واسيني الأعرج *
سقطت المنارة، عمّ الميناء الظلام والأدخنة. ولم يعد للعرب وجهة ولا مكان على هذه الأرض. فقد دفعوا نحو عمليات إفناء غير مسبوقة، اشتركت فيها الآلة العسكرية المدمرة، وفق تقسيم مسبق وجديد للعالم، لا مكان فيه للضعيف، بمساعدة آلة التطرفات الخبيئة في الجسد العربي التي أفنت شعوبها قبل أن تصيح جرائمها عابرة للقارات، وثورات اخترقت في العمق وحولت إلى فتن داخلية للحرق الذاتي.
ما حدث في بيروت لا يمكن إبعاده عن كل هذه المناخات المخيفة. لهذا، فهو يدفعنا بقوة لتأمله أكثر لأنه يعلن، بشكل رمزي وحقيقي، نهاية العرب كحضارة وفاعلية، وربما حتى كوجود. نهاية نراها اليوم تتجسد أمامنا في مشهدية دموية تعيدنا بالقوة إلى صور قديمة كنا نظن أن البشرية تعلمت منها، وأنها لن تتكرر؟ هيروشيما حيث التدمير العاصف، أو مشهد قصف سايغون في 8 يونيو/حزيران 1972 بقنابل النابالم الحارقة، ولا ينقص المشهد القيامي سوى كيم بهوك، تلك الفتاة ذات التسع سنوات، المحروقة، التي كانت تركض عارية بعد أن تخلصت من ألبستها التي التصقت بها المادة الحارقة؟ لن أتحدث عن المعضلة البنيوية والتقسيمات الطائفية في لبنان، التي جاء بها الاستعمار، تاركاً وراءه قنبلة موقوتة. هذا النقاش قد يطول.
هل كل ما حدث في ميناء بيروت هو من بفعل فاعل أم حدث بالصدفة؟ الإجابة عن هذا التساؤل تبين بوضوح من المستفيد من خراب مدينة وشعبها. ومن الصعب تصديق فكرة الصدفة، وفي هذا الوقت بالذات، حيث الأزمة اللبنانية في سقفها، والمنطقة كلها تنام على برميل من البارود يمكنه أن ينفجر في أي لحظة. ألم تكن هناك يد رتبت كل شيء، حتى وقت الانفجار الذي يصادف نهاية الدوام العام؟ وإلا، لماذا اختارت الصدفة الساعة السادسة مساء، حتى يكون عدد المصابين أقل؟ الذي قام بالعملية راهن على فكرة أقل الخسارات الممكنة، الذي يهم في النهاية هو التخلص من ترسانة نيترات الأمونيوم الحارقة. في النهاية، من له مصلحة في تخريب ما تبقى من علامات الحرية العربية؟ لم يكن عون مخطئاً عندما طلب من فرنسا أن تبعث للمحققين بالصور لمعرفة ما حدث بالضبط. ينتابني شعور غامض بتواطؤ عالمي مفجع. وإلا، أين هي الأقمار الصناعية التي تملأ السماء العربية وتعرف نبضها وتنفسها. إسرائيل التي تريد مساعدة اللبنانيين وألبست بلدية تل أبيب العلم اللبناني، ألا تملك جواباً عن طبيعة التفجير وهي توجه أقمارها الصناعية نحو كل حركة في لبنان ومحيطه؟ أين هي الأقمار الصناعية الروسية والصينية والهندية؟ مهما كان الصاروخ، إذا وُجِد، مخادعاً، فلا بد أن يرى من زاوية من الزوايا؟ أين القمر الصناعي المريض الذي اسمه جامعة الدول العربية، الذي لم يحرك ساكناً ولم نسمع له صوتاً؟ من وضع هذا الكم الهائل من نيترات الأمونيوم هناك، في مكان شديد الخطورة؟ دون أية متابعة، لا من الدولة ولا من الحكومة، ولا من الأحزاب؟ ولا حتى من الخبراء والجيش والمسيرين للميناء؟
