الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

من غرنيكا إلى حمص ومن إسبانيا إلى سورية

مروة شبنم أوروج *

 “حمل المتطوعون الذين قاتلوا في إسبانيا ذكرياتِ الحرب كجرح عميق في قلوبهم. ففي إسبانيا تعلّم الإنسان أنه قد يُهزم على الرغم من كونه على حقّ، وأن الاستبداد يمكن أن يُخضع الحَمِيّة، وأنّ الشجاعة لا تكافَأ أحيانًا”.

«ألبير كامو»

كانت الأغنية التي أصدرتها فرقة الروك الويلزية البديلة (Manic Street Preachers MSP) عام 1998، وهي تحمل اسم İf you tolerate this, your children will be next (إذا عفوتَ عن هذا، فسيكون أطفالك هم التالين)، مستوحاةً من الحرب الأهلية الإسبانية، وكان عنوان الأغنية التي تصف مثالية الشباب الويلزيين[1] الذين غادروا بلادهم للانضمام إلى الألوية الأممية (Brigadas internacionales) إلى جانب الجمهوريين، ضد الانقلابي القومي فرانثيسكو فرانكو، مقتبسًا من عبارةٍ كانت على الملصقات الجمهورية حينذاك. حيث كُتب أسفل الملصق الذي رُسم عليه صورة طفلٍ ميت تحت طائرات القوميين الحربية: “إذا عفوتَ عن هذا، فسيكون أطفالك هم التالين”.

وهذا ما حصل فعلًا، فما إنْ انتهت الحرب الأهلية التي أسفرت بين عامي 1936 و1939 عن مقتل 500 ألف شخص، وفق بعض التقديرات أو مليون شخص وفق تقديرات أخرى، بانتصار فرانكو، حتى اندلعت الحرب العالمية الثانية التي حصدت أرواح الملايين، منهم أطفال، بسبب عدم إيقاف فرانكو وبينيتو موسوليني وأدولف هيتلر.

أما عن جملة If I can shoot rabbits/then I can shoot fascists (ما دمت أستطيع أن أطلق النار على الأرانب، يمكنني إطلاق النار على الفاشيين) المذكورة في الأغنية، فكانت من أقوال مراهق ويلزي، كان يفسّر لأخيه سبب مغادرته ويلز، وانضمامه إلى الألوية الأممية ضد فرانكو. في الثلاثينيات من القرن الماضي، تحوّل دعاة السلام المناهضين للحرب إلى ناشطين ومتشددين ضد الفاشية، وذلك عندما أدركوا أنه لا يوجد ما يقومون به سوى النظر إلى جثث الأطفال الذين لقوا حتفهم. فأصبح من المنطقي أن تقتُل حتى لا تُقتَل. تمامًا كما تحوّل الشباب من مجرد ناشطين في بداية الثورة السورية إلى “جهاديين” اليوم، بحسب تعبير وسائل الإعلام الدولية.

بطبيعة الحال، إنّ أسرع أشكال التطرف يمكن أن يكون في عصر الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي. والشعور بضرورة القيام بشيء، عند النظر باستمرار بوساطة شاشتك الصغيرة إلى صور الأطفال والرضّع ممزّقين ومتفحّمين الذين لو سُمح لهم بالعيش لكان لهم حياة وكبروا وتزوجوا وأصبح لديهم أحفاد، هو سببٌ كاف للتطرف، من دون الحاجة إلى العوامل الأخرى.

