أحمد عيشة *
= مقابلة مع ‘‘نيقولاوس فان دام’’ أجراها ‘‘تيغران يغافيان’’([1])
◉ بعد 10 أعوام من الحرب في سورية، ما هو تحليلك للوضع الحالي؟ وما هو التقييم البشري والاقتصادي والاجتماعي؟
– كانت الحرب في سورية كارثة على الجميع، خاصة على الشعب السوري، ولكن أيضًا على بعض الدول التي تدخلت عسكريًا، مثل تركيا. تمتد الكارثة لتشمل جميع الجبهات: الإنسانية والاجتماعية والاقتصادية والعسكرية والسياسية. قُتل أكثر من نصف مليون سوري، وأصبح أكثر من نصف السوريين لاجئين. ودمِّر جزء كبير من البلاد، ودُمِّر الاقتصاد إلى حد أصبح فيه مستوى معيشة معظم السوريين في البلاد الآن تحت خط الفقر. أدى التضخم وارتفاع الأسعار إلى تفاقم الأمور، كما أدت العقوبات المفروضة إلى مزيد من المعاناة بين الناس، بحيث أصبحوا غير فعالين إلى حد كبير ضد نخب النظام.
◉ في كتابك الصراع على السلطة في سورية (The Struggle for Power in Syria)، كنت متيقنًا من أن أي سيناريو يؤدي إلى إطاحة النظام سيكون حتمًا عنيفًا للغاية. هل كان ينبغي للمعارضة أن تفكر في ذلك منذ البداية وتمتنع عن إطلاق ثورة شعبية؟
– كان يجب على مجموعات المعارضة أن تدرك جيدًا مسبقًا أن أي مواجهة مع النظام ستكون عنيفة للغاية، كما توقعتُ بالفعل في أوائل الثمانينيات، آخذين في الحسبان طبيعة النظام السوري. لم يكن نظام البعث ليقبل مطالب المتظاهرين طواعية، وليس مع تظاهر (100,000) شخص سلميًا، وبالتأكيد ليس بعد أن تضمنت شعاراتهم على عبارات مثل “الشعب يريد إسقاط النظام” و”الشعب يريد إعدام الرئيس”. بعد كسر جدار الخوف، دخل المتظاهرون عن غير قصد إلى نوع من “ميادين القتل”، متخيلين -خطأً- أن ما يسمى بـ “المجتمع الدولي” سوف يدعمهم وينقذهم. لقد خبروا بصورة مؤلمة أن هذا “المجتمع الدولي”، الذي يتكون من أصدقاء وأعداء، ليس كيانًا متماسكًا وموثوقًا به، وعلى استعداد لمساعدتهم بما يكفي لتحقيق أهدافهم.
كان كثير من المتظاهرين السوريين مدفوعين بحماستهم وحميتهم، معتقدين أن بإمكانهم إسقاط النظام، كما حدث في مصر حيث استقال الرئيس مبارك في غضون ثلاثة أسابيع. وزاد مقتل الزعيم الليبي القذافي من اعتقادهم بأنهم سيحصلون على دعم مماثل من الدول الغربية والعربية لإطاحة الرئيس بشار الأسد. لكن هذا لم يحدث، لأنه بعد التدخل في ليبيا، عارضت روسيا السماح لمجلس الأمن الدولي بأي تدخل عسكري لاحق قد يساء استخدامه لتغيير النظام، كما حدث في ليبيا.
في عام 2012، بمناسبة الذكرى السنوية الأولى للثورة السورية، شددتُ على ضرورة الحوار بين المعارضة السورية والنظام، لكن هذا الرأي رفضه كثيرون حينها. لكن الحوار الفاشل أفضل من الحرب الفاشلة. توقعت أنه إذا استمر الصراع على نفس المنوال، فقد يرتفع عدد القتلى، حيث كان عدد القتلى وقتها ما يقرب من (10,000)، إلى (300,000) قتيل. في الواقع اتضح أن ما حدث أسوأ بكثير.
يجب على المرء فقط المشاركة في أي حرب أو في أي محاولة لإسقاط النظام عندما يكون هناك احتمال واقعي لهزيمة الخصم. ربما انقلاب ينفذه خصوم من داخل النظام كان يخلق تهديدًا خطيرًا، لكن المنشقين الذين ليس لديهم أسلحة ثقيلة لم يحظوا بفرصة. جادل كثير من العسكريين المنشقين بأنه يتعين عليهم حماية أنفسهم وشعبهم من الهجمات والفظائع التي يرتكبها النظام السوري. لكن حملهم السلاح زاد الطين بلّة، لأنه لم يكن لديهم القدرة العسكرية على إسقاط النظام. وبمجرد أن بدأوا، بفضل المساعدات العسكرية الخارجية المكثفة، في تهديد النظام السوري في عام 2015، تدخلت روسيا عسكريًا. لو أن جماعات المعارضة قد تمكنت من تهديد النظام في وقت سابق، فمن المحتمل أن روسيا كانت ستتدخل في وقت أسبق، لعدم رغبتها في خسارة سورية كحليف لها.
