كمال عبد اللطيف *
تحل ذكرى الثورة الناصرية في مصر في زمن نجد فيه أنفسنا أمام بقايا دول عربية بدون أفق، وبقايا مجتمعاتٍ مُفَكَّكَة، وقد تحوّل بعضها إلى نقط جاذبة للقوى الإقليمية والدولية بحسابات التاريخ والسياسة. لا نتجه هنا إلى تقييم المنجز السياسي الناصري وتحولاته، بل إننا نستمع لإيحاءات الذكرى في علاقاتها بشعارات المشروع الناصري من جهة، وبمآلات الراهن العربي. نتذكَّر أن الثورة حملت، زمن حصولها، جملة من العلامات المؤشرة على أفق في التحرير والبناء، تسندها سياقاتٌ تاريخيةٌ ترتبط بمقتضيات الاستقلال والتحرير، لتحضر بدلها اليوم سياقات وشروط أخرى تحمل في مصر وفي بلدان عربية عديدة، مؤشرات التراجع القائمة والمتفاقمة.. تحل الذكرى لنجد أنفسنا أمام عربٍ بلا أفق تاريخي محدّد، بل لنجد أنفسنا أمام أنظمةٍ سياسيةٍ تفكّكت وأخرى في طور التفكُّك، وأمام مجتمعاتٍ تحوّلت إلى قبائل وطوائف ومليشيات بلا وطن جامع، ولا أفق سياسي ناظم تُصَوِّب نظرها نحوه.
يتجلى غياب الأفق الجامع، في الإغفال المتزايد لمقوّمات الاندماج الوطني والقومي، وإغفال المؤسسات التي بنتها الأجيال السابقة، لِتُمَكِّن الأنظمة العربية من أحزمة التشاوُر والتضامن، ثم التنسيق والتكامل، فقد اختفت، منذ سنوات، مؤتمرات قمة جامعة الدول العربية، وعندما تجتمع في مناسبات معينة للقيام بِطَقْسٍ تطهيري، لا أحد ينتبه إلى البيانات التي تصدر عنها. كما غابت مؤسسات التعاون الإقليمي العربية، وأصبح مؤكّدا أن إرادة سياسية مشتركة حَوَّلَتْها إلى مؤسساتٍ بدون عمل. كما يتجلى غياب الأفق، في صور (وأشكال) الصراع المتواصل بين الإخوة الأعداء، في المغرب والمشرق وفي الخليج، واكتفاء الجميع بمشاهدة صور ما يجري، من دون مبادرات مؤسسية تتيح وَقْف النزيف.
لا نريد ربط ما يحصل في العالم العربي بتداعيات ثورات 2011 وما أنجبت من ثورات مضادّة، ولا ربطه بالمؤامرات الدولية والإقليمية التي تُحَاكُ ضد مجتمعاتنا، وذلك على الرغم من صلة كثير مما أشير إليه هنا من أوجُه ما يجري اليوم في مجتمعاتنا. مستويات الارتباك السياسي التي تملأ حاضرنا تُعتبر مُحصِّلةً تاريخية لطبيعة التفاعل الذي حصل وما فتئ يحصل بيننا وبين مختلف التحوّلات التي يعرفها العالم حولنا، ولم نتمكّن من إدراك أبعادها. أتصوَّر أننا طرفٌ مُشارِك في الويلات التي لحقتنا ولم نستطع لها رَفْعاً. وعندما نقف مثلاً أمام صور تعطيل مؤسسةٍ إقليمية عربية مثل اتحاد المغرب العربي، سندرك بوضوح أن عطالة هذه المؤسسة تعود، منذ عقود، إلى الصراعات الجزائرية المغربية، وهي صراعاتٌ تتحكّم فيها معطيات سياسية كثيرة تعود إلى خمسينيات القرن الماضي، وقد غذَّتها، في زمن لاحق، تخندقات الحرب الباردة، ثم تطوّرت بسبب النزاع الذي نشأ في موضوع الصحراء المغربية. وكان يمكن أن تساهم المؤسسة المذكورة في محاصرة جوانب عديدة مما جرى في ليبيا.
