حزب الاتحاد الاشتراكـي العربـي الديمقراطي حرية * اشتراكية * وحدة
في سوريــة
كلمة الأخ الأمين العــام
الدكتور جمال الأتاسي
في الجلسة الافتتاحية للمؤتمر العام الثامن *
في 20- 21 آذار 2000
الأخوة والأخوات أعضاء المؤتمر:
السادة الضيوف:
تحية لكم جميعاً
ها نحن نلتقي ويتجدد اللقاء في هذا المؤتمر العام لحزبنا, بعد انتظارٍ طال, مسافة طويلة، خمسة عشر عاماً في وقتٍ راحت ثورة الاتصالات تختصر المسافات والزمن بشكلٍ مذهل, بل إن جيلاً كاملاً في عمر الأجيال يباعد بيننا وبين مؤتمرنا السابع الذي مضى, إنه زمن يمكن القول أنه قطع فينا أكثر مما قطعنا فيه وتقدمنا: إن حركة أفكارنا وممارساتنا والتقدم بمواقفنا لم تنقطع بوجهٍ عام, ومضينا فيها على مختلف المحاور التي أقر المؤتمر السابع التحرك عليها, في العمل الوطني والنضال من أجل الديمقراطية والتغيير الديمقراطي للدولة والمجتمع, وفي إطار ” التجمع الوطني الديمقراطي ” بدعوته ونشاطاته في المجتمع, كصيغة ديمقراطية متقدمة في التأليف بين القوى الوطنية وإعادة إنتاج السياسة في المجتمع, ثم على محور العمل القومي بكل أبعاده المتاحة, وعلى محور التنسيق بين الأحزاب الناصرية المتواجدة في عدة أقطار عربية ولتلاقيها في صيغة للعمل العربي المشترك.
إلا أن مصاعب ومعوقات كثيرة انتصبت في وجهنا, وليس أقلها الظروف الأمنية تحت وطأة نظام مستبد شمولي عمل بإصرار على إلغاء وجودنا ووجود أية حركة سياسية ديمقراطية تقوم في المجتمع, وتقف في معارضته ومعارضة تسلطه واستبداده وفساده أو في استقلالية عنه , وتستعصي على التدجين والاحتواء .
كان التضييق علينا وعلى نشاطاتنا وعلى تجمعنا الوطني كبيراً والإحباطات كثيرة, فضلاً عن مصاعب العيش التي ولدها هذا النظام في المجتمع بشكل عام ومصاعب العمل والعيش أمام كل من يعارضه ولا يواليه, تلك مصاعب أبعدت من أبعدت, وأخذت إلى الغربة من أخذت من نشطاء قياداتنا, كما عطلت الأداء الديمقراطي الصحيح لمؤسساتنا التنظيمية وأحكام نظامنا الأساسي, فهل يكفينا القول اليوم, أننا حافظنا بعد هذا كله على وجودٍ ثابت لنا, وعلى دور نؤديه بصدق والتزام في ساحة العمل الوطني والنضال الديمقراطي وفي ساحات العمل القومي, ونأتي اليوم لنسأل أنفسنا, ما هو المعيار الذي نقيس عليه هذا الدور وأدائنا له, بعد أن بعدت كل هذا البعد الأهداف التي تطلعنا إليها, وقمنا من أجلها وناضلنا في سبيلها, بعد أن قطعتنا عنها, حركة التراجع والردة التي سادت ولم نقوَ على إيقافها ولا أن نجد لها رداً, فقضايا ومهمات الثورة العربية الشاملة التي أمسكت بها القوى المتقدمة لشعوب هذه الأمة في حقبة مضت, لم تعد هي المحركة والفاعلة, ومشروع نهوضنا القومي الذي تمسكنا به كمشروع ناصري ( كان الأكثر تقدماً ) دُمّرت كل مرتكزاته الاستراتيجية, لا بفعل القوى الخارجية المعادية للأمة بمقدار ما هي بفعل حركة الردة والفئات المرتدة