
عبد الباسط حمودة
إنه شهرُ رمضان الثاني عشر على التوالي الذي يمرّ على السوريّين مذ أطلقوا ثورتهم؛ وكما سابقَيه، ستعلو أصوات المعاناة والفقر على صوت مدفع الإفطار، ففي السنوات الماضية، تقلصت حالة الابتهاج إلى أن وصلت إلى ما هي عليه بشكلها الحالي؛ فرمضان بالنسبة إلى السوريين لم يعد أكثر من شهر عبادة، لأن طقوس الفرح والطعام باتت مجرّد ذكريات، فمن النادر أن تجد بيتاً ليس فيه جريح أو شهيد أو مهجّر أو متخفي هارب، فكيف للفرح أن يدقّ أبواب السوريين وأسعار المواد الغذائيّة مرتفعة جداً إضافة إلى أنها سترتفع أكثر في الشهر الكريم بسبب الاستغلال والتداعيات الإقليمية والدولية التي هي الأشد انعكاساً على السوريين في الداخل والخارج، في وقتٍ أصبحت فيه أعمال السوريين عزيزة وأجورهم متدنية بل معدومة؟
للتكافل والتضامن أثره:
إن رمضان في ظل الأزمات يختلف عمّا كان قبل الثورة، فصارت الصورة مقلوبة، لقد خلى من البهجة وصار متوحشًا وزاد العبء على العائلة حتى أثقل كاهلها، بسبب الفرقة والتشرد والفقر في بلدان ومخيمات اللجوء، وبقي رمضان وما فيه من عادات وطقوس حبيس الذكريات لدى العائلات، فرمضان يمر على العائلات السورية في مخيمات اللجوء وأماكن الاغتراب في لبنان والأردن وتركيا وبلدان أخرى حول العالم، فيشاركوا مع أبناء هذه البلدان حيواتهم وعاداتهم، ففي هذا الشهر الفضيل تكثر مظاهر التآزر والتضامن بفضل تسارع الكثير من المؤمنين لتقديم العون للآخرين من الفئات المحرومة والمعوزة، ولا يختلف في ذلك الأفراد عن الجمعيات والسبب في ذلك يعود لفضل شهر الصيام الذي يخلق قابلية لا مثيل لها في المسارعة نحو البذل ومساعدة الآخرين، ولعل هذا من الدروس الرمضانية في تقوية العلاقات الاجتماعية بين الناس.
ويمكن القول إن شهر رمضان امتحان حقيقي يختبر العلاقات الاجتماعية بين الناس، ولقد اعتبر هذا الشهر الفضيل وقفة سنوية لدعم العمل التضامني الذي يُقبل عليه الأفراد بشكل تلقائي بما يزيد في التراحم. هذه العلاقة يمكن وصفها بالعلاقة الأفقية بين الإنسان وأخيه الإنسان، كما ترتقي العلاقة العمودية بين العبد وخالقه تعالى خلال شهر رمضان إلى أسمى أوجهها، وبالمثل ترتقي علاقة الإنسان الفرد بغيره بفضل أوجه التكافل والتآزر، لأن ممارسة العبادة في أحسن صورها في شهر الصيام ترتبط كذلك بتوطيد العلاقة التضامنية بين أفراد المجتمع.
إذ يبادر الناس طوعياً بتقديم المساعدات للغلابى من المحتاجين والمعوزين من باب التسابق نحو الاستزادة من الحسنات، وهو ما يجعل رمضان شهر التسابق نحو تقديم المساعدات للغير من دون الانخراط في أية جمعية، يقول تعالى؛ {خِتَٰمُهُۥ مِسْكٌ ۚ وَفِى ذَٰلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ ٱلْمُتَنَٰفِسُونَ} (المطفّفين – 26)، ويقول أيضاً جلَ وعلا؛ {وَمَآ أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍۢ فَهُوَ يُخْلِفُهُۥ ۖ وَهُوَ خَيْرُ ٱلرَّٰزِقِينَ} (سبأ – 39).
