الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

“التاجر السوري” جديد الكاتبة البريطانية «ديانا دارك»

إبراهيم قعدوني *

الكاتبة البريطانية تستحضر أمثلةً من تاريخ سوريا الاقتصادي والاجتماعي لتُبرِز كيف كانت الروابط الاجتماعية والتجارية دائماً بمثابة جامعٍ لمختلف المكونات المجتمعية.

تواصل الكاتبة البريطانية والمؤرّخة المستعرِبة ديانا دارك تدوين حكاية شغفها السوري ووضع القارئ الإنكليزي أمام سياقات وحقائق قلّما يسلّط عليها الضوء في القراءات المركزية الغربية. فبعد كتابها الأول، الذي صدر منذ عامين بعنوان «بيتي في دمشق»، تعودُ دارك إلى القارئ الغربي بكتابٍ جديد في سياق جهدها الدؤوب لإزالة أوجه الالتباس التي تعتري الكثير من تصورات القارئ الغربي حول تاريخ منطقة الشرق الأوسط عموماً، وتاريخ سوريا وراهنها، بصفة خاصة.

يحمل كتاب ديانا دارك الجديد الصادر مؤخراً باللغة الإنكليزية عنوان «التاجر السوري»، إلى جانب عنوان فرعي هو “تاريخٌ من النجاة”، وتعرِض فيه دارك أفكارها بأسلوبها الساحر الذي يجمع بين خبرة المؤرّخ المتخصص في سِيَرِ الأمكنة (إذ وضعت الكاتبة ما يقارب 16 مؤلّفاً إرشادياً لمناطق شتى من العالم) وبين أسلوب الكتابة الأدبية الرصينة التي تعكس معرفةً وثقافةً عميقتَين تستحقان الإعجاب. وعلى سبيل المثال تفتتح دارك كل فصل من فصول كتابها بقولٍ عربيٍّ مأثور يوجزُ الفكرة التي يعرضها الفصل برمّته فضلاً عن الكثير من الشواهد المدعومة بأبياتٍ من الشعر العربي والقرآن والحديث النبوي ومناقشة نظام الوقف والاقتصاد الإسلامي وصدقة السرّ بوصفها صوراً لنظام اقتصادي إنساني بامتياز.

وإذا كان كتاب دارك السابق قد اختصّ بتقديم سيرةٍ تاريخية معاصرة لمدينة دمشق، فإنّ هذا الكتاب يفرِدُ صفحاته لتدوين سيرة مدينةٍ قلّما حظِيت بالحضور الذي عهدناه للعاصمتَين دمشق وحلب في اهتمامات الكتّاب والدارسين، ألا وهي مدينة حمص.

تروي دارك سيرة المدينة من خلال سيرةِ أحد أبنائها وهو محمد شمسي باشا، أو “أبو شاكر” مثلما تسمّيه دارك في معظم فصول كتابها الذي جاء في سبعة عشر فصلاً. ومن خلال سردها لحكاية هذا التاجر السوري الناجح، تطرح ديانا دارك ما تراه يقيناً في أنّ سوريا، بإنسانها الكدود وبتراثها الحضاري العريق سوف تنجو في نهاية المطاف من المحنة التاريخية القاسية التي تكابدها في العقد الأخير والتي لن تكون سوى محطة مؤقتة في بلادٍ تعدّ من بين أقدم البلدان المأهولة في المعمورة ولطالما اتّسمت صيغة عيش مكوّناتها بدرجةٍ متقدمةٍ ولافتةٍ من الثقة وتبادل المنفعة.

تستحضر الكاتبة أمثلةً من تاريخ سوريا الاقتصادي والاجتماعي لتُبرِز كيف كانت الروابط الاجتماعية والتجارية دائماً بمثابة جامعٍ لمختلف المكونات المجتمعية السورية بدءاً من الجولات التجارية لمراكب الفينيقيين وصولاً إلى تصدير الدامسكو السوري. وبدلاً من التركيز على السردية الكلاسيكية المتمثلة في صراع الريف مع المدينة، فإن دارك تسلط الضوء على الشبكات التجارية المشتركة، مثل شبكة تجارة الحبوب، التي عمل فيها بطل روايتها أبو شاكر كمثال يجسّد التماسك الحضاري والمجتمعي الذي عرفته سوريا قبل ابتلائها بالدكتاتورية البعثية وما تلاها.