داخلها, وحركة (الأنظمة) القطرية التي خرجت عن أهداف الأمة وعن كل طريق لوحدتها, والمنكفئة على مصالحها الفئوية الخاصة والحفاظ على استمرارية سلطتها وسلطانها, فضلاً عن مسيرة الهوان التي مضت على طريقها, إخضاعاً لمجتمعاتها وإذلالاً لشعوبها في الوقت الذي تشد أكثر فأكثر وتخضع للتابعية لقوى الهيمنة الخارجية والنفوذ الأمريكي, لتقف في النهاية عاجزة ومستسلمة أمام الاختراقات التي يحققها المشروع الصهيوني- الإمبريالي لكثير من مواقعها, ذلك المشروع الذي يُطّبق علينا أيما إطباق, في الوقت الذي يتراجع وينزوي مشروع نهوضنا في المواجهة, تقدُّمنا, وحدتنا؛ بينما لم يعد أمامنا في المنظور أي موقع أو مرتكز نهوض جديد للأمة ليكون مرجعية ولتعطي لقوى الأمة المؤشر للتحرك، فهل من سبيل بعد هذا؟ وبعد انسداد الأفق وغياب المرجعية الذي كان, إلا أن نعود ونستنهض من كل المواقع الاجتماعية والشعبية في الوطن العربي, مرتكزات جديدة للحركة والتقدم .
فنحن لا نأتي على هذا التوصيف للواقع المحبط وما آلت إليه الأمور لنجد تبريراً لقصوراتنا وتقصيرنا, وإنما لنملك رؤية عقلانية صائبة لهذا الواقع المتعثر, والمطلوب امتلاك وسائل وأدوات تغييره؛ احتكاماً لتلك المقولة التي طالما رددناها, من أن تشاؤم العقل يقابله تفاؤل الإرادة, إرادة الإنسان والجماعة المهتدية بالمعرفة, فهي فهم وإيمان كما قال عبد الناصر, وتلك بالنسبة لنا هي السياسة من حيث أنها ” علم الإرادة ” في مفهومنا وممارستنا .
ما نحن, ما حزبنا كحزب ناصري, إلا جرم صغير في هذا الوطن العربي المترامي الأطراف, وفي خضم حركات جماهير الأمة, التي تطلعت ومازالت تتطلع للنهوض, للحرية بكل أبعادها السياسية والاجتماعية, للتقدم، والوحدة وللتجدد الحضاري . ولكننا ومنذ البداية, وفي كل المراحل التي مر بها حزبنا منذ تأسيسه عام 1964 حتى اليوم, ما نظرنا لأنفسنا في هذا الحزب, وما تقدمنا بدعوتنا ومنظوراتنا وسياساتنا وعلاقاتنا, إلا كجزء من كلٍ يراد له أن يتشكل على صعيد الأمة كلها, وما طرحنا من أفكارنا وتصوراتنا إلا من أجل هذا الكل, وليقوم ويكتمل ويترابط, وإن انطلق في البداية وفي أطره الأولى من مواقع متعددة .
فالتلاقي على وحدة الهدف والتمسك بوحدة الأمة هو الذي يجمع في النهايـة .
ذلك هو المبدأ الأول والمنطلق في انتمائنا الناصري, وما كانت هذه التسمية بالناصرية والانتماء بالنسبة لنا مجرد تعلق بمآثر رجل تاريخي ’ ارتفعت همته لحمل طموحات أمته ‘ أو زعامة فردية, ولا أخذاً بمذهب أيديولوجي أخذ به, إلا إذا كان الالتزام بقضايا وحدة هذه الأمة وتحررها وتقدمها ونهوضها يعتبر مذهباً, ولكن الناصرية كانت في التعلق بالوحدة وتجديد الوحدة بين سورية ومصر عبد الناصر منطلقاً للوحدة الشاملة والتعامل مع النهج الاستراتيجي والنهج الذي اتبعه عبد الناصر لبلوغ أهداف الأمة والتصدي لأعداء نهوضها ووحدتها في الداخل والخارج .
