الفضل شلق *
أقر المؤتمر الوطني الثاني عشر للحزب الشيوعي اللبناني، الذي انعقد في شباط/ فبراير 2022 “وثيقة برنامجية” و”تقريراً سياسياً” وما تسمى “توجهات برنامجية” تفصل بين مؤتمرين لحزبٍ يحتفلُ بعد سنتين بمئويته الأولى.
أولاً- منهجية تعامل الحزب حاضراً وتاريخاً مع وثائقه الفكرية والسياسية، ووثيقته البرنامجية:
يرث الحزب الشيوعي اللبناني، كغيره من الأحزاب، تراثاً فكريا ثرياً. هو ليس كمنظمة العمل الشيوعي في لبنان تحوّل إلى الماركسية نتيجة حدث ما ثم تخلى عنها إلا كأحد مصادر فكره. هو مدرسة فكرية ماركسية من الأول إلى الآخر.
مع تعدد المذاهب الماركسية ومراكزها العالمية، كان شرط وجود الحزب الشيوعي الأساسي الولاء لخط موسكو، سواء في مراحل مهادنة البورجوازية الوطنية أو العداء لها. كان مطواعاً لموسكو وسياساتها. يشبهه في ذلك حزب الله في تبعيته لطهران ومذهبها الفكري، السياسي، والديني. الشيوعية أيضاً تتحوّل إلى ما يشبه الدين عندما يُرفَع المؤسسون إلى مستوى العصمة ونصوصهم إلى مستوى القداسة. تصير النصوص التأسيسية مصدراً للحقيقة والإلهام. تتحوّل النظرية المعتبرة عالمية إلى دين. والكوادر العليا سدنة الهيكل، والمثقفون الحزبيون أكليروس الدعوة. توضع قيود على الحركة الفكرية. لا تكون واقعية، أي مقبولة، إلا بمقدار ما تطابق أفكار الذين في المركز الأعلى. من يخالف “الحقيقة المعطاة” يُحرم كما في الكنيسة المسيحية. أو يُكفّر كما في الدين الإسلامي. هناك محاكم للفكر والعقيدة كما محاكم التفتيش في الكنيسة الكاثوليكية. يشكّل الحزب عندها مجتمعاً مغلقاً، غير مفتوح إلا للدعوة من أجل كسب أعضاء جدد وأنصار. تتراجع الحريات طوعاً. على الملتزم حزبياً أن يكون ملتزماً فكرياً. تتلاشى الحرية كاستجابة للضمير الذاتي- الفردي والجماعي. يصبح التحرر الوطني ذا أولوية على حرية الفرد والمجتمع.
“الأمة” تعلو على الدولة. كل شيء في سبيلها. “الأمة” مركزها موسكو أو بكين. يُدرّب الأعضاء على اشتقاق أفكارهم من العقيدة الحزبية (الكاتشيزم عند الكنيسة). يبدأ كل تقرير حزبي بالوضع الدولي (تصورات المركز الحزبي) ثم ينتقل الى الوضع الإقليمي ثم المحلي؛ يصل إلى المحلي من خلال الممر الإقليمي والدولي. الوجود مشتق من القضية. وهي مصلحة المركز. المحليات ملحقة بالمركز. الوفاء لقضية المركز هدف الوجود. القضية أولوية على الوجود. الأفراد صدى لإرادة المركز الحزبي. كل نقاش جدي ينتهي إلى انشقاق، ذلك عندما لا يطيق الأعضاء أو الكوادر تسلّط مشايخ المركز.
يُستنبط العلم الحديث من العقيدة. مدارس تدريب الكوادر تشبه الحوزات. المدرسة المركزية تشبه الأزهر. الآتي من هناك يتقدم على التابع من هنا. تعاد كتابة التاريخ لتتلاءم مع وصفات التطوّر البشري المعترف بها “رسمياً”. تُعاد كتابة تاريخ الحزب لحذف المنشقين من الرواية السردية. أحاديث “الحكماء” تُجمع في كراسات للتلقين. يعتمد الأعضاء الحزبيون والأنصار على التلقي. يموت الإبداع. كل بدعة ضلالة. كل خروج على أفكار وآراء السلطة المركزية هو إنكار للعقيدة. كفرٌ بديكتاتورية “البروليتاريا”. ليس المجتمع ما يدرسه أهله، ولا المشاعر والمطالب التي يُعبّرون عنها. هي ما يُستنبط من المركز والعقيدة وأقوال سدنة الهيكل. المثقف ليس من يدرس ويعبّر عن ضميره ويعلن نتائج تفكيره. هو الذي يجمع “أحاديث” و”علوم” المركز ويعبّر عنها. الوعي ليس تعبيراً عن الوجود بل استنباطاً من القضية. ملاءمة القضية للوجود، والوجود دائماً محلي. قرارات “الأممية” أو التنظيم المركزي هي القضية. الرحلة إلى موسكو والإقامة بها ردحاً من الزمن هي كالمجاورة في مكة أو النجف. الزعيم “الأمين العام” يلقي الخطب. الجمهور يصفّق. كلماته أوامر. على المتلقي أن يستجيب ولا يسأل. لا يعقد الزعيم مؤتمرات صحفية. هو في عصمة من كل شك وسؤال. القرارات، كما التحولات الكبرى، تُتّخذ وتحدث في اجتماعات سرية. يُحافظ على عصمة المركز بسرية الاجتماعات والمؤتمرات. مخابرات الدولة، عندما يندمج الحزب في الدولة ويحولها إلى مجرد سلطة، تحمي الحزب وأمينه العام من التساؤل. النقاش يصير شغباً. يعرف الناس العاديون عن أي انشقاق بعد أن يحدث. يطهّر الحزب، أو يعتبر كذلك بعد كل انشقاق. تعود العبادة إلى صفائها.