ألم يكن للصور الفظيعة التي تدفّقت إلى وسائل التواصل، طوال عشر سنوات من الحرب الأهلية سورية، تأثيرٌ أكثر من ملصقة في الحرب الأهلية الإسبانية عام 1936، بمئات آلاف المرات؟ أكان هنالك بدائل، أمام المقهورين الذين يشعرون بأن عليهم القيام بشيء عند رؤية جثث الأطفال تحت أنقاض المباني التي تعرضت للقصف، تحُول دون تطرفهم؟

بينما كان فرانكو يتلقى الدعم بالمعدات والجنود والغطاء الجوي من النظام الفاشي الإيطالي، ومن ألمانيا النازية، كان الاتحاد السوفيتي والمكسيك يدعمون الجمهوريين. أما بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة، فقد اكتفت بالاعتراف بالحكومة الجمهورية، وأخذت تراقب ما يحدث. وعلى الرغم من تطبيق الولايات المتحدة سياسة الحظر، كانت الشركات الأميركية، مثل فورد وجنرال موتورز وتيكسكو، تلبّي احتياجات فرانكو من آليات وشاحنات ونفط. وقد صرّح الرئيس الأميركي فرانكلين روزفلت، بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، بالقول: “كانت السياسات التي اتبعناها في إسبانيا من أكبر الأخطاء”؛ إذ كانت الحرب الأهلية الإسبانية -كما قال السفير الأميركي في إسبانيا كلود باورز- بمنزلة تمرين للحرب العالمية الثانية.

بسبب المناخ السياسي الدولي في تلك الفترة، كان للحرب في إسبانيا العديد من الجوانب المختلفة، كما هو الحال في سورية. حيث وُصفت بتعريفات مثل: النضال ضد الدكتاتورية، والحرب من أجل الديمقراطية، وثورة ضد ثورة، والنضال ضد الفاشية والشيوعية والصراع الطبقي، وحرب دينية. بينما كان المحافظون والملكيون وبعض المجموعات التابعة للفلانخي الفاشية يدعمون فرانكو، جاء عشرات الآلاف من جميع أنحاء العالم للانضمام إلى الألوية الأممية في إسبانيا، على الرغم من سياسة عدم التدخل التي اتخذتها حكوماتهم.

وبالطريقة ذاتها، أثّرت وحشية النظام الطائفية والمجازر المروعة التي ارتُكبت، بدعم من إيران وحزب الله ولاحقًا روسيا، في مشاعر العديد من المسلمين في أنحاء العالم. كانت “متلازمة البطولة” هي حالة بين التطرّف نتيجة الشعور بالمسؤولية، في ظل صمت الأمم المتحدة والدول الكبرى والمنظمات الدولية حيال ما يجري من فظائع أو إسهام بعضها في ارتكابها أحيانًا، وبين السكوت والشعور بالمسؤولية. لكن من المؤسف أن عددًا كبيرًا من آلاف الشبّان الذين جاؤوا إلى سورية، للقتال ضد نظام الأسد المجرم، وقعوا في فخ المنظمات الإرهابية، مثل تنظيم (داعش)، بسبب طبيعة الحرب متعددة الطبقات، حتى أصبحوا دمى بيد تلك المنظمات. بينما تحوّل نضال الشعب السوري من أجل الديمقراطية والحرية والعدالة، إلى حرب أهلية طائفية، نتيجة مصالح القوى الإقليمية والعالمية، وأصبح نظام الأسد “أهون الشرين” بنظر العالم، وذلك بفضل دعايته البارعة وبروز جماعات دينية متطرفة. وقد نتج عن ذلك مئات الآلاف من الضحايا، والملايين من المُهجّرين، وكان عدد هؤلاء أكثر من نصف السكان.

كان جورج أورويل، مؤلف كتاب “1984” و”مزرعة الحيوان”، وهو من أبرز المفكرين، من بين أولئك الذين لم يتمكنوا من البقاء غير مبالين بالحرب الأهلية الإسبانية. حيث ذهب إلى إسبانيا، وانضم إلى المتطوعين الذين يقاتلون ضد فرانكو، ثم وصف ما رآه وعاشه، في كتاب Homage to catalonia “تحية إلى كتالونيا”. أورويل، الذي أُصيب في حلقه نتيجة طلقة قناص ونجى من الموت بأعجوبة، تأثر بشدة من خيانة الثورة الإسبانية.