وحزبنا هذا كان أول حزب سياسي عربي ناصري, أي قام على مثل هذا الانتماء, فمعيننا الأول كان من حركة الجماهير الشعبية الواسعة التي قامت في وجه الانفصال, ثم قامت تناضل من أجل استعادة الوحدة, فمن تلك الحركة انبثق ” الاتحـاد ” ومن طلائع فئاتها المتعددة تشكلت قياداته الأولى .
إلا أن الناصرية كانت التطلع دائماً إلى التأليف بين قوى الأمة بتياراتها ومناهلها الأيديولوجية المتعددة ذات المصلحة الحقيقية في التقدم والوحدة, والتي تلتقي على وحدة الهدف والأهداف الكبرى للأمة, لتتقدم كتلة واحدة أو تجمعاً من كتل متعددة وتحرك معها كتلة شعبية اجتماعية تاريخية كبيرة على طريق تلك الأهداف, وأمامها مشروع نهوض قومي وبرامج استراتيجية وتكتيكية تتقدم بها وأمامها خارطة طريق للمستقبل الذي تتحرك نحـوه .
ذلك المقصود من شعار ’ الحركة العربية الوحدة ‘ الذي أطلقه عبد الناصر, وكما وعيناه واستوعبناه في حينه, بعد أزمة الانفصال ثم فشل مشروع الوحدة الثلاثية عام 1963, عبر صراع وتعارض حركات وأحزاب ونظم قامت باسم القومية العربية والثورة, لتنتهي بنا إلى ما انتهينا إليه اليوم, فذلك الشعار, ما كان إلا نداءً للأجيال الصاعدة, لتمسك بطريق لاستكمال مهمات الثورة العربية الشاملة والتقدم بتصميم نحو أهدافها ووحدتها .
ولكن عبد الناصر إذا لم يبادر إلى تلك ’ الحركة ‘ من حيث أنه رئيس دولة ورأس نظام, فلقد فكر وعمل في الوقت ذاته, من أجل ذلك الكل, ولقد قدم مصر مرتكزاً وسنداً وملتقى لكل قوى النضال العربــي .
وما قدم ميثاق العمل الوطني عام 1962 دليل عمل ’ لجيل الثورة ‘ قدَّرهُ بخمسة عشر عاما أو بيان 30 مارس/ آذار/ 1968، كدليل استراتيجي لإنجاز مهمات حرب تحريرية تستهدف إزالة أثار العدوان, إلا كمنطلق ودليل عمل من أجل كل قوى الأمة, ولتلتقي, ولتتقدم بوعيها لضرورة وحدتها وما يصنع وحدتها السياسية فضلاً عن وحدتها الثقافية والاقتصاديـة .
والميثاق الوطني كان دليل عمل لجيل ثوري, جيل عبد الناصر, وقضى قبل أن ينجز مهماته, والثاني بيان 30 مارس كان الدليل لحقبة من الكفاح والتحرير, خرجت عليه القيادات المرّتدة, ولتتحول بمصر عن أن تكون مرتكزاً للنضال العربي ولذلك العمل العربـي الموحــد .
واليوم ونحن نقول بمشروع جديد ومجدّد للنهوض العربي, ونحن نعمل من أجل تجمع وطني ديمقراطي يراد له أن يتسع ويمتد على صعيد القطر وفي معارضة نظام الاستبداد والقهر, ومن أجل تجميع القوى والأحزاب الناصرية المقيمة على العهد في أقطار عدة, ومن أجل تجمع قومي عربي, وقومي- إسلامي على مستوى الأمة كلها, فمن خلال التطلع لذلك الكل الذي يراد له أن يتشكل وينهض بالأمة, هكذا فإن تلك التطلعات الناصرية تبقى, وليس لوحدها دليلٌ لنا للتحرك نحو المستقبل .
