الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

في الحداثة السياسية ودولة القانون

حسام أبو حامد *

تتربع أحكام الدستور، في دولة القانون، على قمة هرم النظام القانوني، لتسمو على ما عداها من قواعد قانونية، ويتحقق فيها مبدأ فصل السلطات، فتستقل فيها السلطة القضائية استقلالا تاما، لتضمن الحقوق والحريات الفردية عبر ممارسة دورها الرقابي، سواء فيما يتعلق بخضوع السلطة التنفيذية للقانون، أو بخضوع السلطة التشريعية للدستور. أصبحت هذه الدولة شرطا للدخول في الحداثة السياسية، وخطوة تأسيسية لأي انتقال ديمقراطي، ولإحداث تحولاتٍ بنيويةٍ جوهريةٍ في المجتمع نحو تنمية شاملة، ووسيلة اندماج وطني؛ تسكّن هويات ما قبل الدولة لصالح هوية وطنية جامعة. وفي غياب هذه الدولة عربيا لصالح هيمنة الدولة الوطنية التقليدية التي تشكلت منذ الاستقلال، بقيت الفكرة الوطنية شاغرا لصالح الولاءات الفرعية، ولم تكتسب التعدّدية السياسية، وتداول السلطة، والانتخابات، وغيرها من آليات وممارسات، مضامينها الديمقراطية الحقيقية، فحين أدير التنافس السياسي عبر انتخابات دورية تشريعية ورئاسية، كما في الديمقراطية التوافقية في حالتي العراق ولبنان على سبيل المثال، في ظل انعدام فاعلية مؤسسات الدولة وحيادها، وهيمنة العرقية والمذهبية والطائفية السياسية، في مجتمعاتٍ فاقت فيها قوة الأحزاب الطائفية قوة الدولة، كانت النتيجة تعمق الصراعات الاجتماعية، مهدّدة ما تبقى من استقرار سياسي وسلم أهلي.

قبل نشوء الدولة الوطنية، كان التناقض بين الهيمنة الاستعمارية على العالم العربي والمشاعر القومية والوطنية الصاعدة مرحليا رئيسيا، وشكّلت حركات التحرّر الوطنية العربية حلفا وطنيا ضد الاستعمار الأجنبي، توارت خلفه مختلف التناقضات بين المكونات والشرائح والفئات الاجتماعية. تطلّب تحقيق الاستقلال تسويةً بين الاستعمار والنخب الاجتماعية السياسية والاقتصادية. وفي مرحلة ثانية، عملت النخب السياسية على تسوية الصراعات بين الطوائف والشرائح الاجتماعية؛ بطمسٍ للتناقضات، وبتوحيدٍ للمجتمع بالقوة. وعلى خلاف الدولة الغربية الحديثة (الدولة – الأمة)، لم تنشأ الدولة العربية الوطنية نتيجة تناقضاتها الداخلية، بل نتيجة تناقضاتٍ خارجيةٍ ارتبطت بالمرحلة الإمبريالية، والتقسيم العالمي للعمل، بوصفها دولةً طرفيةً تابعةً لمصادر القرار في المركز/ الغرب. لم تتجذّر تلك الدولة اجتماعيا، فمن جهةٍ، لم تكن نهاية مسار تاريخي جرى فيه تكثيف للتناقضات داخل المجتمع، عبر تنافس وصراع داخليين شكّلا حالة استقطابٍ أعادت تقسيم المجتمع وفرزه طبقيا ومصلحيا، تمكّن في خضمّه أحد أطراف الصراع أن يفرض سيطرته على الدولة، بوصفها جهازا للسيطرة على المجتمع وإدارته. ومن جهة أخرى، لم تعبّر سلطة تلك الدولة عن واقع المجتمع الذي فرضت إرادتها عليه، ما أعاق قدرتها على التعبئة الجماعية، لتحقيق أهداف مشتركة. وفي غياب هيمنة طبقية، تعيد هيكلة مكونات المجتمع وتناقضاته، وتعمل على تطويره، برزت الدولة بديلا وظيفيا للفعاليات الطبقية والاجتماعية، وأعاقت تبلورها وتكوينها وعيا وممارسة، وأعاق جهاز الدولة حركية المجتمع، حين هيمن على كل الفئات والشرائح والطوائف والطبقات الاجتماعية المتباينة، وتحكمّ بمصيرها، وحدّدت المسافة من السلطة، اقترابا أو ابتعادا، منزلة الشرائح والفئات المختلفة ومواقعها وأدوارها الاجتماعية. تَحكّم الصراع على السلطة بكل الفعاليات الاجتماعية، واتخذ الصراع الاجتماعي شكل الصراع بين الدولة والشعب.

