الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

«التفاوض مع أسد» في مساومات أميركا وإيران

عبدالوهاب بدرخان *

أخيراً حصلت «المفاجأة» المتوقعة دائماً. التفاوض مع بشار اسد كان الورقة المستورة التي احتفظت بها واشنطن لاستخدامها في لحظة مناسبة لأميركا. ومع احتدام المواجهة بين الادارة والكونغرس، واقتراب المفاوضات النووية من «اتفاق جيّد» (الرواية الأوبامية) أو «سيئ للغاية» (رواية الجمهوريين الليكوديين)، استخرج جون كيري لائحة الرغبات الايرانية وأطلق بالون «التفاوض مع بشار أسد» ليشتري به أي مساومة إضافية قد يأتي بها محمد جواد ظريف متذرعاً بأن «الاتفاق في خطر» ما دام الكونغرس يتأبط له شراً، ما يعني أن طهران مدعوة إلى مجازفة وإذا قررت ركوبها فلا بد أن يُدفع ثمنها مسبقاً. ومع أن كيري كان واضحاً، وهو رئيس الديبلوماسية الاميركية، إلا أن الناطقين باسم البيت الابيض والخارجية أصرّوا على أن سياسة بلادهم «لم تتغيّر»، محاولين الإيهام بأن الرأي العام الدولي لم يفهم جيداً تصريحات الوزير أو أنهم يعرفون أكثر من الوزير.

بين شرم الشيخ حيث أطلقت «قنبلة التفاوض مع أسد» ضد الشعب السوري ولوزان حيث حطّ كيري لمتابعة التفاوض النووي، حصل شيء ما جعل واشنطن تعاود تأكيد أنها لن تتفاوض «اطلاقاً» مع أسد. الأرجح أن الايرانيين لم يشتروا العرض بالصيغة التي اعتمدها كيري، اذ قال أنه سيكون «تفاوضاً على انتقال سياسي في سورية». ثم أن الأسد نفسه رفض ذلك العرض، رغم أنه ينتظره منذ أعوام، لأن «الانتقال» ليس على أجندته، وكل ما يقلّ عن استئناف العمل مع نظامه كما في السابق ليس موضع ترحيب من جانبه. صحيح أن اعلام النظام التقط عند الوزير الاميركي «اعترافاً بشرعية اسد» بعدما دأبت واشنطن عـلى اعتباره فاقداً للشرعية بسبب أعمال القـتل التي يتحمّل مسؤوليتها، إلا أن هذا الاعلام أظهر أيضاً مدى تعطّش النظام الى «شرعية» يدرك تماماً أنه خسرها جزئياً عندما أطلق النار على المتظاهرين سلمياً ثم خسرها كلياً بفعل جرائم الحرب والجرائم ضد الانسانية التي ارتكبها.

بالنسبة الى المراقبين كان مؤكداً أن إبداء الاستعداد للتفاوض مع الأسد، ولو «اضطراراً» هو رسالة تنازل موجهة إلى الإيرانيين في إطار المفاوضات النووية، لكن علنيتها أفقدت طهران إمكان المناورة بها واستخدامها. اذ أوحت لأسد نفسه بأن صفقة بشأنه في سياق الاتفاق النووي، ولا علم له بها، فهل بلغ التحادث الاميركي- الايراني ملف «الانتقال السياسي»؟ هذا ما يتوجّس منه الأسد، وبالتالي فإنه استشعر كأن تصريحات كيري بمثابة «هديّة» مسمومة أو مفخخة، قبل أن يتيقّن موقّتاً على الأقل بأن الأمر لا يعدو كونه سراباً. لكن الأسد سيستمر في انتظار «التفاوض» الذي يتمنّاه ويتوقّعه، ولعله غير مخطئ، فواشنطن تملأ الأجواء كلاماً في الأخلاقيات لكنها تتصرّف كالعادة وفقاً لمصالحها. والواقع أن لديها مصلحة حقيقية عند النظام تتعلّق تحديداً بمحاربة تنظيم «داعش». وعند جون برينان، مدير الـ «سي آي إي»، خبر أكثر يقيناً، اذ يشدد على الحفاظ على «الدولة» في سورية، و«الدولة» بالنسبة إلى الأسد هي الأسد نفسه.

لذلك، وبسبب هذا الملف، كانت «مفاجأة» كيري حمّالة أوجه. أما لماذا كانت متوقعة فلأن واشنطن لم تُشعر حلفاءها ولا أصدقاءها في أي مرحلة بأنها حاسمة موقفها من الأسد، ولأن الأخير لم يتوقف عن إرسال إشارات إلى عواصم مختلفة بأن الادارة الاميركية لا (ولم ولن) تتخلّى عنه. حتى أن أبرز مآخذ موسكو على دمشق أنها سلّمت معظم أوراقها إلى روسيا لتخوض قضية النظام وتقاتل عنه في مجلس الأمن لكن رهانات اسد كانت ولا تزال على أميركا، ورغم كل ما فعلته وتفعله إيران لإبقائه ونظامه فإن الأسد مقتنع بأنه لا يزال في منصبه لأن الاميركيين لم يتخذوا قراراً بإسقاطه، ويعود الفضل في ذلك، الى بوليصة التأمين الإسرائيلية التي حالت مراراً من دون اجتياز واشنطن نقطة اللاعودة كما كادت تفعل في أيلول 2013 رداً على استخدام اسد السلاح الكيماوي ثم تراجعت مفضلة نزع سلاحه هذا على ضربه وزعزعة تماسكه. ومع كل قرية أو بلدة أو مدينة يدمّرها، مع كل مسعى إلى حل سياسي يحبطه، كان الأسد يبقي عدّاد الضمان الإسرائيلي شغّالاً، لأن أي مؤشر إلى نهاية الأزمة والحرب الداخلية يمثّل بالنسبة إلى إسرائيل بداية عدٍّ عكسي لتداعيات هذه الأزمة عليها.