غير أن سُبل التعاون والتضامن هذه التي تكثر وتزيد في رمضان، تتضاءل كثيراً بعده، وكأنها مظاهر تأتي بقدوم رمضان وتختفي برحيله، بالرغم من كون التراحم بين الأفراد فضيلة راقية تظهر جلياً في قوله صلى الله عليه وسلم: “الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمُ الرَّحْمَنُ، ارْحَمُوا مَنْ فِي الأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ”.
دروس رمضانية واجبة:
ومن دروس رمضان كذلك في توطيد العلاقات الاجتماعية خاصة تعزيز التعامل الحسن مع الآخر، اقتداء بقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ”وَإِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ فَلا يَرْفـُثْ، وَلا يَصْخَبْ، فَإِنْ سَابَّهُ أَحَدٌ أَوْ قَاتَلَهُ فَلْيَقُلْ: إِنِّي امْرُؤٌ صَائِم‘‘، بمعنى اتقاء أسباب الجدال الذي قد يحدث بين الناس أيام رمضان والذي من شأنه إحداث الشقاق في المجتمع، ولا بد توظيف فضيلة الرحمة في جميع الجهات والمؤسسات، خاصة الصحية منها التي للأسف تُشعر المرء بتدني معاملة المرضى وذويهم مقارنة بمؤسسات صحية في دول غربية “فقد أصبحت الرحمة لديها فضيلة راقية جداً”، كما ينقل لنا الكثير من السوريين الذين يعيشون هناك.
ولأن رمضان شهر الرحمة والمغفرة، فإن ذلك يتحقق بالفطرة الإنسانية سواء بالتعبد الذي يزداد تلقائياً، أو بالتضامن والتكافل الذي أصبحت له بعض الدروب القائمة مع حلول كل رمضان في كل عام، ومن ذلك مطاعم الرحمة وإفطار عابري السبيل، وهي اللفتة التي يُقبل عليها المحسنين سواء بالتبرعات أو بالتطوع خدمة لعباد الرحمن، وهذا ما يسمى بالقيمة المضافة التي يقدمها العبد لغيره ولمجتمعه، ولا عجب أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قدوتنا في هذا المقام، حيث كان أجودَ الناس بالخير وكان أجودَ ما يكون عليه في رمضان. وهو ما يعني أن التضامن الاجتماعي يجب ألا ينقطع بقية السنة أو ألا يتراجع ويخفت، وإنما لا بد أن يكون في خط ثابت حتى يتجلى المعنى الحقيقي لحديثهِ صلى الله عليه وسلم “الرّاحمون يرْحمُهم الرحمن”.
أما السبيل الآخر الهادف إلى تقوية العلاقات في المجتمع فهو العفو والتسامح من خلال أبسط مظهر قد يغيب كامل أيام السنة، وهو اللمة الأسرية والاجتماع على مائدة الإفطار، ناهيكم عن المصافحة يوم العيد بين الأفراد، خاصة منهم المتخاصمين، وقبل ذلك زكاة الفطر، وزكاة الأموال التي توزع في الشهر الفضيل لما لها من انعكاس مباشر على المحتاجين والمحرومين.. وهذا في الحقيقة ما هو إلا إصلاح للعلاقات الاجتماعية”، وهو مصداق قوله تعالى؛ {وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا ۗ أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ ۗ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (النور – 22).
أخيراً لقد انقلبت موازين الحياة بالنسبة للسوريين 180 درجة بعد كل هذه السنوات على انطلاق الثورة، فكلُ شيءٍ اختلف، المكان والظروف والأجواء والطعام بما في ذلك الصيام ورمضان، مع القليل من التفاؤل والكثير الكثير من الخوف والقلق والحرمان! بانتظار أن يحّدِثَ الله بعد ذلك أمراً فيه الخير والخلاص للسوريين مما هم فيه من شقاء وتهجير قسري، وخلاص للمعتقلين في سجون الطاغية الدموي، فضلاً عن تحقيق النصر الناجز لثورتهم وتحقيق أهدافها، إنه على ما يشاءُ قدير.

المصدر: اشراق
التعليقات مغلقة.