د. أحمد سالم سالم *
إذا كان شهر أيار/ مايو دائماً ما يجذب الاهتمام بذكرى النكبة الفلسطينية عام 1948 ففيه ذكرى أخرى تسبقها بنحو أربعين عاماً، مدعاة مثلها لإثارة الشجن والأسباب المباشرة لحدوثها، ألا وهي ذكرى معاهدة سايكس بيكو المبرمة عام 1916، والتي لاتزال تلقي بظلالها على المشهد الشرق أوسطي برمته.
لم تقتصر معاهدة سايكس بيكو كما شاع من اسمها، على القطبين الاستعماريين الأكبر آنذاك في أوروبا، بريطانيا وفرنسا، بل كانت من أواخر الاتفاقيات السرية التي صدقت عليها روسيا القيصرية وأهمها. ونستطيع القول إنها من أخطر الاتفاقيات السرية في التاريخ الحديث، إن لم تكن أخطرها فهي تُعد المخطط الوحيد الذي نُفذ بنجاح على الأرض ضمن عشرات المخططات الأوروبية التي أحيكت في الخفاء على مدى قرون لإسقاط آخر كيان سياسي جامع للأمة والأرض، الدولة العثمانية الضاربة بجذور هذه الأمة في قارات العالم القديم الثلاث، واجتثاث هذه الجذور واقتسام ثمارها اليانعة، لكن أُحبطت كل تلك المخططات بشكل أو بآخر. هذا بغض النظر عن التنافس والتضاد التاريخي بين قوى الغرب والروس على شتى الأصعدة، لكنهم اجتمعوا هنا على موروث من العداء والصراع بينهم وبين العثمانيين كممثل أخير لأمة الإسلام.
الاتفاقية والثورة البلشفية:
كان من الممكن لهذه الاتفاقية أن تظل طي الكتمان، لا يعلمها سوى الأطراف الموقعة، لكن تشاء الأقدار أن تُنشر أواخر عام 1917 قبل أن تُطبَّق على الأرض، بعد قيام الثورة البلشفية في روسيا وعلى يد حكومتها الجديدة، ضمن المعاهدات السرية الموقعة في زمن الحرب بين الحلفاء والحكومة القيصرية التي أُطيح بها. والذي يثير الدهشة أنه مع افتضاح أمرها أصرت بريطانيا وفرنسا على إقرار بنودها والتزاماتها مع مرونة بالطبع في تطبيقها وما يتوافق وتطور الأوضاع، وإسقاط خطوطها المرسومة كحدود على الأرض ولو بشكل غير مباشر عن طريق ما سُمي بـ” نظام الانتداب” الذي اُقر في مؤتمر سان ريمو في نيسان/ أبريل 1920 ليتغير فقط مسمى الاحتلال وتبقى ممارساته القمعية التي لاتزال تتجلى حتى الآن في الأراضي الفلسطينية المحتلة بعد أكثر من مئة عام، لكن بصورة أكثر قمعية ووقاحة كنتاج مباشر لمخططات الإنكليزي مارك سايكس ونظيره الفرنسي جورج بيكو.
والأكثر إثارة للدهشة أنه بعد الانهيار الإمبريالي للقوتين الفرنسية والإنكليزية في الشرق الأدنى مع حلول العقدين السادس والسابع من القرن الماضي، أقرت القوى العظمى التي حلت بنفوذها مكانهما ما تركته المعاهدة من آثار على الأرض، وقامت عمليّا بالمحافظة عليها، رغم أنها نتاج خطط ومؤامرات الإمبريالية القديمة التي يُفترض أنها الآن مرفوضة شكلا وموضوعا من جانب عالَم يَدَّعي رفض مبدأ الوصاية على الشعوب. وهذا يؤكد بما لا يدع مجالا للشك أن سياسة أوروبا والعالم الغربي الآن ما هي إلا امتداد للسياسات القديمة ولم تتبدل سوى الأقنعة كتطور طبيعي للشكل “الحضاري” ومفاهيمه ونظرياته. ومن السخرية أن نرى مع الأزمات، التي تحل أحيانا في مناطق النفوذ الإمبريالية القديمة، استدعاء المشهد التاريخي بتدخل إحدى هذه القوى القديمة في الأزمة وكأنها لازالت منتدبة على ذلك الجزء من أراضينا، وما تدخل فرنسا في الأزمة اللبنانية ببعيد، ومن قبلها القوات البريطانية في العراق إبان احتلاله عام 2003.
وقد تزداد دهشتنا إذا علمنا أن خلفيات التفاوض التي قامت عليها هذه الاتفاقية لها عمق ضارب في التاريخ العدائي بين عالمي الشرق الإسلامي والغرب المسيحي، وله صلة بالمؤامرات التي كانت تحاك في أوروبا على مدى ألف عام، وهو ما يمكن أن نستشف منه لماذا يمثل بقاء حدودها على الأرض كل هذا الاهتمام!
