سمير العيطة *
فى زمن الجنون العالمي السائد اليوم، يُلاحظ صعود مشاعر الهويّات والانتماء لدى بعض الشعوب وانهيار المشاعر نفسها لدى شعوب أخرى. وهذا أنعش احتدام النقاش من جديد حول نظريات «صراع الحضارات» التي كان قد أطلقها المفكّر الأمريكي صامويل هنتنغتون بعد انهيار الاتحاد السوفييتى. خاصة وأنّ هينتغتون نفسه لم يرَ فى نظريّته أنّ صراعاً قد ينشأ بين روسيا وأوكرانيا حيث يتموضع خطّ التماس بين الإرث الكاثوليكي لأوروبا الغربيّة والإرث الأرثوذكسي لشرقها لأنّ الاثنين فى النهاية… أوروبيّان ومسيحيّان.
فى الحقيقة، كانت الهويّة الأوروبيّة قد شهدت صعوداً لا سابق له حتّى قبل الغزو الروسي الحالي لأوكرانيا وبروزاً واضحاً لتضامن الشعوب والحكومات الأوروبيّة مع الشعب الأوكراني. إنّ هذا الغزو يشكّل فى بعض جوانبه صداماً بين الإصرار على الهويّة السلافيّة وبين مصيرٍ يأخذها إلى الزوال مع صعود الهويّة الأوروبيّة. فأوكرانيا كانت تاريخيّاً مهداً للهويّة، والكنيسة، السلافيّة الروسيّة حتّى قبل موسكو. وشعب البلد كان وبقي أكثر تجانساً فى أصوله «القوميّة» من روسيا الإمبراطوريّة المترامية الأطراف والتي تضمّ تحت جناحها شعوباً متعدّدة، بما فيها تلك التي تتبنّى عقائد مختلفة عن المسيحيّة.
نمت مشاعر الانتماء إلى «حضارة أوروبيّة» بشكلٍ لافت مع توسّع الاتحاد الأوروبي، بدءاً من إسبانيا والبرتغال، وتوسّعاً لتشمل أوروبا الشرقيّة بعد انهيار المنظومة السوفييتيّة. مشاعر انتماء «لجوهر هويّة» تختلط فيها أبعاد نموذج الحريّات العامّة والحكم «الديموقراطي» والتقدّم والتكامل الاقتصاديّين بالتوازي مع نموّ الهويّات القوميّة لكلّ من بلادها مع صعودٍ ملحوظ لليمين المتطرّف فى المناخ السياسي الاجتماعي. بل يرى أغلب دعاة هذا اليمين المتطرّف «القومي المحلي» فى روسيا نصيراً أوروبيّاً أساسيّاً ضدّ «الحضارات الأخرى» التي دخلت معها فى صراعٍ، داخلي بالمناسبة، وخاصّة «الحضارة الإسلاميّة» بعد أحداث سبتمبر 2001.
* * *
توضح الحرب القائمة اليوم فى أوكرانيا أنّ مشاعر الهويّة «القوميّة» الأوكرانيّة قد نمت بشكلٍ قوي رغم الإرث السلافي المشترك مع روسيا. مشاعرٌ تُقوّلب هذه «القوميّة» ضمن «الحضارة الأوروبيّة» و«فرادة أصولها» التي لا تتحمّل كثيراً التعدّد الديني» خارج المسيحيّة. أوكرانيا أوروبيّة وليس تركيا التي حلمت طويلا بالانضمام إلى الاتحاد الأوروبي» للخروج من مشاكلها قبل أن يتمّ رفضها بفظاظة لتعود، بشيء من المرارة إلى حلم «الحضارة العثمانيّة».
إنّ «فرادة الأصول» الأوروبيّة هذه تحمل تبعات تطوّرات داخليّة فى البلدان الأوروبيّة، وخاصّةً المشاعر الإسلاميّة لجزءٍ من مواطناتها ومواطنيها الذين قدموا إليها منذ زمنٍ طويل فضلاً عن المهاجرات والمهاجرين الجدد. إنّ الهويّات القوميّة المحليّة لا تستطيع احتواء مشاعرهم ولا هم يشعرون بالانتماء العضوي لبلدان لم يعرِف أصلاً أبناؤهم غيرها. «فرادة أصول» وإن حملت أبعاد حريّات وحقوق إنسان، تحتوي فى بعض جذورها بقايا نظرة الاستعلاء التي كانت قائمة فى القرن التاسع عشر، زمن الاستعمار الصريح، تحت غطاء نشر «الحضارة» عند الشعوب «المتخلّفة».
«فرادة أصول» تدّعي مرجعيّة اليونان القديمة وروما فى أصولها، رغم أنّ هاتين الحضارتين التاريخيّتين كانتا أساساً متوسطيّتين، أي تتشاركان مع الضفّة الأخرى للمتوسّط، قبل أن تكونا… أوروبيّتين. وهويّة أوروبيّة تبدو على نقيض الهويّة الروسيّة التي تتقبّل أن يتمّ تطبيق الشريعة الإسلاميّة فى أحد أجزائها، أي الشيشان اليوم.
