منى فرح *
عندما تتجاهل السعودية والإمارات اتصالات الرئيس الأميركي جو بايدن الهاتفية، وترفضان؛ بشكل فظّ؛ طلباته المساعدة في خفض أسعار النفط، وتمتنعان عن إدانة العملية العسكرية الروسية ضد أوكرانيا، وأخيراً عندما تستضيف أبوظبي الرئيس السوري بشار الأسد، فلا يبقى مجال لأي شك في أن العلاقات الأميركية الخليجية دخلت في أزمة كبيرة، بحسب تحليلات فراس مقصد(**)، من صحيفة “وول ستريت جورنال”.
هذا الوضع مرجح لأن يتفاقم في الأسابيع القليلة المقبلة، مع اقتراب الولايات المتحدة من إبرام اتفاق مع إيران بشأن برنامجها النووي، وما سيتبعه من رفع العديد من العقوبات المفروضة عليها. وبالتالي، فإن الطريقة التي ستتعامل بها واشنطن مع هذا المأزق؛ الذي يتكشف يوماً بعد يوم؛ سوف تُؤشر إلى مستقبل المنطقة ومكانة الولايات المتحدة فيها لعقود مقبلة من الزمن.
بعض الأطراف في الغرب، يساوون بين السلوك الذي يتبعه بعض شركاء الولايات المتحدة في الخليج و”القرارات الشاذة” التي يتخذها قادة متنفذون “غير عقلانيين” أمثال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. ولكن، هل هذا يفسر لماذا يسعى حلفاء آخرون لأميركا في الشرق الأوسط؛ مثل إسرائيل والأردن وتركيا ومصر؛ أيضاً لتطوير علاقاتهم مع روسيا والصين؛ حتى على حساب علاقاتهم المشتركة؟ هل كل هذه الدول يقودها رجال أقوياء غير عقلانيين؟
القشة التي قصمت ظهر الرياض وأبوظبي:
بالطبع لا. إن حلفاء أميركا في الشرق الأوسط قد خلصوا؛ وبشكل عقلاني؛ إلى نتيجة مفادها أنهم بحاجة إلى تنويع خيارات سياستهم الخارجية، لا سيما بعد إحجام واشنطن عن الوفاء بالتزاماتها الدفاعية. فالمشاهد الدرامية لخروج القوات الأميركية بشكل فوضوي من أفغانستان أكدت أن الولايات المتحدة في حالة تراجع. وبالنسبة للسعودية والإمارات على وجه الخصوص، فقد كان غياب رد أميركي ذي مغزى على الهجمات التي طالت مطارات ومنشآت نفطية في الخليج (حقل بقيق السعودي في 2019 ومدينة أبو ظبي في 2022) بواسطة مسيرات تدعمها إيران، بمثابة القشة التي قصمت ظهر البعير.
حتى بعد الهجوم الكبير الأخير الذي تعرضت له في كانون الثاني/ يناير، لم تسمع أبوظبي أي تعليق “مسؤول” من الإدارة الأميركية. فكان أن رفض محمد بن زايد، ولي عهد أبوظبي والحاكم الفعلي للإمارات، مقابلة الجنرال فرانك ماكنزي، القائد الأعلى للقوات المسلحة الأميركية، عندما كان في زيارة إلى المنطقة في شباط/ فبراير الماضي. إن مخاوف الخليجيين بشأن إلتزام أميركا بحماية أمنهم قد تحوّلت إلى شعور بالغضب والخذلان.
لذلك، عندما رفع بايدن سماعة الهاتف؛ بعد أسابيع؛ ليطلب من حلفائه الخليجيين المساعدة في خفض أسعار النفط، لم يجد نظيره الإماراتي على الطرف الآخر من الخط.. لقد رفض الرد على مكالمته.
تناقضات مميتة لواشنطن:
إن السلوك الذي تتبعه إدارة بايدن تجاه دول الخليج يتناقض مع استراتيجيتها للأمن القومي، التي تقوم على تنشيط التحالفات والشراكات. لدى فريق بايدن افتراضان خاطئان: الأول يقول إن صعود الصين وعودة روسيا كقوى عُظمى يجعلهما منافسين شديدين، ومواجهتهما تستلزم إعادة تقويم المعايير من الشرق الأوسط إلى جنوب شرق آسيا والآن إلى أوروبا الشرقية. والافتراض الثاني هو أن تحقيق انفراجة في العلاقة مع إيران، بدءاً باتفاق نووي، سيجعل المنطقة أكثر استقراراً.
بالنسبة للمسؤولين الأميركيين، فإن هذه الافتراضات تكمل وتعزز بعضها البعض: الإنسحاب الأميركي من الشرق الأوسط يُفترض أن يجعل إيران أقل عدوانية. في المقابل، تحسين العلاقات الأميركية – الإيرانية سيتيح لواشنطن المزيد من الوقت للتركيز على التهديدات التي تواجهها في أماكن أخرى. ظاهرياً، يبدو أن هكذا ترتيب سيكون مربحاً على أكثر من صعيد، بما أن السعودية والإمارات وإسرائيل سيستفيدون أيضاً من إلتزام إيراني بوقف التصعيد.
