إيلي عبدو *
بين صور “والدة الإله” والأم، يمكن أن تؤازر مريم، الضحايا وجلادهم أيضاً. ما يستدعي بحثاً في تسييس العذراء عند مسيحيي لبنان، فهي تتواجد في اجتماعهم بكثافة، وتُستحضر فوراً في المأسي وتفعل معجزات في الحروب، في استبدال جذري للسياسة بالخرافة…
لاحظتُ انزعاج أمي خلال التواصل الواتس آبي اليومي، فـ 15 آب يصادف عيد السيدة، وهي لم تستطع الذهاب الى الكنيسة بفعل الإغلاق، ولا مارست طقوس العيد كما يجب خشية التجمعات. علاقة أمي مع مريم العذراء، عاطفية جداً، تناديها بعفوية وتطلب ما تشاء، وتردد اسمها في اليوم عشرات المرات، لديها ثقة عمياء بها، تدخل اسمها عنوة في صلوات مخصصة للمسيح أو لقديسين آخرين.
وأمي، ليست استثناء، بين النساء المسيحيات اللواتي يفضلن سراً مريم على المسيح، يشعرن أنها أقرب وأكثر استيعاباً من ابنها الجدي والصارم. علاقة المسيحيين بمريم بالعموم، طالما استفزتني، فهي رمز الطهارة والعفة التي أنجبت دون ممارسة الجنس. ما كان في اللاهوت، تكريماً وتقديراً، لقيمة العذراء كان بالنسبة لي تحقيراً ونفياً لكل ما هو حسّي. مريم بالنسبة لي نموذج لمعاداة الحياة واستبدالها بموت مموه بالنقاء، انطلاقاً من اللاهوت الشرقي الذي ما زال يعادي كل ما هو مادي ويمحور خطابه حول الروحانيات، وعليه، لم يطور نظرة مختلفة للعذراء يحيلها إلى اليومي وينزع عنها تصورات ما قبل الإصلاح الديني في الغرب.
إحدى المتضررات بفعل انفجار بيروت صرخت بغضب أمام إحدى كاميرات التلفزيون، “العدرا حمتنا وليست الدولة”. خطورة هذه الصرخة أن يمكن إعادة ترتيبها بسهولة لتصبح “العدرا حمت الدولة”.
يخلص من يشاهد عدد من الفيديوهات التي توثق ردود فعل اللبنانيين لحظة انفجار المرفأ، أن كلمة “ياعدرا” كادت تكون مشتركة بين عدد منهم، طبعاً ثمة ما هو رد فعل آلي، يستحضر، أي منقذ أو مخلص، لحظة الكارثة، لكن لماذا العذراء وليس المسيح، خصوصاً وأن الأخير هو محور اللاهوت وغايته. مريم أكثر شعبية من ابنها، في وعي اللبنانيين المسيحيين، حتى إن عدداً كبيراً من القرى ينسب العذراء للقرية، سيدة كذا وسيدة كذا، وكأن “والدة الإله” التي تتناثر تماثليها بشكل كبير في شوارع المناطق المسيحية، تتوزع على العصبيات الصغيرة، وتقوي لحمتها، وتؤمن لها الحماية. في كتابه “دم الأخوين – العنف في الحروب الأهلية”، يذكر فواز طرابلسي، أن “خلال الحرب الأهلية رُوي عن سيدة زحلة معجزات عديدة خلال عمليات الحصار المكررة التي تعرضت لها المدينة. ظهرت وهي تطوّح بذراعيها طاردة القذائف المتساقطة على المدينة، ولم تكن معجزة العذراء هذه إلا نسخة حديثة عما نسب إليها من معجزات سنة 1843 حين أنقذت المدينة المسيحية الكاثوليكية من هجمة درزية”.
صور العذراء التي يقترحها اللاهوت وتختلط في الوعي الشعبي متخذة دلالات جديدة، كثيرة ومتعددة. فهي الأم الثكلى الحزينة على ابنها المصلوب، وهي التي تمتلك دلالة عليه فتطلب معجزة في عرس قانا الجليل، وأيضاً الوالدة التي تهتم بطفلها في مغارة الميلاد. من الوظائفية التي يرسمها اللاهوت لمريم بوصفها “والدة المخلص”، تتسرب الكثير من المشاعر التي يجري تلقفها شعبياً بوصفها تقاطعات مع مآس وكوارث وأحزان، تحصل دائما في الحياة. حزن المسيح مثلاً كان ميتافيزيقياً، فهو حزين على “خطايانا”، هذا التأويل وإن وجد عند مريم فهو مشفوع بالحزن على الابن الذي تعذب وصلب، بمعنى أن حزن العذراء له أصل بشري، يستحضره الناس في صرخاتهم عند الشدائد والصعاب، ما يجعلها أقرب لهم وأكثر التصاقاً بمشاكلهم، وهو ما حدث لحظة الانفجار حين تفوه كثر باسمها.
لكن، العذراء نفسها، احتضنت، على ما رأينا في صورة مركبة قبل شهور، رئيس الجمهورية ميشال عون، المسؤول، تبعاً لشهادات الضحايا عن تفجير المرفأ. بمعنى أن مريم، التي يمكن تأويلها كـ”مخلصة” للضحايا، هي ذاتها يمكن تأويلها “حامية” لمن تسبب بمأساة هؤلاء الضحايا. فهم هذا التناقض، يتطلب العودة للجانبين، اللاهوتي والبشري، عند العذراء، فهي طبقاً للجانب الأول تفتح “ذراعيها لجميع المؤمنين”، وللثاني، فهي الأم التي تحب جميع “أبنائها” مهما أخطأوا. بين صور “والدة الإله” والأم، يمكن أن تؤازر مريم، الضحايا وجلادهم أيضاً. ما يستدعي بحثاً في تسييس العذراء عند مسيحيي لبنان، فهي تتواجد في اجتماعهم بكثافة، وتُستحضر فوراً في المأسي وتفعل معجزات في الحروب، في استبدال جذري للسياسة بالخرافة، والمعجزات والخوارق بالبحث عن شروط اجتماع أفضل.
إحدى المتضررات بفعل انفجار بيروت صرخت بغضب أمام إحدى كاميرات التلفزيون، “العدرا حمتنا وليست الدولة”. خطورة هذه الصرخة أنه يمكن إعادة ترتيبها بسهولة لتصبح “العدرا حمت الدولة”.
* صحافي سوري
المصدر: درج
التعليقات مغلقة.