أصرَّ كثيرٌ من السوريين والأجانب الذين انحازوا للمعارضة على أن الثورة السورية مبررة تمامًا، بل وجادل البعض بأن الثورة السورية “تستحق العناء”، لأنها كانت جهدًا صادقًا لإنهاء الديكتاتورية. قد يكون هذا صحيحًا من وجهة نظر مبدئية ونظرية، لكن العواقب القاتلة المحتملة والمتوقعة خصوصًا، كان يجب أخذها في الحسبان بجدية أيضًا. إن القتال ضد الدكتاتورية العنيفة أمر مشروع تمامًا بالطبع، ولكن كان ينبغي على المرء أيضًا أن يتوقع أن هذا قد يؤدي إلى حمام دم مع نتائج سلبية فقط. ترفض المعارضة وأنصارها بسخط واستياء شديدين بصورة عام فكرة أن أولئك الذين بدأوا الثورة يتحملون بعض المسؤولية عن نتائجها الدموية، بحجة أن النظام هو المسؤول بالفعل. قد يكون النظام مسؤولًا بالفعل عن حوالي (90) في المئة من جميع الضحايا المدنيين وعن القتل المفرط والعشوائي، من ضمن ذلك باستخدام الأسلحة الكيمياوية أو البراميل المتفجرة. لكن جماعات المعارضة العسكرية، مسؤولة عن الضحايا الآخرين. أرادوا قتل “الأسد”، لكنهم ذبحوا أنفسهم على نطاق واسع بدلًا من ذلك.
لا يمكن للمرء، حسب الرغبة، أن ينسب الفضل له في الثورة بشكل انتقائي عندما تنجح، ولكن يرفض أي مسؤولية مشتركة عندما تفشل. عند اتباع المبادئ المثالية، من غير المسؤول تجاهل الحقائق على الأرض، ولا سيما عندما تكون أرواح كثير من البشر على المحك/ في خطر.
في عام 2011، أكدت بالفعل أن الرئيس بشار الأسد لن يوقع أمر وفاته وأن الشخصيات الرئيسة في جيشه وأجهزته المخابراتية لن يستسلموا، لأن ذلك بالنسبة لهم كانت معركة من أجل الحياة والموت. يبدو أن كثير من الأشخاص لم يفهموا أن احتمال محاكمة النظام السوري وإعدام بعض أعضائه الرئيسين، قد خلق نوعًا من الضمان بأن هؤلاء الأشخاص لن يستقيلوا طواعية أبدًا. في حالة سورية، يمكن فرض المساءلة فقط من خلال إطاحة المعنيين بالحكم. إن توقع تعاونهم الطوعي في زوالهم المميت هو أمر ساذج، حتى تحت أشد الضغوط.
◉ كنت مبعوث هولندا الخاص لسورية، وتعمل من اسطنبول. كيف تفسر فشل المعارضة السورية في التوحد حول منصة مشتركة؟ هل يعود ذلك إلى الألعاب التي يلعبها ممثلو السنة الإقليميون؟
– أوضح لي قادة ائتلاف المعارضة السورية في اسطنبول أنه في حين أن كثير من الدول الغربية توقعت أن تتوصل المجموعات المدنية والعسكرية العديدة إلى موقف موحد، إلا أن عليهم أيضًا أن يدركوا أنه في المنظمات التي من المفترض أن تحترم مبدأ حرية التعبير، هناك لا بد أن يكون تنوعًا في الآراء. وهذا صحيح. كان هناك تنوع كبير في الآراء بين جماعات المعارضة، بعضها معتدل وعلماني، وبعضها الآخر إسلامي تقليدي، والبعض الآخر إسلامي راديكالي. كانت معظم الجماعات عربية، وبعضها الآخر كردية أو تركمانية. ومع ذلك، في فترة الحرب، يجب توحيد الصفوف من أجل مواجهة الخصم بصورة كافية.
استغرقت مجموعات المعارضة الرئيسة قرابة خمسة أعوام للتوصل إلى موقف تفاوضي مشترك، صُيِغَ في إعلان الرياض الصادر في كانون الأول/ ديسمبر 2015. وقد نصّ هذا الإعلان بصورة مثالية دعمهم لـ “الديمقراطية من خلال نظام تعددي تشارك فيه جميع المجموعات السورية، من ضمن ذلك الرجال والنساء، من دون تمييز أو إقصاء على أساس الدين أو المذهب أو العرق، وأن تكون قائمة على مبادئ حقوق الإنسان والشفافية والمساءلة وسيادة القانون على نحو يطبَق على الجميع”.