نقول هذا من غير أن نغفل جانب القصور أو التقصير الديمقراطي في تلك التجربة, وفي فكر وتكوين حركاتنا السياسية والاجتماعية في تلك المرحلة, قصور في الوعي والثقافة الديمقراطية بحيث لم تولي اهتمامها عملية تحديث المجتمع وحرية واستقلالية مؤسسات المجتمع المدني عن كل سلطة مطلقة أو شمولية, وما يعطل حركات التجديد والتغيير في المجتمع, فضلاً عن التغطية على العوامل والقوى السلبية داخل النظم والقوى السياسية, والتي كان لها أن تفعل فعلها وتصنع الردة والنظم القطرية المرّتـدة .
ما كانت قضايا الديمقراطية وتعميم الثقافة الديمقراطية والحوار والتعددية وتكريس مبادئ سيادة الحق والقانون في الدولة والمجتمع وغيرها…، هي شاغلنا وشاغل حركاتنا وأحزابنا ’ الثورية ‘ في الخمسينات والستينات، بل فكر الثورة والاستقلال الوطني والتحرر القومي والتقدم الثوري وحرق المراحل تقدمياً لنقوى على مواجهة أعداء الأمة والقوى المعادية لتقدمها ووحدتها .
لقد جاءت فكرة إقامة ’ ديمقراطية سليمة ‘ في البند السادس والأخير بين أهداف ثورة 23 يوليو التي قامت بها ’ حركة الضباط الأحرار ‘ بقيادة عبد الناصر لاستكمال مهمات ثورة وطنية, تؤهل مصر الثورة هذه، لحمل مشروع ثورة عربية شاملة, ومشروع نهوض قومي على طريق التحرر والتحرير, التقدم والعدل والتنمية المستقلة, وعلى طريق الوحدة والتجدد الحضاري في تعامل روح العصر وما يبلغه التقدم الإنساني, ولسنا هنا بصدد تقييم لإنجازات تلك الثورة التي التحمنا بها, وما حققته من إنجازات كبرى أو ما وقعت فيه من نكسات وأزمات, كانت انجازات القيادة الناصرية تغطي على القصور الديمقراطي وما تقيمه الأجهزة البيروقراطية من تغطية على القصورات وتعتيم إلى أن جاءت الهزيمة المذهلة في عدوان حزيران 1967 ليكشف ذلك القصور الكبير, الذي حال بين القيادة وبين أن ترى موازين قوتها وثغراتها بوضوح, كما حالت بين القوى الشعبية والاجتماعية في أن ترى وتكشف . ’ كان هناك بعض التغيير أو الدمقرطة في حركة النظام وتعامله مع المجتمع ‘، إلا أنها ظلت موظفة في إطار الحشد الوطني والعربي من أجل المعركة, على أن يأتي بعد إزالة آثار العدوان الانفتاح الكامل ’للديمقراطية السليمة‘, ولكن معركة إزالة آثار العدوان، وقفت عند حد بعد غياب عبد الناصر ثم كان التحول عنها, وبدل الدمقرطة والديمقراطية, كان هذا التعميم لنظم التسلط الفئوي والاستبداد, في كل أقطار الأمة, ونأتي اليوم, بعد كل الإخفاقات التي توالت, وبعد كل هذه المسيرة الطويلة من التراجع العربي, والتي نجد علتها الكبرى في التأخر أو التأخير الديمقراطي لأنظمتنا ومجتمعاتنا, فإن تلك ’الديمقراطية السليمة‘ التي كانت هدفاً سادسا وأخيراً في البرنامج الأولي لثورة عبد الناصر ولم تبلغه, تصبح اليوم وهي المبدأ الأساسي والمادة الأولى في كل برنامج لتجديد مشروع نهوضنا القومي، أو إصلاح أو تغيير أوضاعنا السياسية والاجتماعية, وفي تجمعنا, وأولاً وأساساً في تجديد بنيان حزبنا والقواعد التي يقوم عليها نظامنا وتنظيمنـا .