هذه المقدمة طويلة. يبدو أنها تصلح لوصف كل المذاهب والحركات السرية. سرية العبادة تفرض شروطها على البشر. يظن الملتزم بالقضية أنه مكرّس لما يعتبره حقيقة أو حقاً. ينتهي إلى أن يكون وفياً للقضية. المقدمة طويلة لأن هناك تساؤلات عما إذا كان الحزب الشيوعي اللبناني قد تخلص من بنى فكرية ورثها من زمن التبعية لموسكو السوفياتية. كثير من الممارسات المذكورة زالت بعد سقوط الاتحاد السوفياتي. لكن الصدام الفكري مازال ساري المفعول.
ينقسم الكتيّب الصادر عن “المؤتمر الوطني الثاني عشر” للحزب الشيوعي اللبناني، المنعقد في بيروت في شباط/ فبراير 2022، الى جزأين: الأوّل يتعلّق بـ”الوثيقة الفكرية”، والثاني هو “التقرير السياسي”. يتبع ذلك “توجهات برنامجية”.
يقدم الجزء الأوّل صورة عن عالم تحكمه الرأسمالية بأعلى أشكالها المالية التي تغلب عليها الأمولة (Financialization). عالم يتألف من المركز المتعدد الأقطاب ودول طرفية هي في الأساس عالمثالثية دخلت تحت جناح الإمبريالية فأصابتها التبعية. تعمل آلية هذه الرأسمالية من خلال استتباع الدول الخاضعة لها بواسطة “بنية امبريالية” والاستغلال الذي تمارسه البلدان الطرفية على الطبقة العاملة وغيرها داخل بلدانها، وعلى البلدان المستتبعة. الاستغلال مزدوج. من خلال تدفق الاستثمارات والتكنولوجيا الرقمية من أجل الربح، وهي تساعد في الاستتباع. التصدي للإمبريالية يكون عبر الاضطلاع بمهمات التحرر الوطني التي تعتبر في الوقت ذاته مهمات تحرر سياسي واجتماعي من نظام علاقات الإنتاج الرأسمالية والتبعية. آلية التوسّع الامبريالي تكون عبر صندوق النقد الدولي والبنك الدولي ومنظمة التجارة العالمية. علاقة ذلك بزرع “الكيان الصهيوني المصطنع” هي علاقة وثيقة.
فهم ما يجري في لبنان والبلدان العربية وأفاق تطورهما يأتي في هذا الإطار. إطار أزمة تقدم الرأسمالية السريع نحو حدودها التاريخية. على الحركة الشيوعية واليسارية العالمية، وفي إطار فهمها للاشتراكية، تحقيق مصالح الطبقة العاملة والشعوب المضطهدة حول العالم. الماركسية تبقى صحيحة وراهنة إضافة إلى الفهم للإمبريالية بمستجدات تطوراتها: “الأمولة” والتقدم التكنولوجي الرقمي. هذه الرأسمالية العالمية أدى فيها الرأسمال المالي (الأمولة) إلى فصل الرأسمال المالي عن الإنتاج الحقيقي. تعولمت العلاقات الاقتصادية الاجتماعية، ثم الحياة السياسية والروحية. وأسفر التطوّر الرأسمالي المعولم عن نتائج طاولت البنية الطبقية للنظام الرأسمالي، فعولمة للقوى المنتجة، وعولمة للعلاقات الاقتصادية الاجتماعية؛ وأنتجت تحولات البنية الطبقية المعاصرة نتائج طالت البنية الطبقية للنظام الرأسمالي ككل، ولكل بلد من بلدانه. وسط اكتساب تناقضاته طابعاً عالمياً.