من المشكوك فيه ما إذا كان هذا الإعلان سينفذ حقًا على الإطلاق، لأن الموقعين عليه من الإسلاميين، مثل الإخوان المسلمين وجيش الإسلام وأحرار الشام، لا يؤيدون في الواقع عدم التمييز على أساس الدين، في حين لا تدعم الجماعات القومية العربية بشكل عام فكرة المساواة بين العرب والأكراد أو التركمان. يمكن فقط تحت القاسم المشترك لهوية “المواطنين السوريين” للجميع أن يكونوا متساوين. لم يتم التوصل بعد إلى اتفاق كامل على هذا المبدأ.
هناك سبب آخر منع تشكيل معارضة موحدة هو أن الدول المختلفة التي دعمت جماعات المعارضة، مثل قطر والمملكة العربية السعودية وتركيا والولايات المتحدة، كانت لديها أجندات سياسية وعسكرية مختلفة. أدت هذه الأجندات المتناقضة إلى تنافسات سورية داخلية على الأرض، وهو ما جعل المعارضة أقل فعالية عسكريًا. كما أن حقيقة أن مجموعات المعارضة المختلفة كانت تنظر إلى كثير من الضباط السوريين المنشقين بعين الريبة وبالتالي همشوهم، أعاقت أيضًا فعاليتهم.
◉ هل تعتقد أن الصراع السوري يمثل دراسة حالة للعجز الغربي؟ ما هو الثقل الذي تتمتع به الولايات المتحدة وأوروبا في سورية اليوم، وما هي الدروس التي تستخلصونها منها شخصيًا؟
– إن تقديم صورة واقعية وصادقة من وجهة نظري الشخصية هو نوع من الصداقة للشعب السوري أفضل من مجرد تقديم كلمات لطيفة من الدعم المعنوي للمعارضة، وخلق توقعات خاطئة لديه. بالنسبة لمختلف البلدان التي تدخلت، كانت مصالحها المتصورة هي التي وجهت أعمالها أكثر من اهتمامها بمصير الشعب السوري.
إن نفوذ الولايات المتحدة في سورية -إلى جانب عقوباتها- محدود من خلال وجودها العسكري الصغير نسبيًا، ولكن مع ذلك ينطوي على خطر محتمل يتمثل في مواجهة أميركية روسية. الدعم الأميركي لحزب الاتحاد الديمقراطي/ وحدات حماية الشعب الكردية في الشمال الشرقي ضد فلول الدولة الإسلامية (داعش) يخلق احتكاكًا مع تركيا حليفتها في حلف شمال الأطلسي (ناتو)، بسبب العلاقة القوية بين حزب الاتحاد الديمقراطي/ وحدات حماية الشعب وحزب العمال الكردستاني التركي الشقيق. على المدى الطويل، تلتزم الولايات المتحدة بإعطاء الأولوية لتركيا على حساب أكراد سورية. الاتحاد الأوروبي، باعتباره كتلة قوة اقتصادية بشكل أساسي، ليس له أي تأثير على الإطلاق.
أحد الدروس التي يجب على الدول الغربية والعربية استخلاصها من الحرب في سورية، أنها يجب، من حيث المبدأ، تجنب التدخل العسكري في دول الشرق الأوسط التي لا تهددها. عادة ما تكون آثار مثل هذه التدخلات ذات نتائج عكسية إن لم تكن كارثية، كما ظهر بوضوح في حالات أفغانستان وإيران والعراق والكويت وليبيا وسورية واليمن. يجب على الدول المتدخلة أن تكون واقعية فيما يتعلق بنواقصها. انخرطت دول غربية وعربية في سورية بإرادة وإمكانيات محدودتين، لكنها لم تكن مستعدة لتكييف أهدافها وفقًا لذلك، ونتيجة لذلك لم تكن في وضع يمكنها من تحقيق ما زعمت أنها تريده.
◉ إذا انتصر بشار الأسد في الحرب فهل يمكنه أن يفوز بالسلام؟
– حتى لو انتصر الرئيس بشار الأسد في الحرب، من خلال استعادة السيطرة الكاملة على كل سورية، فإنه لا يستطيع، في رأيي، أن يفوز بالسلام، بسبب الضرر الذي لا يمكن إصلاحه الذي أحدثته الحرب في أوساط الشعب السوري. خلقت الحرب كثيرًا من الأعداء داخل سورية. لا يزال بإمكان الأسد أن يحكم البلاد لفترة طويلة، ولكن ليس بطريقة سلمية. سيظل خطر الاضطرابات المدنية قائمًا.
