فيصل عكلة *
في اليوم الأخير من شهر شعبان تتقاطر الوفود نحو مدينة معرة النعمان من كل بلدات جبل الزاوية، لنقل خبر دخول الشهر الفضيل إلى بلداتهم في المساء بعد أن تعلنه دار الإفتاء، حيث لم تكن الإذاعات أوالتلفزيونات قد حطت رحالها عندنا بعد.
في المساء وقبل أن تلملم أشعة الشمس أطرافها من زواريب بلدة حاس (جبل الزاوية) وحواريها في أيام رمضان الجميلة نتقاطر نحن الصغار والبعض منّا لم يكن من زمرة الصائمين وخاصة في أيام الصيف الطويلة والحارّة الى الجامع القديم حيث تنتصب المئذنة الحديدية التي تحمل مكبّرات الآذان ترقبّا للإفطار.
يتلمّس الشيخ جيب صدره بحثاً عن الساعة الدائرية التي يربطها بخيط رفيع مُقصّب إلى رقبته جوارَ خيط النظارات وينظر إليها بعد أن يُخلّص عقدة الخيطان من بعضها ويعيدها إلى الجيب ويعلن أن هناك أربعة دقائق أو ثلاثة تفصلنا عن الآذان ويروح ينقل نظره بين وجوه الأطفال التي تتطلع إليه وتلك الصحون التي بين أيديهم وفيها ما لذّ وطاب من أكلات ذاك الزمان.
يقف الشيخ بطوله الفارع والذي يغطي معظمه بالبردسون الأسود ويضع على رأسه النكاب والبريم الدائري العريض بين الأطفال ويروح يُردد الأدعية والابتهالات بناءاً على وصايا الأهل للأطفال بطلب الدعاء من الشيخ للمريض والمسافر والذي يخدم بالعسكرية.
يعود الشيخ للنظر بالساعة وتبرق عينيه بالفرح، ها قد اقترب الموعد وترتفع الصحون إلى الأعلى، وتلاحق العيون يدَ الشيخ أملاً بأن يُفطر من صحن كل منهم، ويلتقط الشيخ (تقطوعات) الكبّة النية التي تُتوّج بالفليفلة الحمراء والكبّة الأورفلية ويتجاهل اليبرق والمحشي وكأن نفسه تعافه ويلتفت إلى جهاز التكبير وينقر عليه بضع نقرات خفيفة ويتنحنح قبل أن يطلق النداء الخالد: الله أكبر، الله أكبر !
وتعلو أصوات الأطفال فرحة بالإفطار، وهم يتبادلون الأطعمة، وقُرَب الماء الفخارية المغطاة بأكياس الخيش، وقد رُشرشت بالماء وتزداد فرحتهم عندما تفرغ صحونهم، ويُخرجون التين اليابس والزبيب ليكون فاكهة ما بعد الإفطار .
يتفرق الجمع عقب الأذان بعد ترديد دعاء الإفطار خلف الشيخ ويعودون إلى البيت لنقل مشاهداتهم وأنواع الأكلات اللاتي تذوقوها في التجمع إلى ذويهم على أمل العودة في مساء جديد.
في العشر الأخير من شهر رمضان تملأ خالتي قفتها المزركشة طحينًا من عين (الجكّوز) وتنثرها في (طشت) النحاس وتسكب فوقها عدة طاسات من الماء و(تلوشه) مع بعض قبل أن تضيف له التوابل وتتركه قليلًا ليَختمر.
تتربع خالتي على المصطبة البيضاء وأمامها (جونيات) القش وحولها عددًا من بنات الدار والجارات، وتقتطع خالتي قطعًا صغيرة من العجين توزعها عليهن ليصنعن منها فتائل طولانية ثم يقطعنها إلى قطع متساوية قبل تحويلها إلى دوائر، يُرصف الكعك على شكل دوائر متحدة المركز في الجونية قبل تصلية التنور.