كانت الديمقراطية الوعد الذي نعد به أنفسنا, وتعدنا به الأنظمة التي قامت باسم التقدم والثورة والاشتراكية، بعد إنجاز مهمات كبرى قُدِمت عليها وقنعنا ببدائل على الطريق من تحالفات وجبهات سياسية وطنية وقومية, وأخذت بنا خدعة ’ الديمقراطية الشعبية ‘ وما قام عليها من أنظمة وحركات سياسية وجبهات, لم تكن لا ديمقراطية ولا شعبية, لنحسم أمرنا بشكل قاطع, ونقطع مع هذه التوجهات، بعد المعاناة التي عانيناها من نظام البعث القائم أو ما سمي بنظام الحركة التصحيحية, حين خضنا معه تجربة من التعاون في إطار تلك الصيغة الشكلية والكاذبة للديمقراطية, في إطار ما أخذ تسمية ’ الجبهة الوطنية التقدمية ‘, وما كانت إلا صيغة مُستنسخة عن تلك التي قامت عليها الديمقراطيات الشعبية التي كانت في أوربا الشرقيــة .
لن أعيد هنا ما سبق أن قلناه كثيراً عن تلك التجربة وسلبياتها وبعد القرار الذي اتخذه المؤتمر العام السادس في الانسحاب من جبهة النظام, قطعنا معه ومع سلطاته, بل ومع كل تلك الأنماط الشمولية في العمل السياسي والتنظيم الحزبي, وقلنا بالعودة الى الجماهير وما عنينا إلا العودة إلى المجتمع الشعبي والمدني, وإعادة تأسيس عملنا السياسي وعلاقاتنا في المجتمع, وفي استقلالية كاملة عن النظام والسلطات الحاكمة وقوفاً في معارضته, وكانت هناك مراجعة عامة لمناهج تفكيرنا وعملنا عبّرنا عنها في العديد من نشراتنا والكراسات التي أصدرناها بهذا الصدد في تلك المرحلة ( الحرية أولاً, الديمقراطية أو البربرية, الحوار مقدمة العمل والديمقراطية غاية وطريق .. وغيرها وغيرها ) . وانفتحنا منذ 1974 للحوار مع كل الأحزاب الوطنية التي تقف في معارضة النظام وتجّمعها وحدة الهدف على اختلاف منظوراتها الإيديولوجية, والتي طالبت نفسها أيضا كما طالبنا, بمراجعة ديمقراطية لنهجها ومواقعها السابقة ومقولاتها, لنلتقي في النهاية على ميثاق موحد للعمل المشترك, وعلى هذا ’ التجمع الوطني الديمقراطي ‘ الذي أردناه صيغة جديدة تجمع بيننا في العمل السياسي داخل المجتمع, ولإعادة تأسيس السياسة ديمقراطياً في المجتمع المدني, من خلال التطلع إلى الكل الذي نريد له أن يتشكل ديمقراطياً وطنياً وقومياً, وهذا التجمع أعلن عن نهجه الديمقراطي ومارس حضوره في العمل السياسي منذ بدايات عام 1980, ليتلقى ما تلقى من قمع النظام الرهيب الذي طال كل أطرافه, وهذا القمع وكل حملات الاعتقال والتعذيب والأحكام الجائرة والسجن المديد, إذا كانت قد نالت من قدراتنا فإنها لم تثنينا عن تصميمنا الديمقراطي واستمرارية نهجنا, وحزبنا الذي عقد مؤتمره العام السابع عام 1985 وفي ظروف صعبة أدخل تعديلات على نظامه الأساسي ( الداخلي ) والمنطلقات التي يعتمدها, وألغى مبدأ ’ المركزية الديمقراطية ‘ وما تعنيه فكراً وممارسة, ليتفق مع مبدأ العلانية في العمل ومع التحرك السياسي العام في إطار ’ التجمع ‘, ثم كان أن جرى التجمع ومنذ عام 1989 على الأخذ بمبدأ العلانية وأصدر ’الموقف الديمقراطي‘ كناطق باسمه ومعبر عن مواقفه ومواقف أطرافه .