في آخر هذا الفصل عن التبعية بعض التشكيك بصحة هذه النظرية. وقبلها حديث عن دول صاعدة بعد التبعية. “ظاهرة الدول الصاعدة” (الصين وروسيا والبرازيل والهند) إضافة إلى دول أقل تأثيراً، تضم المكسيك، وأندونيسيا، وجنوب أفريقيا، وإيران، وتركيا. لا يدري القارئ ما الفرق بين “الدول الصاعدة” و”الدول الأقل تأثيراً”. لكن الصورة التي تقدم إليه عن العالم ونظرية التبعية تهتز، خاصة عندما يمر النص بتركيز معتاد على تناقضات وأزمة الرأسمالية المعولمة وعدم قدرتها على إدارة تناقضاتها، بالأحرى عجزها عن إدارة العالم. وصفة الحرب وضرورتها للرأسمالية لإحكام قبضتها على العالم تشي بأن البشرية غير قابلة للاحتواء في نظام اقتصادي (سلمي) يكون فيه الخضوع (التبعية) طوعاً أو بالانهيار بنمط العيش في ظل الرأسمالية. على كل حال، تهتز الصورة أكثر فأكثر عندما تختلط الرغبات بالتشخيص الموضوعي. أي عندما يطالب النص الدول “الصاعدة” و”الأقل تأثيراً” بفعل كذا وكذا كإجراءات تضامنية في مواجهة الإمبريالية. يراد تعديل صورة العالم بإضافة تصورات عن العالم أو مطالب ورغبات، بحيث لا تستقيم صورة هذا العالم في الوعي دون إضافات من الذات المناضلة.
من خلال هذه الصورة عن العالم بين رأسمالية امبريالية يهيمن فيها رأسمال (الأمولة)، تظهر صورة حركة التحرر الوطني العربية بين الأزمة والتجديد. إن معظم البلدان التابعة أو المستتبعة، منها الصاعدة، كانت حتى وقت قريب محكومة بالاستعمار الذي معظمه احتلال مباشر أو غير مباشر، وبعضه بالخضوع للهيمنة. بعد الحرب العالمية الثانية ضعُف الاستعمار وجاء دعم الاتحاد السوفياتي لحركات التحرر الوطني التي حققت الاستقلال في هذه البلدان. تحقيق الاستقلال جاء مع التبعية للمراكز الرأسمالية. هل غيّر الاستقلال شيئاً في هذه البلدان؟ وهل كان ثمة نعمة حلت على هذه البلدان؟ أم أن هذه البلدان انتهجت طريقاً جعل التبعية عملية مستمرة؟ هل كان الاستقلال كذباً وتدليساً أم كان حقيقياً على الصعيد السياسي، ولم يستطع أن يتحقق على الصعيدين الثقافي والاقتصادي؟ بقيت هذه البلدان ضعيفة عسكرياً، وبقيت الثقافة ملتبسة بين نخب تربّت على يد الاستعمار السابق ومجتمعها الذي بقي تقليدياً مع اضطراره لاستخدام تقنيات حديثة في بعض القطاعات. الانفصال بين النخب الحديثة، وهي في معظمها ليبرالية، وبين أكثرية المجتمع كان شرخاً عميقاً استطاع من خلاله العسكر التسلل إلى السلطة. العسكر مؤسسة حديثة على قدر كبير من الضعف. ما استطاع العسكر الحكم إلا بالاعتماد على دعم خارجي من هذا المعسكر أو ذاك. مع الدعم الخارجي استطاع العسكر تدجين مجتمعهم وقمعه. هي حداثة من نوع آخر حكمت وكان حكمها على الصعيد الثقافي ثم الاقتصادي قشرة رقيقة، وغلفَتْ مجتمعاً متأخراً. التأخّر جرّ إلى التخلف واتساع الهوة بين المجتمعات المتقدمة والمتأخرة. لم يكن التخلّف حصيلة سيطرة خارجية. وهذه كانت موجودة بالفعل. لكن السيطرة من الخارج ما كان لها أن تستمر لولا الاستبداد. وهو يعتمد على العسكر، وإن كان على رأسه حاكماً مدنياً، أو إذا كان هناك انتخابات ديمقراطية. يمكن للديمقراطية أن تكون نظاماً للاستبداد أو للحرية. هتلر وموسوليني وصلا إلى السلطة بالانتخابات. هذا إذا لم نتكلم عن الأنظمة العربية وعن غيرها من بلدان أسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية، التي شاع فيها الاستبداد بحكومات عسكرية انتخبت بعدها بالديمقراطية (الانتخابات المزورة).