لم تتعلق شرعية تلك الدولة، بُعيد الاستقلال، بشكل النظام السياسي (جمهوري، ملكي، مشيخي ..) ولا بأسلوب السيطرة على مقاليد الحكم (الوراثة، التسوية مع الاستعمار، الانقلابات العسكرية ..)، بل استندت إلى الكاريزما والعاطفة وتقديس الموروث، في غياب شرعيةٍ عقلانيةٍ تقوم على الطاعة في إطار القانون، ما جعل تلك الدولة ما دون الحداثة السياسية، اصطدمت بسقفها مشاريع ثقافية حداثية فلم تتحوّل وعيا سياسيا نهضويا. ومع تكرّر الفشل في النهوض بمجتمعاتها، وهزائمها المتتالية في معركتي التحرير والتحرّر، تراجعت العوامل العاطفية والكاريزمية التي منحت تلك الدولة شرعيتها أمام تزعزع الإيمان بالقيمة الاجتماعية للمؤسسات، وفاعلية نظام الحكم في حلّ مشكلات المجتمع الرئيسية، وتراجع الإجماع الشعبي الذي يغذّي الشرعية، وانعدمت المشروعية المتمثلة باتفاق قرارات السلطة وتصرفاتها أو الحكومة مع أحكام الدستور، ومقتضيات تحقيق العدالة. ومع انعدام التطابق بين القانونية والمشروعية داخل مؤسساتها، تحوّلت القوة التي تحتكرها الدولة، باعتبارها وسيلةً للحفاظ على الأمن الاجتماعي والسلم الأهلي، عنفا سياسيا لضمان الحفاظ على السلطة، وفرض الشرعية من أعلى إلى أسفل، ووقع المجتمع ضحية عنف السلطة والعنف المضاد، مع انعدام الاستقرار السياسي، وغياب التكامل الوطني.

أصبحت أجهزة الدولة واجهةً سياسيةً تخفي وراءها المصالح الخاصة للنخبة السياسية الحاكمة التي ربطت في شبكة مصالحها نخبة من الدرجة الثانية، جرى تدويرها باستمرار، وتحميلها المسؤولية في كل دورة فشل جديدة. في غياب العدالة الاجتماعية والتوزيع غير المتكافئ للثروة، ساد منطق الخلاص الفردي، لينتشر الفساد المالي والإداري والخلقي، والمحسوبيات، والواسطة، والرشوة، والاختلاس، وارتفاع معدّلات الجريمة. ومع بقاء السلطة وسيطا بين المواطن والقيم، تم تدعيم الانتهازية والوصولية، وسادت الولاءات السياسية، والعشائرية، والطائفية، والشخصية، على حساب الولاء للوطن. وبفضل قوة الدولة المادية وأساليبها القمعية، تراجعت المعارضة المنظّمة، وساد في العلاقة معها الحذر والتقيّة السياسية أو التعامل المصلحي. وباحتكارها المجال العمومي، سيطرت السياسة على كل نواحي النشاط الفردي والاجتماعي، وكان الاضمحلال مصير أي حياةٍ اجتماعيةٍ، ثقافيةٍ أو سياسيةٍ، مستقلةٍ خارج إطار تعايشها أو تناسبها مع المجال السياسي الذي تحتكره الدولة، فكان لزاما على أي ممارسةٍ اجتماعيةٍ أن تخدم لا مصالح الأغلبية الشعبية، بل مصلحة الدولة وزبانيتها المتورطين مع النخبة السياسية في نهب المجتمع وقمع نهضته.

في غياب دولة القانون، تبدو الديمقراطية هشّة ومحفوفة بالمخاطر، ففي تونس التي كانت أول من قطفت ثمار ربيع عربي تعثر في غيرها، لم يكن ممكنا إدارة مرحلة الانتقال الديمقراطي عبر المنافسة المفتوحة، وإنما عبر سياسة التوافقات، ليس بسبب الوضع الاقتصادي والأمني الحرج فحسب، بل أيضا في ظل الإرث السلطوي، وضعف المؤسسات، والغموض الدستوري، وتداخل الصلاحيات بين السلطتين التشريعية والتنفيذية، وعدم تطور الأحزاب إلى مؤسساتٍ أكثر فاعلية وتماسكًا. انتهى الاستقرار السياسي الذي توفّر بفضل سياسةٍ قائمةٍ على التوافق بشلل تشريعي أضعف الديمقراطية الناشئة، وحافظ على نظام دستوري هش. تحتاج تونس خطواتٍ نحو مزيد من الديمقراطية المتماسكة، بالتوازي مع خطواتٍ حثيثة نحو دولة القانون. أما فاجعة انفجار مرفأ بيروت، فهي نذير انفجار أشمل قد يعم المنطقة، ينجم عن استمرار غياب دولة القانون، سنكون جميعنا ضحاياه.

الإخفاق السياسي للدولة الوطنية التقليدية وتحوّلها إلى مجرّد سلطة، يطرح أولوية الآليات السياسية، في أي تحليلٍ يهدف إلى البحث في أسباب إخفاق نهضة عربية معاصرة، على الآليات الاقتصادية والثقافية، ويطرح دولة القانون بوصفها ضمانة لديمقراطية راسخة وحقيقية، واستقرار اجتماعي وسلم أهلي. وفي ظل دولةٍ وطنيةٍ فاشلةٍ، لنا ألا نستغرب أن تلجأ جموع من الشعب إلى الاستقواء بالآخر، فتطالب بعودة احتلال، أو تؤيد غزوا خارجيا، كما لم يستغرب ذلك طه حسين حين ذهب في كتابه “مرآة الإسلام” إلى القول: “بل ربما وجدت الشعوب شيئا من السرور والرضى بسقوط حكوماتها وانهزامها أمام العدو المُغِير، يئست من عدل هذه الحكومات، ونظرت إليها على أنها شر سُلّط عليها، فتمنت أن يزول عنها هذا الشر، فهي طامعة في شيء من العدل قليل أو كثير عند المُغِيرِينَ عليها والمحتلين لبلادها”.

* كاتب فلسطيني

المصدر: العربي الجديد

التعليقات مغلقة.