إن تقدُّمنا هذا إلى العلانية, والتأكيد على حقنا في الوجود والتنظيم في المجتمع والتعبير الحر, بحق المواطنية وحقوقنا الدستورية كمواطنين أحرار, وإن نهجنا الديمقراطي في الممارسة واعتماد أساليب النضال المطلبي, مطالِبين بإطلاق الحريات العامة وإلغاء الأحكام الاستثنائية والعمل من أجل التغيير الديمقراطي وإقامة دولة الحق والقانون, لم يعفنا من حملات القمع والملاحقة والمحاصرة المتلاحقة .
ولقد تعرض حزبنا بعد مؤتمره السابع عام 1985 ثم بخاصة بعد مواقفه ضد المشاركة بالحملة الأمريكية لتدمير العراق باسم تحرير الكويت, لحملات متوالية من الملاحقة والتنكيل والاعتقال لقياداته التنظيمية والمصادرات, فضلاً عن محاولات الدس والاندساس في صفوفه, مما أدى لتعطيل عدد من مرجعياته القيادية ومؤسساته ودور اللجنة المركزية بخاصة, مما ألجأ القيادة إلى التعويض بإجراءات استثنائية وتعليق لعدد من أحكام نظامنا الأساسي, مما كان له أثره على هذا الإرجاء الطويل للعودة إلى المؤتمر العام, والتباطؤ في الإجراءات اللازمة للوصول إلى هذا المؤتمــر .
ولقد جئنا أخيراً إلى هذا المؤتمر لوصل ما انقطع, ولتجديد البنيان الديمقراطي لتنظيمنا الحزبي, وإدخال تعديلات على نظامه الأساسي, بما يفي بسد الثغرات التي وقعت واستكمال المؤسسات التمثيلية والقيادية لحزبنا, ليقوى على الوفاء بالأهداف التي قام من أجلها, ولأداء دوره المأمول في العمل الوطني والقومي, مع التأكيد على أداء دوره في تفعيل مشاركته في إطار حركة ’ التجمع الوطني الديمقراطي ‘ والدفع لاستكمال مناهجه ومؤسساته ومد نشاطاته, ليؤدي دوره في الدفـع بحركـة التغيير الديمقراطـي للدولـة والمجتمـع .
ونظل نؤكد هنا على مبدأ العلانية في التعبير عن حضورنا ونشاطاتنا وعن مواقفنا وفي إعلامنا والتسمي بأسمائنا, وإن كنا نعرف أن ممارسة العلانية في المعارضة والاحتكام للحق والقانون، ليس بالأمر الهين تحت سيطرة مثل هذا النظام الأمني والقسري السائد, ولكنه يبقى السبيل الصحيح إلى التحرك في المجتمع والى الفعل فيه والى التعامل مع مؤسسات المجتمع المدني وتنظيماته.., وإذا كان علينا أن نؤدي ثمناً لهذه العلانية, فلا بد أن تكون عناصرنا القيادية على قدر كافٍ من الاستعداد والتصميم على تحمل مسؤولياتها هذه, معتزين بانتمائنـا ومواقفنـا .
