الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

حديث الثورة المصرية من داخل أروقة البيت الأبيض

محمد المنشاوي *

سمح لي عملي السابق فى أحد مراكز الأبحاث الأمريكية بواشنطن بالاقتراب من دائرة مسؤولي الشرق الأوسط والملف المصري بمجلس الأمن القومي أثناء عهد الرئيس الأسبق باراك أوباما. وأستطيع الجزم بكل ثقة بأن البيت الأبيض فوجئ بالثورة المصرية عند اندلاعها فى الـ25 من كانون الثاني/ يناير 2011.

لم تتبع إدارة أوباما نهجاً مخططاً متفقاً عليه لدى اندلاع ثورات شعبية فى دول حليفة، فلم يكن هناك شيء كهذا، واتبع أوباما مبدأ الانتظار والترقب (Wait & See) قبل التسرع بإعلان موقف واضح من ثورة الشعب المصري، تبع ذلك محاولات أمريكية للبحث عن تقليل أي أضرار نتيجة التغيير المنتظر، وتطور الموقف داخل أروقة وغرف مجلس الأمن القومي المعاون للرئيس أوباما ببطء وعلى سبيل رد الفعل على تطورات الأوضاع داخل شوارع وميادين مصر.

بداية فى ظل الغموض إزاء ما يجرى بمصر فى ساعات الثورة الأولى، تم تأكيد الثقة فى نظام مبارك، وامتد ذلك الموقف إلى الأيام الأولى للثورة المصرية. جاء ذلك بوضوح على لسان كل من وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون ونائب الرئيس السابق جو بايدن، عندما أشارا إلى المطالبة فقط بتبني إصلاحات حقيقية فى مرحلة لاحقة.

وعملت واشنطن على ضمان عدم إسقاط النظام المصري كله، وقبلت بل شجعت صيغة «orderly transition» (انتقال منظم للسلطة) يسمح بتولي نائب الرئيس اللواء عمر سليمان زمام الأمور فى مصر، ومنع حدوث تغيير حقيقي فى السياسات المصرية فى الملفات المهمة لواشنطن مثل العلاقات مع إسرائيل، والتعاون الأمني والاستخباراتي، والموقف من تنظيم حماس وحزب الله والعلاقات مع إيران.

                                                                                      *            *           *

ورغم أن ثورة مصر ركزت جهودها بداية على القضايا الداخلية خاصة تلك المتعلقة بالحريات والحقوق الديمقراطية، ولم يكن لإسرائيل أو للصراع العربي الإسرائيلي مكانة تذكر فى نداءات المتظاهرين والمتظاهرات فى مختلف ميادين مصر، فإن إسرائيل كانت حاضرة بشدة فى مختلف مناقشات تطورات ثورة مصر فى واشنطن.

وبدأت واشنطن بطرح أسئلة على نفسها، منها: كيف يمكن لواشنطن أن تتعامل مع قوى إسلامية قد تمنحها الثورة الحكم؟ وكيف لها التعامل مع قيادة جديدة ربما قد تناصب إسرائيل العداء؟ وهل تستمر فى تقديم مساعدات عسكرية واقتصادية لمصر، حتى لو جاء رئيس يهدد اتفاقية السلام مع إسرائيل؟

ومثّل وجود وفد عسكري كبير بقيادة اللواء سامى عنان، رئيس هيئة الأركان المصرية السابق، فى واشنطن مع حدوث إرهاصات الثورة، وبقائه أياماً عدة، فرصة لإدارة أوباما للتواصل مباشرة مع الجيش المصري، وللتأكيد لقادته ضرورة عدم اللجوء إلى العنف ضد المتظاهرين تحت أي ظرف.

وتحت ضغط المتظاهرين لم يكن أمام قيادة الجيش إلا إبلاغ الرئيس مبارك ضرورة التنحي فوراً، وهو ما حدث يوم 11 شباط/ فبراير 2011.

                                                                                      *            *           *

أثناء الأيام الـ18 للثورة انقسم فريق إدارة أزمة مصر داخل البيت الأبيض الذى كان يبحث المستجدات لحظة بلحظة إلى فريقين، كان بينهما إضافة إلى المواقف المتعارضة فجوة جيلية واضحة. فالفريق الأصغر سناً تكوّن بصورة رئيسة من دينيس ماكدو من مواليد 1969، وهو نائب مستشار الأمن القومي قبل أن يصبح كبير موظفي البيت الأبيض، والسيدة سامنتا باور من مواليد 1970، الصحفية والأكاديمية البارزة بجامعة هارفارد، والتي عملت مستشارة لأوباما لشئون حقوق الإنسان، وسفيرة لاحقا بالأمم المتحدة ثم مسؤولة عن المساعدات الخارجية فى عهد الرئيس جو بايدن، والأكاديمي البارز فى قضايا التحول الديمقراطي مايكل ماكفولن وهو من مواليد 1963، وشغل لاحقا منصب السفير فى موسكو، وأخيرا أصغرهم جميعا بن رودس من مواليد 1978، وهو خريج جامعة جورج تاون، وعمل مستشارا للشئون الدولية فى مجلس الأمن القومي، وكان أقرب المساعدين إلى قلب وعقل الرئيس أوباما.

الفريق الأكبر سنّاً كان أكثر محافظة فى تفكيره نتيجة سنوات خدمتهم الطويلة داخل أروقة الحكومة الأمريكية وتأثرهم بالتقاليد البيروقراطية المحافظة فى الشأن السياسي. وكان أبرز وجوه هذا الفريق وزيرة الخارجية السابقة هيلاري كلينتون وهى من مواليد 1947، إضافة إلى وزير الدفاع روبرت جيتس وهو من مواليد 1943، والرئيس الحالي جو بايدن (كان نائباً لأوباما) والمولود عام 1942، ومستشار الأمن القومي توماس دونيلون المولود عام 1955، ودينيس روس مسؤول ملف الشرق الأوسط بمجلس الأمن القومي وهو من مواليد 1948.

ورأى فريق الشباب أن ما يحدث هو ثورة حقيقية وطالبوا بدعم رموزها، أما فريق المسنين فقد طالب بالتلكؤ، وعدم التخلي عن الحليف حسنى مبارك، إلا أن كلا الفريقين اتفقا على شيء واحد، وهو أن عملية الانتقال الديمقراطي ليست أمراً سهلاً وستأخذ سنوات عدة، وسيتخللها كثير من الفوضى، وربما العنف.

وكان صوتا بايدن وكلينتون هما الأعلى بين أفراد فريقهما المحافظ، محذرين من أن البديل الوحيد لنظام مبارك هو حكم الإسلاميين.

ولم تملك واشنطن إلا مباركة ما حدث فى مصر، والتعامل مع واقع جديد، هو السيناريو الحاكم لواشنطن فى تناولها مع الملف المصري فى العقد الأخير.

إن واقعية واشنطن وسعيها إلى تحقيق مصالحها يجعلانها تحتفظ بعلاقات قوية مع من يحكم مصر، فهي تعاملت مع مبارك الدكتاتور، ومع المجلس العسكري، ثم مع الرئيس الاسبق محمد مرسى الإسلامي، ومع الرئيس الحالي عبدالفتاح السيسي، بطرق لم تتغير فى جوهرها.

واليوم تتعامل واشنطن تحت رئاسة جو بايدن بطرق لا تخدم إلا مصالحها وبصورة لا تختلف كثيرا عما حدث ويحدث منذ ثورة 25 كانون الثاني/ يناير وحتى الآن.

* كاتب صحفي متخصص في الشؤون الأمريكية

المصدر: الشروق

التعليقات مغلقة.