، لأن الممارسة والمعايشة الدينية قائمة على روح عالمية وإنسانية وليست طائفية وقومية على ما عليه الوضع اليوم، بسبب توظيف الديني في الأغراض السياسية، على نحو ما هو جار في الجزائر التي لم تجد فيها إمكانية لتدشين فضاء للعبادة لكل العباد، لا يسألون عن خلفياتهم وانتماءاتهم ولا أصولهم وتوجهاتهم، تمارس فيه المرأة كما يمارس فيه الرجل حرية العبادة والتواصل مع الله كما يرى ويتصور، لأنه مخاطب في الأصل والغاية من قبل سبحانه وتعالى وليس من بشر يحتكر المسجد ويتصرف فيه ويُصْرِفه عن أغراضه وروحانيته وقدسيته الأصلية والغائية. وهذا ما سبق وعبّرنا عنه بهزيمة الدين في مقالات سابقة، من شدّة توظيف فج وفظيع لرسالة الإسلام في منافع طائفية وأغراض سياسية ضحلة ومناح نفعية مثل «الحسنات الجارية» وصكوك العمران والغفران. ولعلّ المثال الذي يُقَدم في هذا الصدد هو «جامع الجزائر» أعظم صرح في تاريخ الجزائر على الإطلاق، الذي كان يمكن أن يساهم فعلا في تحقيق عالمية الدين لو جرى إنجازه في بلد ديمقراطي متسامح مع مواطنيه ومع الآخرين، وفق ما جاء في القرآن الكريم. لكن النزعة السلطوية وهياكل الاستحواذ والاستئثار هي التي حرَّفت الغرض من هذا الإنجاز وحوّلته، في مفارقة تاريخية رهيبة، إلى أضرحة ومراقد طرقية يقوم عليها من يمتلكون الشفاعة الجاهزة والخطاب المخاتل، رصيده الوحيد أنَّه مكن الاستعمار بالأمس من تثبيت نظامه الظالم في الجزائر. ناهيك من أن الصرح العظيم لا ينطوي على أي عظمة وطنية، لا من بداية الفكرة ولا في آخر عمله وإنجازه، سِوى صرف أموال طائلة من حياة شعب يتَضَوَّر المعاناة والمحن، لا يصل أبدا إلى ما يجاري ويعايش رسالة الإسلام كجوهر وليس أدعية شيوخ وتَرَف أئمة وحركات سلفية ونِزَاعات مذهبية، أفرزها الاستبداد السياسي والتكلس الفكري والممارسة الطائفية البغيضة ربيبة قرون التخلف والتراجع التاريخي.

* كاتب وأكاديمي جزائري

المصدر: القدس العربي

التعليقات مغلقة.