نعرف جيداً أن الموانئ العالمية هي المكان المناسب الأقل رقابة، الذي تجري فيه الصفقات السرية، لكن ليس إلى الحد الذي يجهز على مدينة بكاملها. لكن هذه ليست إلّا تمظهرات لنظام دولي جديد لن يكون للعرب فيه أي دور، إذ سيتم تقسيمهم، وتوزع خيراتهم بين مختلف الفاعلين من استعماريي البارحة. ولإنجاز ذلك على أكمل وجه، أعطيت المناولة لبعض الدول العربية للقيام بالوظيفة التدميرية لكل ما هو بنية تحتية خسر العرب مليارات الدولارات لبنائها. وتم استنزاف المال العربي في أسلحة لن تصلح حتى في الدفاع الذاتي، لأنها محسوبة حتى في مداها وحركتها. تم الإجهاز على العراق وإبادة علمائه، بغض النظر عن الديكتاتوريات العربية التي أذلت العربي وأعطت للاستعمار الجديد كل مبررات التدخل. كُسر العمود الفقري لسوريا بعد أن أجهضت ثورتها وتم إنهاؤها كفاعلية عسكرية، يتم اليوم تمزيقها وفق إملاءات النظام الدولي الجديد تقوده اليوم نحو أشكال نظامية فديرالية ممزقة متقاتلة فيما بينها، ولتركيا دور حاسم في هذه المعادلة. لكل واحد حقه في الكعكة العربية الدموية التي وصلت حتى ليبيا. التفكيك الطائفي والإثني، في العراق وسوريا وليبيا، لن يقود إلا إلى مزيد من التمزقات المبرمجة. طبعاً الحرب اليمنية لا تعمل إلا على تعميق المشهد الدرامي العربي الذي يقود بعد حرب منهكة إلى يمنين غير سعيدين، أو أكثر، على خلفية المجاعات وشح المياه. تنشيط الإرهاب المفبرك القاعدي والداعشي ومشتقاتهما، ليس في النهاية إلا وسائل مساعدة على الصعيد الشعبي، للإفناء المبرمج. انتهى حلم الثورات العربية بعد أن تحولت إلى حروب أهلية مدفوعة إلى ذلك بقوة تتجاوز خياراتها. وتحول العالم العربي اليوم إلى كومة رماد حقيقية في انتظار المرحلة القادمة الأكثر بشاعة، ووضع كل خيراتها تحت الوصاية، وهي تواجه مصائرها التراجيدية من مجاعات قادمة وحروب مائية لن تتوقف.
في الوقت الذي يتم فيه هذا التجفيف، تستولي إسرائيل على كل منابع المياه في المنطقة. منذ مدة، جففت تركيا الكثير من المناطق السورية والعراقية بإنجاز سدود مانعة لمرور المياه نحو سوريا والعراق. مصر ليست بعيدة عن هذا، بعد إتمام إنجاز سد النهضة الذي أصبح اليوم حقيقة. وعلى الرغم من التهديدات المصرية، لم تتوقف إثيوبيا عن ملء خزانات السد، معتمدة في ذلك على حماية كلية إسرائيلية. سيموت الملايين من العرب عطشاً. لقد خرجت المسألة من الصراعات السياسية والديمقراطية وغيرها إلى صراعات استراتيجية تتجاوز إرادة الأمم. لم تبق في هذه المنطقة كعلامة حية لحداثة ممكنة، ولو رومانسياً، إلا لبنان، ونجمته المضيئة، بيروت. ندرك جيداً، كما ذكرت سابقاً، أن الأزمة اللبنانية هي أزمة بنيوية، وتحتاج إلى ثورة في النظام من الداخل، وإلى قرارات قوية، وتحديات كبيرة، لكن في بلد يغتال فيه الصحافي المميز، والرئيس الرافض، ورئيس الحكومة المصمم على فضح شبكة المصالح المورّثة، يصبح أمر الإصلاحات صعباً، والرهانات كبيرة، إذ سيطلب من لبنان دولياً، القيام بقتل نفسه حتى يقوم من رماده، لتصله المساعدات المالية الموعودة؟ لبنان اليوم على حافة الانفجار، وكأن اتفاق الطائف وصل إلى حدوده القصوى، ويحتاج إلى لبنان آخر، مقاوم بتاريخه، بثقافته العظيمة، بحربه الأهلية التي أدمته ولا يريدها ثانية، بحسه الذكي، وليس إلى لبنان مفبرك على مقاس النظام الدولي الجديد. المعضلة الكبرى، هل هناك ثقافة للدولة التي تضع في المقدمة المواطنة قبل الطائفـــة؟ للأسف لا، ربما كان الأمل في شباب الثورة في الساحات البيروتية العــــامة. أما يزال طائر الفنيق يملك جناحين للطيران من جديد خارج رماد ونيران المرفأ التي أحرقته؟
* روائي جزائري
المصدر: القدس العربي
التعليقات مغلقة.