الأهم هو أن التحرر الوطني وجه آخر للتبعية. كلاهما على علاقة مع الخارج. كلاهما يقدم موارد البلاد للخارج طوعاً أو قسراً. كلاهما يعتبر أن الناس بحاجة لمن “يرشدهم” أو يقودهم على طريق الفهم والتقدم والحضارة. التحرر الوطني يحرر الوطن ويستبدل سلطة المستعمر ونهبه بسلطة “قائد” حرب التحرر الوطني الملهم، الذي يبقي البلد المحرر بعد الاستقلال على حالة تعبئة عامة واقتصاد بالأمر وعزلة ثقافية لا تعترف بثقافة المستعمر الامبريالية. يبقي المجتمع على حالة من الاستنقاع الثقافي. التحرر الوطني عقبة في وجه الحرية، وهي المطلب الأساسي وشرط التحرر الوطني دون تبعية. في معظم الحالات يستمر الاستتباع عن طريق التحرر الوطني، إن لم يتزامن التحرر الوطني منذ اللحظة الأولى مع الحرية. ليست الحرية مرحلة ما بعد التحرر الوطني. غالبا ما يؤدي التحرر الوطني الى فقدان الحريات بحجة أن الوطن يتعرّض لمؤامرات خارجية. مواجهة حقيقية بنظرنا للتبعية والاستعمار تكون بالحرية الفردية، لا بالتحرر الوطني فقط. تُستلب الحرية في الداخل عن طريق حكم الاستبداد السياسي أو الاستبداد الديني (سيطرة المجتمع على الفرد). وغالباً ما يتحالفان أو يتنازعان على السلطة؛ والأمر سيان. التحرر الوطني يكون استبداداً إذا لم يَقد مباشرةً إلى الحريات الفردية واحترام القانون والدستور. وغالباً ما يطلب “محررو” الوطن من الناس التضحية بحرياتهم في سبيل عيش أفضل بعد هزيمة المؤامرات الخارجية. وغالباً ما يخسر الناس الإثنين معاً. ليس غريباً أن يخسر لبنان الحريات الفردية، وينهار الاقتصاد، وتصادر ودائع الناس بعد انتصار التحرر الوطني في أعقاب تحرير الجنوب. جعلوا القضية أعلى من الوجود، وغاية له. وبرروا الفساد واستلاب الحريات باسم محاربة الفساد، واعتبار الحرية إلحاقاً بقضية المقدس تحت مسمى “الوفاء للمقاومة”، بدل أن تكون المقاومة وفاءً للناس. الثورة العربية لعام 2011 كانت ضد أنظمة التحرر الوطني، وبعضها اتخذ لقب الممانعة. ثورة 17 تشرين الأوّل/ اكتوبر 2019، كانت ضد التحرر الوطني أيضاً. التحرر الوطني ليس طريقاً إلى الاشتراكية. ما قاله تقرير المؤتمر الوطني الثاني عشر للحزب الشيوعي اللبناني هو نوع من الخطأ أثبتته التجارب الواقعية في بلدان آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية. هو وهمٌ ما زلنا نكرره منذ استقلالات بلادنا، كما نكرر كل شيء آخر من تاريخنا القديم والحديث. طريق التحرر الوطني تقود إلى شيء آخر هو الأصولية الدينية (أو غير الدينية).
إن ترادف تعبير التبعية مع التحرر الوطني يعني فيما يعنيه وضع جدار عزل دون الثقافة الغربية. ثقافة العصر. هي ثقافة العصر خاصة في عالم معوّلم تحكمه رأسمالية مالية. وصول الحداثة إلى نخبة من الناس وغرق البقية في التقليد هو من سمات هذه العولمة. لكن التمسّك بالتراث والأصالة في وجه الغزو الثقافي، وفي وجه الثقافة الغربية، وهي عالمية تفرض نفسها على العالم، أمر يقود إلى أصولية دينية، إذ تختصر المجتمع إلى الدين، والدين إلى التراث، والتراث إلى الأصولية، والأصولية إلى سلفية. الأصولية الدينية والسلفية المدعومة في جميع مناحي المجتمع تحوّل مزاج الناس إلى ما هو ديني ثم إلى ما هو أصولي. ومن هنا تنبت القاعدة وأخواتها.
