علي حبيب الله *
“تحية العروبة والوطن والتحرير”… ثلاث مفردات بعد التحية لمطلع وصية، لم يكن كاتبها شاعرٌ لاحت له ومضة تجلي بعثت في عروقه عروبة البلاد، ولا سياسي جاشت مشاعره في خطاب أمام الحشود العِباد، ولا هي كليشيه لقومي أثقلته الرومانسية، ولا شعار يتقدم بيان نصٍ لواحدة من القوى التنظيمية. إنما هي وصية شهيد، هو الشهيد الراحل- الله يسهل عليه- باسل الأعرج الذي خطّها في لحظات كانت تجول فيها بنادق جيش الاحتلال الجائعة، بحثا عن لحمه ودمه.
كتب باسل الأعرج وصيته مُتحيًا بعروبة البلاد، وموصياً كل منّا التوصي، بأن الوطن مفردة، لا يردفها ولا يُرادفها إلا تعبير “التحرير”. لم يُخاطب الأعرج في وصيته أمه ولا أبيه، لا رفاق ثُلة ولا أتباع مِلة.
كلماتٌ حارة في ليلة باردة، قام لها الشهيد، كما لو أنه قد خطها على خيط إيقاع نبض متنسكٍ في صومعته، أو متصوف في تكيته، جيّاشة، وبعيدة عن حمولة التعبئة والتجييش، مذيلا إياها بوجوب البحث عن رحمة الله. وما بين تحية العروبة ورحمة الله، تحية عروبية لباسل الأعرج و«شيرين أبو عاقلة»، ورحم الله كل شهداء فلسطين، مخلصين ومؤمنين.
لم يجرِ، أن التف شعبنا بكل جوارحه مجروحا، مثلما التف واصطف غاضبا لاستشهاد المراسلة المناضلة، «شيرين أبو عاقلة»، أثناء تغطيتها لاقتحام قوات الاحتلال مخيم جنين، صباح الأربعاء الماضي، فأرداها قتيلة، فأرادت هي وأردناها معها، شهيدة فلسطينية عروبية على أرض فلسطين العربية.
أما على هامش، جلال هذا الحزن الجليل، فالأسوأ من مَرضى “لا يجوز…” هم جَهلة “بل يجوز…”! تخيّل حجم تلك المأساة، التي تسكن تلك النفوس الموبوءة والرؤوس المعطوبة، لتخطو في خضم نزيف الدم عنه بحثا هوية اعتقاد شهيدة الدم المسفوح، بسؤال الجواز والمسموح.
نحن، ومن نعم الله علينا في فلسطين، كنا وما زال يثبتُ لنا اسم «شيرين أبو عاقلة»، بأن أسماءنا في فلسطين لا تدل دائما على أدياننا التي لم نخترها. بل دائما ما تدل أسماءنا على عروبتنا، وما يدل علينا جميعاً، هو الذي ظل يجمعنا تحت مرمى رصاص الاحتلال وبنادقه منذ أكثر من مئة عام.
ليس لدينا في فلسطين هوية جامعة غير هويتنا العربية، وشرط نزوع هذه الهوية الجامعة نحو انتزاع مصيرها وتحقيقه سياسياً وحضارياً، هو التمسك بعروبة صراعنا على هذه الأرض، وليس في فلسطين فحسب، إنما على كل الأرض العربية من المحيط إلى الخليج، في وجه الاستبداد والاستعمار معاً.
كانت قوى الاستعمار على مدار أكثر من قرن في البلاد العربية، تنزع نحو نزع الصفة العربية عنا وعن صراعنا معها. وعلى هذا راكمت إسرائيل كدولة استعمارية وما زالت، كي تبدو جسما أو كياناً طبيعياً في منطقة تموج في صراعات “بين جماعات مذهبية وفرق دينية”. وتديين الصراع (جعله دينياً) مع الصهيونية، لا يخدم إلا الصهيونية نفسها، حتى لو كنّا جميعا على دين واحد. وأي بديل عن الهوية العربية، لا يجعلنا مسلمين ولا مسيحيين، إنما يجعلنا مذاهب وطوائف متقاتلة في أسوء الأحوال ومتحاملة على بعضها في أحسنها.
قليلٌ، ما طاف نعشٌ في فلسطين، يلوحُ فوق أكف أهله، يجوب شوارع مدنها، وماراً بمداخل قُراها، على مدار ثلاثة أيام، قبل أن يُوارى الثرى، مثلما جرى، وطاف نعش جثمان الشهيدة «شيرين أبو عاقلة».
بدءًا من مدينة جنين على تخوم “مرج ابن عامر” في الشمال حيث بداية حكاية الأرض، مرورا بنابلس ونار جبلها التي لا تخبو، ثم إلى رام الله المغلوبة، وصولاً إلى القدس الشريف وأبوابها، التي اقتحمها النعش، يموج شاقاً خلاصه من بين بنادق المُحتلين، وسواعد أهلها المودعين، من أبناء شعبها العرب. لترقد، حيث يجب أن ترقد ‘شيرين’ بسلام، في القدس، مدينة السلام الذي لم تعرفه.
* كاتب فلسطيني
المصدر: عرب 48
التعليقات مغلقة.