لعل أي رصد للتصريحات التي يقول فيها الأميركيون أو الايرانيون أن هناك «تقدماً» في المفاوضات النووية سيسجّل أن الايرانيين يستغلّون كل خطوة نحو الاتفاق بخطوات انفلاشية في الإقليم. وعلى رغم ما روّج عن «فشل» و«تعثر» للقاء كيري- ظريف في مسقط (منتصف تشرين الثاني 2014)، فإنه أحدث تغييراً في نمط العلاقة بين الرجلين وأصبحا يعملان بثقة ونجاعة، بل إنه انعكس ايجابياً على المفاوضات. ومنذ غداة هذا اللقاء الذي قيل أنه تركّز على «الشقّ السياسي الاقليمي» من التفاوض، راحت طهران تتصرّف وكأن ضوءاً أخضر أُشعل لها حيثما تشاء، ولم يعد عسكريوها وسياسيّوها يتردّدون في التصريح بما حرصوا طوال أعوام على كتمانه بشأن أجندة التمدّد والنفوذ الاقليميين. في المقابل ارتفع أميركياً منسوب الصمت والتعامي والتجاهل والإنكار حيال كل الانتهاكات الايرانية. وبالعودة إلى التصريحات الرسمية في تلك الفترة، يتبيّن أن أحداً في واشنطن يعرف- بل لا يريد أن يعرف- أن إيران توجّه الحوثيين وتسلّحهم منذ عقدين و نيّف، أو أن إيران تلعب بورقة تنظيم «القاعدة» منذ الغزو الأميركي للعراق وأنها واكبت عن كثب نشأة تنظيم «داعش» واستغلّته ذهاباً لمصلحة نظام أسد في ضرب معارضيه وإياباً في تثبيت احتلالها للعراق. ولا أحد في واشنطن سمع مستشاري علي خامنئي وعسكرييه يتفاخرون بأن إيران باتت تسيطر على القرار في أربع عواصم عربية. ولم يدرك أحد في واشنطن خطورة ما يجري في العراق الآن إلا بعدما جهر رئيس الأركان بأن هناك ما يقلق.

هناك أمر من اثنين: إما أن محادثات كيري- ظريف كانت مساومات، أو أن الأميركي أبلغ الإيراني أنه سيغضّ النظر بشرط أن يحصل على تنازلات في الاتفاق النووي. لكن النتيجة واحدة: الإيراني يلتهم المكاسب ويُقتّر في التنازل. وكان نهج المساومة بدأ قبل أعوام من المفاوضات الحالية بتفاهمات على تقاسم النفوذ في العراق، وعلى منع «حزب الله» من توتير الحدود اللبنانية- الاسرائيلية، وعلى عدم التشويش على الانسحاب الاميركي من ايران. وما لبث الاتفاق المرحلي (تشرين الثاني 2013)، أن قايض تجميد تخصيب اليورانيوم برفع جزئي للعقوبات، والمؤكّد أن «بازار» المقايضات مفتوح الآن، فإيران تريد الاتفاق وتدرك أنها مجبرة على تنازلات جوهرية للخلاص من العقوبات، لكنها تقايض ما لا تملكه نووياً (بل ما يظن الغربيون أو يخشون أنها تملكه) لقاء ما يشبه صكوك اعتراف بنفوذها: نسبة التخصيب، أجهزة الطرد المركزي، المنشآت النووية، مفاعل «أراك»، الرقابة والتفتيش… كل ذلك في المساومة لقاء بقاء اسد وتمكين الحوثي و«بغداد عاصمة الامبراطورية» وانتخاب مرشح «حزبالهـ» للرئاسة اللبنانية وتلبية مطالب المعارضة في البحرين…

وبموازاة المساومة في المفاوضات أدارت إيران لعبة خطيرة في العراق إذ تدخّلت مباشرة في «الحرب على داعش» من دون تنسيق أو تشاور مع «التحالف»، لكنها حصلت على «عدم ممانعة» أميركية من خلال حكومة بغداد. وإذ لم يتجشم الاميركيون عناء النقد أو النقض أو تصويب الخطط، تكون طهران قد أخطرتهم عملياً بأن السيناريو نفسه مرشح للتكرار في مناطق «داعش» في سورية، وبمشاركة قوات النظام. وطالما أن إيران تقوم بالعمل الذي لا تريد أميركا تلويث أيديها به فليس لها أن تعترض، خصوصاً أن «التحالف» لا يملك قوات برّية، أو بالأحرى أن إيران اتخذت كل الاحتياطات لمنع وجود أي قوات لـ «التحالف» على الأرض. اذاً، فـ «التفاوض» المطلوب مع الأسد لا بدّ أن يبدأ من هنا، وليس من «الانتقال السياسي».

* كاتب وصحافي لبناني

المصدر: الحياة – الخميس، ١٩ آذار ٢٠١٥

التعليقات مغلقة.