إن المسألة لا تتعلّق بادعاء إسلام صحيح وآخر متطرّف، بل الأمر يتعلّق باتساع الجنوح إلى الدين والأخذ بمقولات الانعزال عن الثقافة العالمية المستمدة من مفهومي التبعية، إذ فيهما بذور الأصولية التي تجد أرضاً خصبة في تراب المجتمع، خاصة مع توالي الهزائم وحاجة الناس إلى الاحتماء النفسي بالدين لمواجهة ما يسمى الغزو الثقافي. ليس صدفة إضافة تعبير “الله أكبر” إلى العلم العراقي في زمن صدام حسين. المسألة ليست نظرية في التبعية مع تثبيت مقولة التحرر الوطني وحسب. إنها أيضاً مسألة الوعي والثقافة وجدران العزل بيننا وبين الثقافة العالمية، والتقوقع حول ثقافتنا الموروثة، ورفع تراثنا إلى مستوى القداسة، بدل أن نجعل منه تاريخاً ونخضعه لمناهج النقد والتقييم. ذلك لا يتأتى إلا بالخروج من هذا التراث كي نستطيع نقده وتقييمه، والخروج من الماضي والسكن في الماضي، إلى صنع التاريخ وولوج طريق التقدم. على أساس ذلك لا يكون النقد الثقافي كما الاقتصادي والسياسي خروجاً على الماركسية بل تطويراً لها. مراكمة فكرية على ما هو متاح، من أجل فكر يتجاوز الحاضر، ويطلّق الماضي، ويصنع المستقبل.
حركة التحرر الوطني العربية سوف تقترن بعدم الحرية منذ البداية، مع انعدام الحرية الفردية. وسيؤول الأمر إلى الاستبداد والحكم العسكري والمخابراتي. وهذا سيؤدي بدوره إلى التنافس، في غالب الأحيان، أو التحالف مع القوى الدينية الأصولية. وإذا ظهر الخلاف بينهما سيكون ذلك نزاعاً على السلطة. تتحوّل السلطة إلى دولة عندما تترسّخ قيم الحرية، أي عندما يقرر الفرد رأيه على أساس ضميره، لا على أساس ما يُملى عليه، وعندما يتمتّع بحرية الرأي لا بحرية إبداء الرأي وحسب. بالرأي الحر يشارك الفرد في السياسة. تتحوّل الجماعة إلى مجتمع سياسي، وتتشكّل الدولة من أفراد. وهي لا تتشكّل إلا من أفراد أحرار يشاركون في أمور الدولة وسياساتها. يتجاوزون كونهم رعايا. يتحولون إلى مواطنين في دولة. تصير الدولة وعاءً لهم. تتجاوز كونها مفروضة من الخارج، سواءً كان هذا الخارج استعماراً أو حكماً داخلياً استبدادياً. الاستبداد، حتى الذي جاء في أعقاب أو في أحضان التحرر الوطني، لا يكون إلا تابعاً للخارج، سواءً كان الخارج شرقاً أسيويا أو روسياً أو غربياً؛ علما أن الصين وروسيا وغيرهما هي أيضاً رأسمالية كالإمبراطورية الأميركية أو أذرعها في اوروبا.
إن التحرر الوطني يعني تحرر الجماعة أو المجتمع، أما الحرية فهي تحرر من تسلط المجتمع إلى الفردية والمواطنية. التحرر الوطني يقود إلى تعبئة المجتمع في وجه الخارج. وأن يكون ذلك بزعامة أبطال التحرر أو زبانيتهم بعد إبعاد الأبطال الحقيقيين أو قتلهم. التعبئة ضد الخارج اقتصادياً وثقافياً وسياسياً حجة الطاغية لتجديد حكمه وتأبيده، ونجاحه في “الانتخابات” الديمقراطية، واحدة بعد أخرى. الديمقراطية أيضاً تقود إلى الاستبداد. نقيضها هي السياسة حين تكون مجالاً مفتوحاً للجميع، حيث الفاعل الاجتماعي هو الفرد لا المجتمع الديني؛ الفرد المواطن لا مجتمع الرعايا. والسياسة الحقة لا تمارس إلا في مجتمع مفتوح. ليس بالضرورة ليبرالياً بل مفتوحاً على النقاش والسؤال والمساءلة والشك بكل ما يعتبر بديهياً، ونزع القداسة عن الذين اكتسبوها بفعل زعامتهم، والخروج من الاختناق بين الحلال والحرام مع إهمال المباح والمستحب والمكروه. الخلط بين نظرية رفض التبعية وبين نظرية التحرر الوطني يؤدي إلى أصولية من نوع آخر.
ثانياً- تقييم الوثائق الحزبية المؤتمرية بدلالة ما لم يناقشه المؤتمر الـ 12 للحزب الشيوعي اللبناني:
يخلو الحديث عن الوضع اللبناني من النقد لتجربة الحرب الأهلية التي شارك فيها الحزب الشيوعي اللبناني بجدارة، وفي قيادة فريق منها. أصبحت رواية تاريخ لبنان المعاصر عند جميع الأطراف تقريباً محذوفة من السردية كي لا يتطرّق كل حزب إلى الارتكابات التي مارسها هو وغيره من الأحزاب والتنظيمات. بذلك استحال النقد الذاتي وصار النقد مقتصراً على الآخرين. وفي ذلك تبرئة للذات. تطوّر الأمر إلى إلغاء التاريخ عملياً، إذ أن الاقتصار على جزء منه يضرب التسلسل. تفرط سلسة التاريخ ويفقد صفته الأساسية لحلقات متواصلة الأحداث. وبالتالي يغيب التقييم والنقد، ويصاب أصحاب هذا التاريخ بالثمالة، إذ استطاعوا تدميره.