ينطبق الأمر نفسه على مجلس التعاون الخليجي الذي يقف اليوم عاجزاً عن إيجاد حل للخلافات القائمة بين مكوناته، وعاجزاً أمام القوى الدولية والإقليمية التي تتجه إلى تفكيك المشرق العربي، ومنح إسرائيل جوازات عبور نحو بلدان الخليج لبناء صفقة القرن، مقدمة لإتمام مشروع الشرق الأوسط الجديد.
نعتبر أن ما يحصل اليوم في العالم العربي مرتَّب في سياق معين، تتحمَّل فيه أنظمتنا ومجتمعاتنا ونخبنا النصيب الأول والأكبر، أما التكالب والمؤامرات التي تمارسها الأطراف الأخرى الإقليمية والدولية بِمَعِيَّتِنا، فإنها تندرج ضمن السياق نفسه، بحكم أن التواطؤات القائمة والمُعلنة، وحسابات المصالح التي تقوم بها الأطراف المتصارعة داخل الأنظمة العربية المنهارة، أو الأنظمة التي تنتظر استكمال عمليات انهيارها واختفائها، تمارس مع القِوى المتربصة بنا أدواراً مشتركة، الأمر الذي يسهّل عمليات التفكك الجارية، ويُمَكِّن، في النهاية، من عودة شكل من أشكال الاستعمار إلى البلاد العربية.
لنتأمَّل صور تبادل المواقع الحاصلة بين تركيا وإيران في عالمنا، وهي عملية تجري أمامنا. فهما يحضران معاً في سورية، وتحضر إيران أيضاً في لبنان واليمن، كما تحضر تركيا في ليبيا، وهما معاً يحضران بمراسيم أخرى، جغرافية وسياسية وثقافية، وحضورهما ممتدّ في تاريخنا القريب والبعيد.. أما روسيا والولايات المتحدة الأميركية وبعض دول الاتحاد الأوروبي (فرنسا وألمانيا وإيطاليا) فإنهم يحضرون في مختلف البؤر المتصارعة في عالمنا، وعناوين حضورهم وغيابهم في مجتمعاتنا ومؤسّساتنا مؤكّدة، سواء زمَن المدِّ الإمبريالي في القرن التاسع عشر، أو زمن الحروب الباردة في النصف الثاني من القرن العشرين، وقد أصبح بعضهم يحضر اليوم بتوسّط مافيات السلاح ومليشيات الحروب. أما النتيجة المُتَرتِّبة عن كل ما سبق فتتمثَّل في مظاهر التفكك المتواصلة في العراق وسورية وليبيا واليمن ولبنان.. تختلف كثير من جزئيات التفكك والانهيار، إلا أنها قائمة. يتعطل حصول التفكك والانقسام هنا وهناك مؤقتاً، إلا أنه قادم إذا لم تتوفر الإرادة السياسية القادرة على محاصرة عنف التدخلات الإقليمية والدولية الغازية، التي تعلن أنها تحمي الثروات البشرية والطبيعية، وتبحث عن حلول للمآزق السياسية والتاريخية التي تعرفها هذه البلدان.
لا يشبه الخراب الحاصل اليوم في البلدان المشار إليها خراباً مماثلاً حصل في تاريخها، مثلما لا تشبه عودة الاستعمار اليوم ما حصل في القرنين التاسع عشر والعشرين. نحن اليوم أمام تفكُّكٍ ينبئ بتحولاتٍ كبيرة، وأمام استعمار يَتِمُّ بتوسط أطراف بعضها جزء منا ومن تاريخنا. وفي السياق نفسه، نتصوَّر أن مظاهر الخراب والتفكك القائمة تُعَدُّ جزءاً من وقائع التاريخ القابلة للفهم والتجاوُز في الآن نفسه، ولن يحصل هذا الأمر، من دون وقف التبعية والتناحر الأعمى، ومن دون التعلم من خيبات وهزائم الماضي.. ما يقع أمامنا اليوم لا يرتبط فقط بتداعيات الثورات العربية، ولا يمكن تفسيره بإرادات القِوى الدولية والإقليمية الغازية، ولا بأدوار إسرائيل والغرب في وقف الطموح العربي في التحديث والتقدّم. مؤشرات ما يحصل اليوم على مرأى ومسمع منا تُظْهِر أننا نقترب من خرابٍ شامل، أو نقترب من ثوراتٍ جديدة قد تُسفعنا برسم أفق نتطلَّع إليه.
* كاتب ومُحاضر من المغرب
المصدر: العربي الجديد
التعليقات مغلقة.