كان الطرف الفرنسي في الاتفاقية “جورج بيكو” هو المؤيد الأول لتلك الجماعة المسماة في السياسة الفرنسية بـ”الحزب السوري”؛ وقد أعد زعيم هذا الحزب في مجلس الشيوخ الفرنسي، بيير إيتان فلاندان، تقريراً شكل بيان عمل لهذه الجماعة، جاء فيه أن سوريا وفلسطين تشكلان بلداً واحداً أخذ شكله بفضل فرنسا على مدى قرون، إلى حد أن هذا البلد أصبح يشكل “فرنسا الشرق الأدنى”، لذلك يتحتم على فرنسا أن تواصل مهمتها التاريخية هناك. يقول المؤرخ الغربي “دافيد فرومكين” معلقا: “كانت حجته هذه صدى لماضٍ يعود إلى نحو ألف عام، إلى أيام الصليبيين وإقامة ممالكهم اللاتينية في سوريا وفلسطين”، وهذا ما جعل فلسطين تشكل العقبة في المفاوضات البريطانية الفرنسية. فعلى الجانب الآخر أعلن اللورد “كرزون” أنه يعتبر فلسطين ضمن النظام الاستراتيجي للإمبراطورية البريطانية، وأنه لا يمكن التخلي عن مصر (مشمولة بالحماية) لأنها كانت ضرورية للدفاع عن فلسطين. مع ذلك توصلت المفاوضات إلى حل وسط تخضع معه معظم فلسطين لنوع من الإدارة الدولية.
لكن ماذا عن مستقبل اليهود السياسي فيها، وهم الذين بدأوا حركتهم المكثفة لاستيطانها، حتى بلغوا أعداداً ليست بالقليلة مع المفاوضات الجارية عام 1915؟ ففي حين حاول البريطانيون كسب العرب إلى صفهم أثناء الحرب، خشي سايكس من إمكانية ترجيح القوى اليهودية لكفة الألمان والأتراك، فحاول إقناع بيكو باستمالة اليهود ووعدهم بفلسطين، ما يحتم على الفرنسيين تقديم تنازلات بشأنها، وهو ما كان من الانتداب البريطاني عليها تمهيداً لتسليمها للصهيونية، وهو السبب الأول الذي جعل فرنسا تتنازل عما سمتّه “حقوقها التاريخية” في فلسطين.
ما فعله هنري غورو:
ولنا أن نتساءل: هل لهذا الحق علاقة بما فعله الجنرال الفرنسي والمفوض السامي الأول للانتداب الفرنسي على سوريا، هنري غورو، فور وصوله دمشق في تموز/ يوليو 1920، عندما ذهب مباشرة إلى ضريح صلاح الدين ليخاطبه قائلا: “قم يا صلاح الدين، لقد عدنا، ووجودي هنا يكرس نصر الصليب على الهلال”؟! وما فعله من قبله لورنس “العرب”، العميل الإنكليزي الشهير في الشرق الأوسط، عندما توجه أيضا فور دخوله دمشق في 31 تشرين الأول/ أكتوبر 1918 عقيب احتلالها، إلى ضريح صلاح الدين، ليستولي على إكليل البرونز الذي وضعه هناك القيصر الألماني “ويلهلم” لدى زيارته للمدينة في 1898 تقديراً للقائد المسلم العظيم، ثم يهديه لدى عودته إلى لندن لمتحف الحرب الإمبراطوري مُرفِقا مع إهدائه مذكرة كتب فيها “لأن صلاح الدين لم يعد بحاجة لذلك”؟! ما من قطيعة تاريخية كما يزعمون، بل هو التواصل والالتقاء بين ماض بعيد وماض قريب وحاضر نعيشه اليوم.
يقول المؤرخ الغربي المعاصر “مايكل بروفانس”، بتصرف بسيط: “بقدر لا يقل عن لورنس، كان الجنرال غورو شخصاً ذا أهمية في تاريخ الشرق الأوسط خلال القرن الذي أعقب الحرب العظمى ونهاية الدولة العثمانية. فقد كان إلى جانب أمينه العام “روبير دو كيه”، من المهندسين الاستعماريين الأصليين للبُنى السياسية والقانونية والحكومية التي لا تزال تمارِس تأثيراً مطرداً على الحياة اليومية لملايين الناس. بمعنى آخر، كانا ضمن من أنشآ الصراعات التي لا تزال تؤثر على شعوب هذه المنطقة حتى اليوم”.
* كاتب مصري
المصدر: القدس العربي
التعليقات مغلقة.