يؤدي تدمير التاريخ إلى رؤى موروبة حول ما تبع الحرب الأهلية. اتفاق الطائف ما استطاع أن يكون دستوراً للخروج بنظرهم من الحرب الأهلية، علماً بان الخروج لم يكن إلا بتسوية بحجم اتفاق الطائف. تتحوّل الثلاثون سنة التي تلت الطائف إلى مقولة مجردة كمصدر للأحكام، خاصة فساد تلك المرحلة، دون ذكر ما حدث خلالها من تقدم وازدهار المجتمع وانتعاش الطبقات الفقيرة. لم تعد تنفع مقولة الثلاثين سنة الأخيرة سوى للتزوير التاريخي، وإبراز الفريق الأقوى الذي قادها بزعامة رفيق الحريري. هذا ما سهّل إلصاق التهم به، علما أنه قتل في منتصف هذه المرحلة، وقد كانت مرحلة ازدهار ونهوض. وحكم في النصف الثاني من هذه الثلاثين سنة عهدان رئاسيان بتوجيه وقيادة حزب الله. في هذه المرحلة، بدأ التراجع وصولاً إلى الانهيار الذي نعانيه، وسقوط الطبقة الوسطى إلى ما هو أدنى في السلم الاجتماعي، وسقوط الطبقات الأدنى إلى الفقر، وبعضها إلى الفقر المُدقع، حيث لا يكفي المدخول لتأمين ضروريات الحياة، هذا إن توفرت لهم. خرج التاريخ من كونه علماً ليصبح وجهة نظر. مجرد ايديولوجيا بائسة. كما كتب ماركس كتاب “بؤس الفلسفة”، يستطيع أحد باحثينا أن يكتب طويلاً في بؤس الايديولوجيا.
يَعتبر الحزب الشيوعي اللبناني نفسه أنه هو حزب الطبقة العاملة. ليت الطبقة العاملة اعترفت له بهذا الشرف. ربما كانت الطبقة العاملة تصنّف كذلك بسبب موقعها في سلم المداخيل ونوعية عملها، لكن هل هي تشكّل طبقة دون أن تعي نفسها كذلك؟ وكيف تصبح فاعلاً اجتماعياً دون ذلك؟ وإذا كان المرء في لبنان تصادره طائفته منذ أن يولد، فهل يتشكّل وعيه إلا طائفياً؟ وهل الانتماء الطبقي أقوى من الانتماء الطائفي؟ هل يقترح الحزب التحالفات للتعويض عن هذا الضعف؟ علماً أن التحالفات ضرورية في كل آن وفي كل مكان.
لبنان لا يتشكّل من طبقات بل من طوائف مسيطرة على الأفراد في الفكر والعمل. ألا تستحق التشكيلة الاجتماعية تحليلاً أكثر مما ورد؟ التشكيلة الاجتماعية مصدر الفعل والسلوك والفهم لدى أفراد المجتمع اللبناني. الطبقة السياسية (الرأسمالية) تعرف ذلك، وتعمل على أساسه. الحزب الشيوعي يعي ذلك بدرجة أقل لكنه لا يعتبر ذلك أولوية في برنامجه السياسي. هذه آفة اليسار عموماً منذ بدء الخليقة. ننجح في نضال مطلبي تعبيراً عن مطالب طبقية. لكننا نفشل في نضال سياسي يكون متلائماً مع التشكيلة الاجتماعية. إلى أي مدى إذن، نفهم مجتمعنا؟ وإذا فهمناه فلماذا لا نناضل على هذا الأساس؟ ولماذا نناضل على أساس برامج مستوردة من بلدان خلت من الطوائف كما نعرفها؟ أليس في ذلك تبعية فكرية لأحزاب شيوعية في دول أرقى ثقافياً وأعتى في النضال الطبقي؟ وهل ذلك إلا نوع من التبعية الفكرية؟ في مطلع التقرير كان البدء بنقد التبعية، وهذا صحيح. وصحيح أيضاً أن النظام الرأسمالي تطوّر للأمولة. وصار الرأسمال المالي مسيطراً على الرأسمال الإنتاجي. وصار اقتطاع القيمة الزائدة، الربح أو ما زاد عن الأجور وهي الحد الأدنى الذي بالكاد يكفي لمستلزمات المعيشة الضرورية، يتم لا على أرض المعمل أو في المزرعة، بل على الأكثر في بورصات تبادل المال والأوراق المالية والأسهم. وشاع العمل الفكري، إلى جانب ذلك، لكننا ما زلنا عاجزين عن تحليله على أساس النظرية الماركسية، بالأحرى على أساس فهمنا لهذه النظرية. وبالتالي، هل الاقتصاد العالمي إلا اقتصاداً ريعياً، حيث المال ينتج المال، والربح ينتج الربح. وحيث الثروات تتراكم دون استثمار في الصناعة أو الزراعة أو في أي عمل منتج، إلا بالاستثمار في المال؟ تحوّل المال إلى هدف بذاته ولذاته. لم يعد مجرد أداة للتبادل وقياس القيمة. صار هو القيمة. تحوّل عمل الناس من وسيلة لإنتاج ما يلبي الرغبات إلى أداة بيد الرأسمال لإنتاج مزيد من الرأسمال (مراكمة الربح). صار مركزاً لعبودية جديدة تصدرها البلدان الرأسمالية من المركز إلى الأطراف. لا تستخدم الناس عبيداً في بلادها بل عبيداً في بلادهم. وتحمي هذه العبودية منظومة بلدان “التحرر الوطني”. تسمية الصين على أنها “بلد صاعد” لا تفيدنا في فهم الصين كبلد رأسمالي، يبيع الأيدي العاملة للرأسمال الغربي، بما في ذلك الصيني، والنخب الرأسمالية في العالم موحدة الموقع أو الوضع الاجتماعي الوطني والعالمي.
ما لا يناقشه مؤتمر الحزب الشيوعي اللبناني هو نجاح الرأسمالية في تجديد نفسها، وزيادة وتكثيف استغلالها للجنس البشري. في حين يكثر الحديث عن أزمة الرأسمالية وأزمة النظام العالمي، بما في ذلك العولمة التي يُكتب في أمكنة أخرى الآن عن نهايتها بمناسبة حرب أوكرانيا. أزمات الرأسمالية تتكرر، لكنها عرفت كيف تجدد نفسها ولو على حساب البشرية. ما جددت الرأسمالية نفسها بعد أزمة 2008 إلا على حساب الفقراء ودافعي الضرائب الذين ازدادوا فقراً، كي يذهب ما يُسلب منهم لدعم الشركات الكبرى المتعثرة؛ وهذه ازدادت فيها رواتب وجوائز وحصص مدرائها وكبار المساهمين فيها، وازداد عدد أصحاب الثروات بالمليارات من الدولارات، بينما معظم البشرية كان يغرق في الفقر المدقع.
أزمة الفقراء، وهم أكثرية البشرية، هي الأزمة التي لا شفاء منها على المدى المنظور، ولمدة طويلة. آفة اليسار عموماً، والشيوعيين خاصة، أنهم يتحدثون على الدوام عن أزمة الأغنياء. وهؤلاء أصحاب قدرة على تجاوز أزمتهم. ولا يُكثرون الحديث عن أزمة الفقر والفقراء الذين لا يملكون الوسائل للخلاص منها. إذا كان أصحاب الدين موعودين بالخلاص في السماء، فغير المؤمنين لا خلاص لهم في السماء أو على الأرض.
أما الثورة العربية عام 2011، فلم ير المؤتمر أنها حدثت في وقت واحد تقريباً في كل البلاد العربية. ودلالة ذلك على أن الشعوب العربية تسير بوتيرة واحدة استجابة لتطورات التاريخ، وأنه تبعاً لذلك لن تكون الوحدة العربية إلا وحدة دول إن حصلت. وحدة الشعوب في “انتفاضة” واحدة من المحيط إلى المحيط دليل على وحدة الشعوب. لم ير مؤتمر الحزب الشيوعي أهمية مطلب “الشعب يريد إسقاط النظام”. والنظام هنا هو منظومة أنظمة أورثتنا إياها حركات التحرر الوطني وغاصت حتى أذنيها بالتبعية. إرادة الشعوب كانت كما أعلنتها شعارات الثورة: “عيش، كرامة، عدالة اجتماعية”. وأن الحائل بينها وبين ذلك هو الأنظمة. رفضت كل الإرث المتراكم من إلقاء لائمة التخلف والتأخر على الخارج، وأن الحل في الداخل. ورفضت الشعار الديني “الإسلام هو الحل”. لم يفهم الإسلاميون معنى ذلك، وسقطوا بسبب ذلك. اعتبر هؤلاء أنهم سوف يركبون موجة الثورة لكن المواجهة أزاحتهم. كانت المواجهة بين الناس بثورتهم والثورة المضادة. فهمت الطبقات الحاكمة العربية مغزى الثورة (الثورات العربية)، فتضامنت للقيام بثورة مضادة عن طريق القمع حيناً، والحرب الأهلية حيناً آخر، أو التنازلات في بلد آخر، أو بذل المال للناس لإسكاتهم في بلد نفطي. لا تعرف الثورة المضادة، وهي طريق الأنظمة الحاكمة، على اختلاف ميولها الاستبدادية سياسياً أو دينياً، سواءً عربية أو إيرانية أو تركية، سوى العنف والقوة، انتهاءً بالحرب لمواجهة شعوبها وقمعها.