توضع جونيات الكعك على مصطبة التنور لتتعانق رائحة الشمرا والكزبرة واليانسون وجوزة الطيب مع دخان التنور، وليملأ عبيرها الأجواء وتروح خالتي تلصق الكعكات بهمّة ونشاط داخل عين التنور وقرب جمرات الحطب المتلئلئة.
ما يزيد من العجين تحوله خالتي إلى عدد من (البحبوحات) المدورة والمقرمشة والتي كنا نحن الصغار ننتظرها قبل أن ينفضّ عرس الكعك!
بعد الإفطار، كنا نسمع ثلاث طرقات خفيفة على مكبر الصوت في الجامع، تشير إلى اقتراب موعد أذان العشاء، يعقبها تنحنح هادئ للحاج راجح وصوت دافئ ومبحوح: إن الله وملائكته يصلّون على النبيّ، يا أيها الذين آمنوا صلّوا عليه وسلموا تسليمًا. يُسلم الميكرفون لجوقة الإنشاد من حوله لتكرار الصلاة على الرسول الكريم ريثما يبدأ بمطلع قصيدة وداع رمضان الحزينة التي تترافق مع دموع الحزن التي تسكبها النساء في البيوت والرجال في طريقهم إلى الجامع على فراق شهر رمضان وذكر من غيّبه السفر أو أمسى تحت أطباق الثرى.
(يا شهرنا هذا عليك السلام، يا هاشمي منّا عليك السلام )
يكرر الجمع بعدَه هذه الأبيات، ويختم الحاج راجح كلمات الوداع:
الصلاة والسلام عليك يا رسول الله، الصلاة و السلام عليك يا حبيب الله!
تجلس أمّي على (البرندا) قبيل الإفطار، وبين يديها عددًا من الأطباق الصغيرة وبجوارها حفنة من النقود، و يبدأ أطفال الأقارب والجيران بالتوافد إليها مع صحونهم الساخنة، تستلم أمّي الصحنَ من أحدهم بيد وتناوله صحنًا آخر مع عشر ليرات باليد الثانية، ومع موعد الإفطار تبقى صينية الشوربة يتيمة وقد شارفت على الوداع أيضًا، وتبادر إلى الردّ على نظراتي المتسائلة: (كلُّو رايح.. اللّي بيتوزع هو بضَلّ!).
قبل آذان العصر من يوم العشرين من شهر رمضان يحمل أبو طه فروته السوداء ومخدّة صغيرة ويدخل بهو الجامع الكبير منضمًا لقافلة المعتكفين.
قبيل الغروب يترك أبو طه مكانه المحبب جانب العمود من الجهة الغربية من الجامع بعد أن يغلق مصحفه ذو الغلاف القماشي الأبيض ويضعه على حمالته الخشبية ويتجه نحو الباب الخارجي. أشعة الشمس الذهبية تعكس على باب الجامع الكبير ونوافذه الغربية المستطيلة ظل السيارات والدراجات التي تعبر الشارع المجاور، والتي ترتفع حدة مع اقتراب الغروب، يضع أبو طه يده فوق عينيه لتتعامد مع جبهته لحجب أشعة الشمس ولاستكشاف الطريق أملاً بوصول الإفطار، خطوات متثاقلة فوق درجات الباب الكبير يقطعها أبو طه ويمدّ يديه ليمسك القفّة من على رأس أم طه التي تنحني قليلًا إلى الأمام لمساعدته في الحفاظ على بقاء رجليه داخل حرم الجامع كي لا يقطع عليه اعتكافه، ويتحلق المعتكفون حول صحون إفطارهم التي تزينها الكبّة النيّة والمتوّجة بالفليفلة. أما الحديث عن ليالي العيد وعاداته في بلدات الجبل فهو حديث جميل ويحتاج لقاءً آخر بإذن الله.
* كاتب سوري
المصدر: إشراق
التعليقات مغلقة.