لم يكن هذان الكتابان المشهوران (اللذان طالما اقتبس منهما مَنْ يسمّون أنفسهم في تركيا بـ “المفكرين” الداعمين للأسد، بغية انتقاد سياساتها) ينتقدان فرانكو وهتلر وستالين، وأمثالهم (الأسد والمالكي وبوتين) فقط، بل كانا يحملان آثار ما حدث في إسبانيا، ومآسي الثورة والغباء واللامبالاة والأجندات الخفية التي تُفضي إلى الاستبداد.

وكذلك أصدرت الفرقة البريطانية للروك بانك The Clash، في عام 1979 أغنية Spanish Bombs (القنابل الإسبانية) ضمن ألبوم London calling (لندن تنادي)، حيث كانت الأغنية موجهة إلى وحشية نظام فرانكو، وأبطال الحرب الأهلية من الجمهوريين. لوحة الرسام بيكاسو الشهير (غرنيكا) أيضًا، صوّرت مدينة غرنيكا الباسكية التي تعرضت للقصف والتدمير، تمامًا مثل حمص، وذلك بمساعدة القوات النازية الألمانية والفاشية الإيطالية التي جاءت إلى إسبانيا لدعم نظام فرانكو.

كم تشبه أوروبا التي كانت موضوعًا لآلاف الرِثاءات الفكرية والأعمال الفنية، بعد الحرب، الشرقَ الأوسط!! وكم تشبه الحرب الأهلية السورية التي لم تعد تنتهي منذ سنوات، الحرب الأهلية الإسبانية، بكل نواحيها الداخلية والخارجية، وكأنها نسخة مطولة عن الحرب الإسبانية.

لا شك في أن المثقفين سينتجون أفلامهم وأغانيهم وكتبهم وسيرسمون لوحاتهم، بعد سنوات، لتخليد ذكرى الحرب السورية، لكن الذين فقدوا أرواحهم في حماة وحمص ودرعا وحلب لن يستعيدوها. وعندما سيخرج أحدهم ليقول: سياستنا في الحرب الأهلية السورية كانت خاطئة، كما قال روزفلت، حينها ستتحول مأساة الملايين إلى وصمات عار في الذاكرة. ومع ذلك، فإن ما يميّز المعارضة السورية، من المقاومة الإسبانية، هو نظام الأسد، حيث إنه لن يستعيد مكانته أبدًا. وعلى الرغم من أن التضحيات كانت كبيرة، سيتخلّص أطفال سورية من أصفادهم بفضل النضال، حتى وإن كانت سورية بلدًا يمكن أن يُهزم الإنسان فيه، وهو على حقّ، ويمكن للاستبداد أن يُخضِع الحميّة، والشجاعة فيها لا تكافَأ”.

لم يبقَ لدى معظمنا الحبر لكثرة ما كتبناه عن سورية. في مكان بين الدعاء والتشدد، وبينما أكتب هذه السطور مع اقتراب الفجر وأنا أنظر إلى صور سورية في العشر سنوات الأخيرة، أغني بصوت هامس: “ما دمتُ أستطيع أن أطلق النار على الأرانب، يمكنني إطلاق النار على الأسد”.

حقًا! ما الذي يعوق ذهابنا- نحن الديمقراطيين والأحرار وناشطي حقوق الإنسان- إلى هناك، خاصة أن سورية فيها حقائق تزيد عن الحقائق التي جعلت جورج أورويل يذهب إلى إسبانيا.

……………..

هامش:

[1] الغالِيّون أو الويلزيون (بالويلزيَّة: Cymry) هم أمة ومجموعة عرقية كلتيّة أصليَّة في ويلز، أو ترتبط بـ (ويلز)، من خلال الثقافة والتاريخ واللغة الويلزية. ويلز هي بلد جزء من المملكة المتحدة، وغالبية الأشخاص الذين يعيشون في ويلز هم مواطنون بريطانيون.

ــــــــــــــــــ

* كاتبة تركية متخصصة بالشأن السوري

المصدر: حرمون

التعليقات مغلقة.