المهم في الثورة العربية، حتى في ما يتعلّق بقضية فلسطين، أن التعويل على الداخل لا الخارج هو الأساس، وجوهر ذلك هو العمل والتقدم والإنتاج من أجل عيش كريم وعدالة في التوزيع. وفي ذلك خالف العرب طريق الأتراك والإيرانيين بعد معاناتهم من التدخل الخارجي في بلاد العرب واحتكار قضية فلسطين (إيران)، واستبدال العروبة بالمقاومة (إيران)، والتلاعب على القضية العربية والفلسطينية (تركيا). وأعلنت الشعوب العربية تجاوز عقدة الخارج، والاتجاه إلى داخل كل قطر عربي للإصلاح والتقدم. تُعاقب الشعوب العربية على هذا الخيار، وكان التطبيع مع إسرائيل أحد أشكال العقوبة. وخيضت في المشرق العربي على الأقل حرب عالمية ضد الناس، شاركت فيها روسيا التي تخوض حرباً في أوكرانيا، والتي “ركبت رأسها” بعد مجازر ارتكبت في الشيشان، ثم دخولها جورجيا، ثم كازاخستان ضد شعبيهما دون مواجهة؛ وهي التي تخاض ضدها حرب عالمية بعد أن “خدعوها بقولهم حسناً”، كما فعل الأميركيون مع صدام حسين وخداعه ليدخل الكويت ويشن قبلها حرباً ضد إيران، التي لم ينقذه منها إلا التدخّل الأميركي بسلاح سُمي نوعياً لإجبار إيران والخميني على تجرّع كأس السم عام 1988.
حروب تحل فيها السياسات الجيوبوليتيكية بين الدول مكان صراعات الداخل. وأهم صراعات الداخل هو الصراع الطبقي إلى جانب الصراعات الإثنية القومية. حروب عالمية موضعية تجتمع فيها قوى النظام العالمي العظمى والعظيمى في مكان واحد بدل أن تكون في كل الأماكن على الأرض. في كل منها خطر استخدام السلاح النووي أمر وارد. حروب إبادة وأرض محروقة، كما في سوريا والعراق واليمن وأوكرانيا الآن. يختلف أطراف النزاع العالمي في أوكرانيا لكنهم يتحالفون ضد شعوب منطقتنا العربية. للعرب معاملة خاصة في النظام العالمي. هذا ما لم يلحظه مؤتمر الشيوعيين اللبنانيين. والمسألة ليست في حركات تحرر وطني تواجه التبعية بل في إيغال هذه الحركات في التبعية والتحالف مع ما تيسّر من امبراطوريات ضد الشعوب العربية. المسألة هي أن لا يستخدم مفهوم “التبعية” في سبيل عزلة ثقافية عن الغرب وعلومه وثقافته. ينتهي الأمر إلى الوقوع في فخ الأصولية الدينية. وأن لا تعتبر حكومات المنظومة العربية الحاكمة معادية للاستتباع. هي جزء من حرب إبادة ضد الشعوب العربية لصالح أنظمة الاستبداد والامبراطوريات التي تساندها.
انطلقت مقررات مؤتمر الحزب الشيوعي اللبناني من رؤية للعالم، ترى من خلالها أوضاع المنطقة ثم أوضاع لبنان. هذه الرؤية هي في أساسها مغلوطة وغير صالحة لفهم ما يجري. جوهر القضية النضالية ليس التحرر الوطني بمعنى تحرر المجتمع من الخارج، بل هو الحرية داخل كل مجتمع. كلنا مجتمعات مغلقة معدومة الحريات الفردية. والتحرر يبدأ من هنا لا من الخارج كما اعتبر ورثة حركات التحرر الوطني. مجتمع مفتوح لا يحيط نفسه بسياجات ضد الخارج، ومدافع عن الحرية والمشاركة، هو بداية السير نحو الاشتراكية. لا تجد الطبقات المقهورة والمستغلة نفسها إلا في مجتمع من هذا النوع.
* مثقف وكاتب لبناني
المصدر: 180 بوست
التعليقات مغلقة.