بالمقابل، يُلاحظ كيف أنّ هويّة «العالم الإسلامي» اليوم ليست جامعة بحيث يتمّ تقبّل الاختلاف المذهبي» السنى- الشيعي، كما فى أوروبا الكاثوليكيّة والبروتستانتيّة والأرثوذكسيّة. بل لا يُمكن ضمن تلك الهويّة حتّى الاتفاق على موعد بداية شهر رمضان. بحيث يبدو أنّ هلال القمر يظهر بشكلٍ مختلف بين السنّة والشيعة، وكأنّ دوران الأرض والكواكب لا يخضع لأيّة قوانين وحسابات فلكيّة. هذا رغم عدم وجود للبابويّة أو لبيزنطة فى الإسلام كي يختلف التقويم الهجريّ بين الطائفتين… واللافت هو استمرار هذا الانقسام «الجوهري» مهما اختلفت التوجّهات فى ذات الدول «الإسلاميّة» نحو مزيدٍ من التزّمت الديني أو العكس نحو الانفتاح «الليبرالي».
كما يلفُت الانتباه كيف تتموضع الهويّة «الحضاريّة الإسلاميّة» نسبةً إلى الهويّات القوميّة، التاريخيّة والحديثة. حيث يتمّ دوماً إبراز القوميّات التاريخيّة المختلفة، التركمانيّة والفارسيّة والعربيّة وغيرها، على أنّها أساس الانقسام المذهبي والتعصّب لهذا التفسير أو ذاك. هذا بالرغم من أنّ التاريخ كثيراً ما شهد تحوّلاً للشعوب المعنيّة من مذهبٍ إلى آخر. كما يُلاحظ أنّ حركات «اليمين المتطرّف» الديني فى البلدان الإسلاميّة تختلِف عن الحركات فى أوروبا بحيث أنّ همّها الأساسي هو تخطّي الهويّات القوميّة المحليّة، انطلاقاً من الإخوان المسلمين وحتّى تنظيمي «القاعدة» و«داعش»، بحيث تتشنّج العلاقة بين القوميّات المحليّة وبين الهويّة الإسلاميّة بشكلٍ كبير ضمن الصراع بين التراث… والحداثة. وذلك حتّى فى إيران والسعوديّة وباكستان.
الأمر سيّان بالنسبة «للهويّة الحضاريّة العربيّة» التي كانت قد شهدت زخماً حقيقيّاً فى القرن العشرين وتعزّزت فى صراعها مع المشروع الصهيوني الاستيطاني. لكنّها اصطدمت من ناحية مع صعود «الهويّة الإسلاميّة» من جديد ومن ناحية أخرى مع صعود القوميّات المحليّة القديمة أو الناشئة. ولعلّ، أقلّ ما يقال، إنّها أفُلَت وبدأت تندثر بحيث بات التساؤل واقعيّاً عن الحاجة اليوم حتّى لوجود «جامعة دول عربيّة». هذا بالرغم من أنّ البلدان العربيّة تتشاطر كثيراً من عناصر «الحضارة»، بمعنى التاريخ، وأكثر بكثير ممّا تتشاطره الدول الأوروبيّة مع بعضها البعض.
* * *
لم تعُد فلسطين وقضيّتها عنصراً أساسيّاً للهويّة العربيّة. ذلك أنّ كثيراً من الشعوب العربيّة قد تأقلمت مع الهزائم والنكسات ومن ثمّ مع التطبيع التدريجي ثمّ المتسارع مع إسرائيل. بل وصلت الأمور مع الأزمة الأوكرانيّة إلى مشروع تحالفٍ عسكري معها. وكأنّه ليس هناك لا احتلال ولا «أبارتايد» (نظام فصل عنصري) ولا مستوطنات ولا عنجهيّة جيش إسرائيلي أرضاً وجوّاً. هذا على خلفيّة صعود الهويّات «الوطنيّة» المحليّة فى بعض الدول العربيّة وتداعيها فى دولٍ أخرى على أسسٍ عرقيّة ومذهبيّة.
وتعيش البلدان العربيّة حروباً خفيّة أو صريحة بين بعضها البعض، وتنهار بعضها كأوطان وتتقسّم، دون رادع أو تحسّب لما سيأخذ إليه هذا التداعي على الجميع. بل إنّ شعوب هذه البلدان تجوع رغم ثراء أرضها وثراء جيرانها.
لا معنى لصراع الحضارات فى عصر الجنون الحالي. وإنّما هناك دروسٌ للتاريخ. أنّ الهويّات التي لا يُمكن التهرّب من جذورها لا تأخذ الشعوب إلى مستقبل أفضل سوى إذا تبنّت مشروعاً «وطنيّاً» واقعيّاً يحمل فى طيّاته تقدّماً للمجتمعات وحمايةً لها… حتّى، وخاصّةً، من جنونها.
* كاتب سوري ورئيس منتدى الاقتصاديين العرب
المصدر: الشروق
التعليقات مغلقة.