◉ ما هي النتيجة المتوقعة التي يمكن أن نتوقعها؟ هل تشارك روسيا في إعادة الإعمار من خلال إبعاد الإيرانيين؟ لكن داخليًا، ألا نتجه نحو تكرار السيناريو الجزائري أو الشيشاني، الذي يتمثل في استمالة الحكومة السورية للإسلام السياسي الموالي من خلال أسلمة المجتمع؟
– أتوقع من الدول الأجنبية إعادة العلاقات الدبلوماسية تدريجيًا مع دمشق، من خلال قبول أن رغبتها السابقة في إحداث تغيير في النظام لن تحدث في المستقبل المنظور. قد ترغب روسيا في تقليص نفوذ إيران في سورية. ومع ذلك، فإن إيران ملتزمة بالبقاء كجزء من تحالفها مع دمشق -وإن كان على نطاق أصغر- وأيضًا في إطار المواجهات الإيرانية الإسرائيلية، حيث تُستخدم سورية كمركز عسكري استراتيجي أمامي ضد هجمات إسرائيل أو الولايات المتحدة. لا تزال سورية جسرًا هامًا بين إيران ولبنان وحزب الله، حليفها اللبناني.
قد تكون كثير من الدول، من ضمن ذلك الصين ودول الخليج العربي، على استعداد لتمويل إعادة إعمار سورية، لأن عدم القيام بذلك سيضمن مزيدًا من عدم الاستقرار لسورية، وبالتالي للمنطقة.
لا أرى أي أفق يكون النظام السوري مستعدًا للتعاون مع الأحزاب الإسلامية المعادية له، رغم أنه سيستمر في استقطاب الشخصيات الإسلامية كما في الماضي. إن أسلمة المجتمع مع وجود مثل هذا التمثيل القوي للعلويين العلمانيين بشكل أساسي في مناصب النظام الرئيسة سيكون أمرًا متناقضًا تمامًا.
◉ ما هو مستقبل الجيل المقبل من السوريين، حيث نصفهم من اللاجئين وثلثهم لا يحصلون على التعليم؟ ما نوع الأخطار التي يشكلها هذا الجيل على مستقبل سورية والمنطقة بأسرها؟
– سيرغب معظم اللاجئين في البقاء في الخارج إلى أجل غير مسمى، ولا سيما في الدول الغربية التي توفر فرصًا للاندماج. قد يرغب بعض اللاجئين في البلدان المجاورة في العودة بمجرد أن تتاح لهم الفرصة، أو إذا أصبح ضغط البلد المضيف عليهم للمغادرة لا يطاق. لكن في الوقت الحالي، يخشى معظمهم العودة إلى سورية بسبب انعدام الأمن وإمكانيات كسب العيش الكريم.
لقد تعرض معظم السوريين لتجارب مؤلمة نتيجة الحرب، التي لا بد أن تنتقل آثارها إلى الأجيال اللاحقة. من المرجح أن يستمر كثير من السوريين في حمل ضغائن شديدة ضد النظام وأحزاب المعارضة، الذين جرّوهم إلى هذه الحرب من دون موافقتهم. لا بد أن يستمر الفساد والعنف والجريمة في الازدهار، طالما أن النظام غير قادر على تحقيق الاستقرار في البلاد. إن النقص الحاد في الوصول إلى التعليم لأكثر من جيل لا يعيق الازدهار والتنمية فحسب، بل يخلق أيضًا توترات إضافية في منطقة مليئة بالفعل بالصراعات التي لم تُحَل بعد.
على الرغم من أن الاستقرار الحقيقي والازدهار يظلان بعيدين عن الأنظار في المستقبل المنظور، لكن لا توجد قاعدة أبدية. من المحتم أن تحدث ثورات جديدة أو انقلابات عسكرية مرة أخرى يومًا ما، على الرغم من عدم وجود ضمان بأن الأنظمة اللاحقة ستحقق الاستقرار والازدهار المطلوبين، ناهيك عن تحقيق الديمقراطية.
على المدى الطويل، لا بد أن تتحسن أمور الشعب السوري، لكن من دون الربيع العربي الدموي والثورة السورية لكان الشعب السوري أفضل حالًا اليوم.
…………………..
نيقولاوس فان دام/ حاوره تيغران يغافيان
العنوان الأصلي: ? The Syrian Revolution: was it worth it
ترجمة: أحمد عيشة
…………………..
[1] – عمل الدكتور ‘‘نيكولاس فان دام’’ سفيراً لهولندا في العراق ومصر وتركيا وأذربيجان وألمانيا وإندونيسيا ، ومبعوثاً خاصاً لسورية. نُشرت هذه المقابلة باللغة الفرنسية تحت عنوان: ‘La révolution syrienne, ou le grand gâchis’ , in Conflits. Revue de Géopolitique, March 2022.
ـــــــــــــــــ
* مهندس وكاتب ناشط ومترجم
المصدر: حرمون
التعليقات مغلقة.