ومن هذه المواقع والمواقف الديمقراطية والعلانية, تعاملنا مع هذا النظام السائد وقمنا في معارضته, وسنظل عند مطالبنا في التغيير الديمقراطي ولتقوم الدولة كدولة للحق والقانون, دولة لكل مواطنيها وليست لفئة أو حزب أو أسرة فرد, ولا بد أن يدرك هذا النظام، وعلى ضوء كل ما جرى من متغيرات في العالم, وبعد كل ما وصلت إليه أوضاعنا الداخلية من تردٍ كبير, ومن أزمات طالت كل جوانب حياة شعبنا ومجتمعنا, إن استمرارية نهجه هذا لم يعد مقبولاً ولا معقولاً, وهو يضع البلاد والعباد على طريق المجهول .
لقد شهدت البلاد في الآونة الأخيرة حركت تغيير جزئية في مواقع السلطات التنفيذية والحكومة, حركة جاءت بعد جمودٍ طال وتعثر كبير, بحيث بدت الدولة والقرار السياسي للدولة وكأنهما في غياب, مما أبرز التردد والتقلب والحيرة في كل سياسات النظام الداخلية والخارجية وفي إجراءاته, إلا ما كان يشغل النظام في إعادة ترتيب البيت وأوضاعه الخاصة وموقع القوة والنفوذ لصالح توارث الموقع الأول, أي ولاية العهد وصعود الابن إلى الموقع الأول في قيادة الدولة والمجتمع . وبهذا التوجه أجرى ما أجرى من تعديل وزاري وتحت عنوان الإصلاح وتحسين الأداء الإداري والحد من الفساد, إلا أن هذا الذي جرى وما سيجري سيظل بمنأى عن هموم المواطن ورؤيته, وعن مطالب التصحيح الديمقراطي للنهج القائم, فما يدور من ترتيبات لأوضاع النظام وسلطاته, إنما يدور في الأطر والأقنية والتشكيلات السلطوية ذاتها, إنها ليست التغيير, بل إعادة إنتاج النهج إياه وتأكيد الاستمراريـة .
وهكذا فإننا سنظل عند مواقفنا ومطالبنا بالتغيير الديمقراطي, وهو تغيير لا ينزل من فوق, بل يصدر من المجتمع, وبإطلاق الحريات العامة والحراك السياسي للمجتمع ليكون هناك تغيير وتجديد وشفافية في رؤية المصالح والأمور وفي التداول الديمقراطي للسلطات التشريعيـة والتنفيذيـة .
هذا ما يمكن أن نقوله الآن هنا، كموقف مما يجري على ساحتنا القطرية، وهو موضوع أمام المؤتمر، كما توضع أمامه المواقف والتوصيات المرفوعة من اللجنة التحضيرية ومن لجان المؤتمر، حوا مختلف الساحات العربية، ومختلف قضايانا الوطنية والقومية، وكذلك رؤيتنا للمتغيرات الدولية وبخاصة في العقد الأخير، وما أصابنا وأصاب قضايانا القومية والمصيرية منها .
وبعد هذا كله فإنني أرى التأكيد على مواصلة نهجنا الوطني الديمقراطي في المعارضة, وعلى العمل في إطار التجمع, وعلى الدفع بحركة وتلاحم مجموعاته وقواه, ليقدم نهجه الديمقراطي في إعادة تأسيس السياسة والعمل السياسي ديمقراطياً في المجتمع .
كما يجدر التأكيد على نهجنا الناصري في العمل القومي, والدفع على طريق تشكيل الأداة أو الأدوات العربية الموحدة, التي تقوى على حمل مشروع نهوضنا العربي وللدفع به إلى أهدافه الكبرى . وتبقى قضيتنا, قضية الأمة العربية الواحدة, واستكمال شروط تكاملها ونمائها ووحدتها وتجددها الحضاري, كمرجعية لا سبيل إلاّهــا, للتعامل مع المتغيرات الدولية والعولمات الاقتصادية والثقافية التي يسخرها الاستقطاب الأمريكي لصالح هيمنته العالمية .
* ألقاها الدكتور جمال الأتاسي في 20 آذار، قبل عدة أيام من وفاته- رحمهُ الله- بمثل هذا التاريخ في 30 آذار 2000
التعليقات مغلقة.