ومن خلال غوصها في أعماق التاريخ السوري، تقدّم دارك ما يشبه إطاراً واجباً لقراءة وفهم اللحظة السورية الراهنة، والأهم لفهم الشخصية السورية التي قد يحاول البعض اختزالها في صورة اللاجئ الذي يهدّد استقرار المجتمعات المضيفة واقتصاداتها؛ فعلى العكس من ذلك تقدم دارك عبر شخصية كتابها الرئيسية مثالاً للشخصية السورية الفاعلة والناجحة، إذ جعل محمد شمسي باشا-أبو شاكر من شركة النسيج البريطانية المفلسة “هيلد فيرنيشينغز” واحدةً من أنجح الشركات بعد استحواذه عليها.

تشبه حكاية أبي شاكر حكايةَ سوريا، فالرجل الذي لم يكن قد بلغ أشُدَّه يوم رحل أبوه، وجد نفسه الذكر الوحيد المسؤول عن إعالة بيتٍ تقطنه أمه وأربع من الأخوات البنات، وكان عليه أن يباشر إدارة محلّ أبيه في سوق حمص القديمة ليدخل معترك الحياة التجارية مستنداً إلى رصيد أبيه وطيّب سُمعته بين تجار المدينة ومحيطها وما تمثّله الثقة من أهمية في سوق اتّسمت بأخلاقيتها وحفاظها على منظومة قيمية تُشيدُ بها الكاتبة أيّما إشادة. وعلى سبيل المثال، حينما تعثّر الشاب محمد شمسي باشا الذي سيصبح لاحقاً واحداً من أكبر تجار الأقمشة، أقرضه أحد تجار المواشي في سوق حمص مبلغاً من المال لإنقاذه من الإفلاس دون أن يطلب منه تقديم ضمانةٍ أو حتى كتابة ما يفيدُ إثبات القرض.

استمرّ أبو شاكر في تجارته التي راحت تزدهر إلى أن جاءت حقبة الجمهورية العربية المتحدة التي أدخلت سوريا في وحدةٍ مع مصر في ستينات القرن الماضي وما استتبعها من تأميمٍ طال معظم جوانب الاقتصاد السوري وفرض قيوداً بات معها العمل التجاري غايةً في الصعوبة ودفعت برجال الأعمال -ومن بينهم أبو شاكر- إلى مغادرة البلاد. حطَّت رحال الرجل في بيروت حيث نهض مجدداً ونشطت تجارته انطلاقاً منها إلى بلدان الخليج العربي وغيرها، إلاَّ أن الأمر لم يدم طويلاً إذ اندلعت الحرب الأهلية اللبنانية ليجِد أبو شاكر نفسه مرغماً على الرحيل والبحث عن ملاذٍ جديد يواصل تجارته انطلاقاً منه.

بعد أن حقق نجاحاً لافتاً وذاع صيته في المملكة المتحدة والأسواق التجارية المرتبطة بها، عاد أبو شاكر سنة 1999 إلى مسقط رأسه حمص، أو أميسّا باللاتينية، وهي الأرض اللينة، كما تقول المؤلّفة، غير أنّ مكوثه فيها لم يطُل إذ غادرها سنة 2011 مع اندلاع الانتفاضة السورية التي كانت مدينة حمص من أوائل المدن التي احتضنتها وشاركت فيها بزخمٍ منقطع النظير. وكأنّما على أقدار المدينة أن تتكرر، فالمدينة التي دُمِّر وسطها القديم في عهد الاحتلال الفرنسي، كان عليها أن تشهد الدمار مرّةً أخرى على أيدي النظام السوري هذه المرة. وهكذا، يرحل طائر الفينيق السوري أبو شاكر مرّةً أخرى عن مسقط رأسه ليراقب دماره عن بعد وليرحل عن هذا العالم عام 2013 تاركاً خلفه إرثاً حافلاً بالإنجاز رغم الصعوبات والتحديات يشبه إرثَ بلاده التي كانت تنهض دائماً، حسب قول ديانا دارك.

عبر عرضها الغني والمتبصّر لتاريخ سوريا ومجتمعها، تؤكّد دارك أنَّ التحديات الراهنة رغم جسامتها وما ألحقته من ضرر في التماسك المجتمعي، فضلاً عن الضرر الاقتصادي الذي لحِقَ بعموم الشعب السوري، لن تحول دون نهوض البلاد مرّةَ أخرى مثلما كان “التاجر السوري” أبو شاكر ينهض دوماً.

* كاتب سوري

المصدر: العرب

التعليقات مغلقة.