توران قشلاقجي *
عادت حركة طالبان إلى السلطة في أفغانستان، التي كانت عبر التاريخ في قلب صراعات القوى القائمة في آسيا الوسطى. وكما الإمبراطوريات القديمة، شنّت القوى العظمى في يومنا الحالي أيضا حملات كبيرة من أجل احتلال أفغانستان. وقد أطلق اسم «اللعبة الكبرى» على مساعي القوى العظمى للاستيلاء على مناطق استراتيجية مثل، آسيا الوسطى وأفغانستان في القرن التاسع عشر.
الشعب الأفغاني، المعروف بقدراته القتالية، جعل من أرضه مقبرة للعديد من الإمبراطوريات، لذلك وُصفت أفغانستان أيضا بـ«مقبرة الإمبراطوريات». وهو المصطلح الذي استخدمه الرئيس الأمريكي جو بايدن، أثناء حديثه عن أسباب الانسحاب من أفغانستان، والظروف الصعبة في المنطقة. وكان الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، قد أشار إلى الجوانب القتالية لدى الشعب الأفغاني، مؤكدا على أن الروس هم أفضل من يعلم ذلك.
أفغانستان، ذاك المكان الذي وصل إليه الإسكندر الأكبر بجيوشه، وعجز عن تحقيق التقدم فيه. عندما وصل الإسكندر الأكبر إلى منطقة باختريا، الواقعة داخل حدود أفغانستان اليوم، لفت انتباهه نضال السكان المحاربين. ويُروى أن الإسكندر الأكبر قال في رسالة إلى والدته الملكة أولمبيا: «أمي؛ أنت أنجبت أسد البلد الذي يخضع لحُكمك ولكن في باختريا جميع الأمهات ينجبن أسوداً». ولهذا السبب، تزوج الإسكندر الأكبر من روكسانا، وهي ابنة أوكسيارتيس، ساتراب باختريا الذي قاومه بشدة. تعتبر أفغانستان أيضا من بين أراضي خراسان القديمة، أحد أهم أحواض الحضارة الإسلامية، ونجحت في تنشئة مئات المفكرين في الماضي، بدءا من الفلسفة وحتى الموسيقى والعلوم الإسلامية، وجميع فروع العلوم مثل الفيزياء والكيمياء والطب والجغرافيا. وعاش في هذه الأراضي، آلاف العلماء، بينهم مولانا جلال الدين الرومي، وفخر الدين الرازي، ومقاتل بن سليمان، وإبراهيم بن طهمان الهروي. كما يقال إن الفيلسوف الشهير أفلاطون ذهب إلى أفغانستان ليتلقى العلم. ومركز العلوم الذي أنشأه الإغريق في مدينة «آي خانم» شمال شرقي أفغانستان، بعد الإسكندر الأكبر، أصبح أيضاً من أهم المدن في آسيا خلال فترة من الزمن. كما احتلت مدن بلخ وهرات وغزنة ومزار شريف وقندهار في أفغانستان مكانها في التاريخ، كواحدة من أهم مراكز الحضارة الإسلامية. ويشار إلى أن قندهار سميت بإسكندرون وإسكندرية نسبة إلى الإسكندر الأكبر. كان الاسم الأصلي للمدينة إسكندر وفي وقت لاحق أزيل منه الحرفان الأول والثاني «إس» وبدأ يُلفظ بـ«قندهار». أولى الأتراك أيضا أهمية كبيرة لأفغانستان عبر التاريخ، وإذا سألتم أي شخص في الأناضول عن نسبه، سيقول إنه يعود إلى خراسان القديمة. ولا يزال هناك عدد كبير من السكان الأتراك في الأراضي الأفغانية. لطالما اعتبر البشتون، الذين يشكلون الغالبية العظمى من أفغانستان، الأتراك جزءاً منهم عبر التاريخ. وأسس محمود الغزنوي، وهو من أصل تركي، الدولة الغزنوية في أفغانستان. وكذلك تأسست سلطنة مغول الهند في أفغانستان. وتتضمن مذكرات بابر (بابر نامه) مؤسس سلطنة مغول الهند، معلومات واسعة عن أفغانستان. ويعد «تاريخ أفغانستان» من أوائل الكتب التي طبعها إبراهيم متفرقة، منشئ أول آلة طباعة في الدولة العثمانية. وكانت لأفغانستان أهمية كبيرة جدا عند السلاطين العثمانيين في حربهم ضد البريطانيين. وعينت الدولة العثمانية العديد من القناصل في أفغانستان، بينهم القنصل شيروانلي أحمد حمدي أفندي، الذي عينه السلطان عبد الحميد الثاني. وحتى حكومة الاتحاد والترقي، كانت تولي أهمية لأفغانستان، وقدمت جميع أشكال الدعم، من أجل توفير التعليم العسكري للشعب الأفغاني. وأدى رؤوف أورباي وجمال باشا دورين مهمين في تدريب الأفغان. أفغانستان هي أيضاً أول دولة تعترف بجمهورية تركيا. وعيّن مصطفى كمال أتاتورك، أول سفراء الجمهورية التركية، في أفغانستان، وهو حامي المدينة المنورة فخر الدين باشا.
كما دعم الشعب الأفغاني العثمانيين في حروب البلقان والحرب العالمية الأولى. رؤوف أورباي، الذي ذهب لتقديم التدريب العسكري للشعب الأفغاني في وزيرستان، خلال أواخر العهد العثماني، اصطحب معه الشاب الأفغاني عبدالرحمن بشاوري إلى تركيا لأنه يشبهه كثيرا. وفي وقت لاحق، شارك بشاوري في تأسيس وكالة الأناضول الرسمية في تركيا. الكاتبان الأفغانيان جمال الدين أفغاني ومحمود ترزي، لهما تأثير كبير في المجتمع التركي. محمود ترزي، الذي درس في الجامعة في إسطنبول، هو أحد أوائل الصحافيين الأفغان، وقام بترجمة كتب العديد من المثقفين العثمانيين إلى اللغة الأفغانية، وأحفاده يعيشون حاليا في تركيا.
كيف وصلت أفغانستان، التي كانت في حالة حرب مع البريطانيين والروس والأمريكيين منذ 150 عاما، إلى هذه الحال؟ لماذا تتعرض دائما لاحتلال القوى الكبرى؟ من هي طالبان وكيف سيطرت على السلطة بهذه السرعة في أفغانستان؟ سنحاول الإجابة على هذه الأسئلة في مقالنا الأسبوع المقبل.
* كاتب تركي
المصدر: القدس العربي
التعليقات مغلقة.