لكن هذه الاستراتيجية مبنية على أُسس خاطئة. في الواقع، يُعتبر الشرق الأوسط بمثابة “الغرب المتوحش بالنسبة للقوى العُظمى المتنافسة”، كما يقول الجنرال ماكنزي. فالمنطقة تتمتع بموقع جغرافي استراتيجي في غاية الأهمية (تقع على مفترق طرق ثلاث قارات مهمة)، وتضم ثلاثاً من أهم الممرات المائية في العالم، وتُعتبر شرياناً حيوياً بالنسبة للتجارة العالمية. بالإضافة إلى أنها تحتوي على نصف احتياطيات النفط العالمية وأكثر من ثلث الإنتاج.
قبل فوات الأوان:
لذلك، لن تستطيع الولايات المتحدة منافسة القوى العُظمى الأخرى (روسيا والصين) بفاعلية، بينما هي تتخلى عن موقعها المهيمن في مثل هذا الجزء الاستراتيجي الهام من العالم (الشرق الأوسط). فعندما ينجح الزحف العسكري الروسي في شمال إفريقيا وشرق البحر الأبيض المتوسط والبحر الأحمر في ملء الفراغ الذي خلّفته الولايات المتحدة في تلك المناطق، وبينما تستكمل الصين إزاحة الولايات المتحدة كشريك تجاري رئيسي لمعظم دول الشرق الأوسط، وتحل مكانها، عندها سيجد “الحلفاء والشركاء” أنفسهم مضطرين للتكيف مع الواقع الجديد؛ أي إدارة شؤونهم وأمورهم بعيداً عن واشنطن.
كما أنه ليس هناك ما يضمن أن يؤدي تحسن العلاقات الأميركية-الإيرانية إلى شرق أوسط أكثر استقراراً. فمن المرجح أن تزداد شهية إيران للتوسع بمجرد رفع معظم العقوبات الغربية، وتضاءل الردع الأميركي في جميع أنحاء المنطقة. وهذا بدوره يمكن أن يغذي المزيد من الصراعات، ويقوي تصميم السعودية على مجاراة إيران بأن تصبح هي أيضاً دولة نووية، ما يعني توريط الولايات المتحدة في تشابكات عسكرية مستقبلية.
لقد تعمدت السعودية والإمارات توطيد التعاون مع كل من روسيا والصين بدافع الضرورة وليس التفضيل. وإذا ما جدَّدت إدارة بايدن التزامها بالدفاع الإقليمي من خلال التأكيد علناً على تحالف استراتيجي، فستعود الرياض وأبو ظبي إلى علاقات أكثر تعاوناً مع واشنطن، تشمل أسعار النفط، حتى ولو على حساب موسكو وبكين.
لم يفت الأوان بعد:
يمكن لواشنطن أن تؤكد وتُجدد التزاماتها تجاه المنطقة من خلال تعيين مبعوث خاص تكون مهمته الأساسية استعادة الثقة والارتقاء بالعلاقات المشتركة، خاصة أنه لا يوجد سفير أميركي في الرياض أو أبو ظبي منذ سنوات. ويمكن لواشنطن أيضاً توسيع قاعدة الدفاعات الجوية في الخليج من خلال تلبية طلبات نشر المزيد من أنظمة الدفاع المضادة للصواريخ، وتعزيز التعاون الاستخباراتي، وتوفير نظام الإنذار المُبكر ضد أي هجمات مرتقبة.
تُعتبر كل هذه الإجراءات دفاعية بحتة، ومن غير المرجح أن يجر أي منها الولايات المتحدة إلى صراعات جديدة. بل على العكس من ذلك، ستساعد في ردع أي تصعيد غير متوقع، وستوفر للاقتصاد الأميركي عائدات بمليارات الدولارات من خلال مبيعات أنظمة الدفاع الجديدة. والأهم من ذلك، أن تلك الإجراءات ستضمن بقاء جزء استراتيجي من العالم في الفلك الأميركي، وستُبقي سياسات الحلفاء الرئيسيين متناغمة مع المصالح الأميركية، وبالتالي لن يكون الرئيس الأميركي وحده على الخط في أي اتصال هاتفي جديد.
(ملاحظة: هذا النص كتب قبيل إنعقاد قمة شرم الشيخ الثلاثية المصرية ـ الإسرائيلية ـ الإماراتية).
– النص بالإنكليزية على موقع “وول ستريت جورنال“:
(**) أستاذ مساعد في كلية إليوت للشؤون الدولية في جامعة “جورج واشنطن” وزميل أول في معهد الشرق الأوسط.
ـــــــــــــــــــ
* كاتبة صحافية ومترجمة لبنانية
المصدر: 180 بوست
التعليقات مغلقة.