الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

«أم محمود»

رنا قباني *

ذهبت مرة لأزور قرى ألمانية قريبة من الحدود الفرنسية. وصلت إليها عبر قطارات صغيرة، تشبه القطارات الخشبية التي كنا نلعب بها في الطفولة، وسككها الحديدية تعانق حائط غرفة «الصوفا»، توارثناها جيلاً بعد جيل بسبب متانة صنعها لتغرس حبَ السفر في لا شعورنا الجماعي.

لاحظتُ، وبلدات ألمانيا تمر بسرعة أمام نافذتي، بؤس الكثير من الركاب الذكور الجالسين بقربي، وبرميل البيرة المحلية أمامهم، يغرقون بها الوحدة وذل البطالة، ويكلمون أنفسهم بأصوات ازدادت وحشيتها مع كل كيلومتر يقطعونه.

كنا في كانون الاول، والثلج الكثيف غطى الحقول والبيوت وشجر الصنوبر، والليل نشر سواده على البياض الساكن، رغم أن الساعة لم تتجاوز الرابعة بعد الظهر. ظلت هذه المناطق ولقرون، لقمة تبتلعها ألمانيا تارة، وفرنسا تارة أخرى. ويقال أن عمال مناجمها الكادحين في ظلام أبدي طوال السنة، ابتكروا فكرة الشجرة المزينة المضيئة، التي يشع منها نور الشموع (الباهظة الثمن في الأحوال العادية، والتي تعودوا العيش من دونها)، لكي يفرحوا، ولو لأيام فقط، قلوب أطفالهم المعتمة.

’’الفراولان مينا هوفمان‘‘، بطلة قصتي وسبب رحلتي لحل لغز كيانها، كانت من عائلة فلاحين، قتل الكثير منهم في الحرب العالمية الأولى، وقصفت أراضيهم، فجاعوا بعدها لسنوات. قرأتْ هذه الفتاة الألزاسية يوماً في إعلان وُضع على باب كنيستها عن وظيفة كوصيفة لزوجة السفير الألماني الذاهب إلى دمشق. نجحت في المقابلة، إذ كانت ذكية، بشوشة الوجه، ومدبرة في إدارة المنزل، تجيد التطريز والخياطة وترتيب الخزن وتصفيف المائدة؛ بالإضافة إلى الطبخ الفرنسي والألماني، وخاصة كيف تخبز حلويات عيد الميلاد، المُبَهرة بالقرفة وبجوزة الطيب وبالزنجبيل، التي طالما اشتهر بها إقليمها.

جاءت إلى الشام هذه الشقراء «الحَسِن صبي»، ذات الشعر القصير والبنطال الأقصر، لتتجول على دراجتها في حارات مدينتنا. بعد أشهر من وصولها، ذهبت مع زوجة السفير التي كانت قد اشترت فرساً أصيلاً، لزيارة عائلة معروفة، فلاحظت أن إحدى السيدات كانت ترتدي سترة أوروبية الطراز، مفصلة بشكل أنيق جداً، فسألت عن مصدرها. قالت لها مضيفتها إنها من خياطة جارهم الموهوب، واقترحت أن تعرفها عليه على الفور، إذ أرادت الضيفة أن يخيط لها بدلة للفروسية. وبعد دقائق بالفعل، دخل هذا الشاب إلى غرفة استقبال «الفوقاني»، مع «متره» وورقه الرقيق لتصميم «البترون»، ودبابيسه ومقصه النحاسي، وقصائصه من نماذج القماش الإنكليزي الفاخر (المستورد من معامل مدينة مانشستر الشهيرة بحياكة النسيج، والتي اشترى بعضها صناعيون من حمصنا الأبية، الذين أبدعوا في إنتاج الكاشمير والجوخ والصوف، وأسعفوا هذه التقنية التي كادت أن تنهار مع انهيار الإمبراطورية البريطانية، وأسواقها في شتى المستعمرات). لم يخطر ببال الخياط الوسيم ولا ببال أصحاب الدار أنه صعد الدرج الحجري لكي يرى نصيبه أمامه، وقد أتاه من بلاد بعيدة، لا يعرف أي شيء عن تقاليدها ولا يتكلم جملة من لغتها. ولكنه حين نظر إلى الآنسة الألمانية، التي ساعدته بأخذ قياسات السفيرة، كاد أن يُغمى عليه من الشعور القوي الذي انتابه، تماماً مثلما انتاب ‘مينا’ في لحظتها!

كانت أحياء دمشق وقتها يجاور فيها البيت الغني، البيت المتواضع، والكل يعرف ويحترم ويساعد بعضه في ما لزم من الأمور. فبَعَثَ في صباح اليوم التالي بجدته ووالدته وأخته، ليطلبن من جارتهن أن تخطب ‘مينا’ لـ’جلال’. فلم تردهم السيدة، رغم اقتناعها التام بأن الألمانية سترفض عرض الزواج هذا، إذ أن عائلته كانت متدينة وتقليدية، والنساء فيها يلبسن الملاية وقلما يخرجن من الدار. ويا للغرابة، ‘مينا’ قبلت على الفور، وبسعادة لا متناهية، وعاشت مع أهل عريسها، وارتدت نفس الملاية «الشيفون» السوداء وتعلمت اللهجة الشامية القديمة، لتصبح ماهرة في صناعة المونة وتحضير «الفَتاتْ» الدمشقية الصعبة، ومنها، فتة الكوارع، التي كانت المفضلة عندها. أسْلمَت عن إيمان بعد سنوات، ورُزقت بصبي أسمته “محمود”. فصارت «أم محمود» جزءاً لا يتجزأ من حياتنا، إذ كانت تكبس لنا المخللات الملونة التي اشتهرت بها، والتي كان منظرها مثل منظر الجواهر.

حين أسس والدي التلفزيون السوري في بداية الستينيات من القرن الماضي، وأراد تقديم أول مسلسل تاريخي، احتاج مخرجه لمن يصمم قبعات لهارون الرشيد، ولملوك آخرين وملكات وشعراء من ماضينا العربي. فأتت «أم محمود» لإنقاذ الموقف، وبقيت تعمل في قسم الأزياء المسرحية في التلفزيون حتى تقاعدت، والكل كان يُدهش من القطع المخملية ذات التطريز الشرقي البديع التي كانت تبتكرها لكل شخصية.

في يوم عدتُ إلى البيت، وكنتُ قد تعرفت على كاتب بريطاني أردت الارتباط به في زواج ثانٍ، فجلستُ مع أهلي ومع «أم محمود» إلى مائدة الطعام، لأشرح لهم الموقف. حين سمعت ما قلت، صرخت «أم محمود» بذعر حقيقي وقالت بلهجة «الميدان التحتاني»: «مو عيب عليكي تروحي تتجوزي واحد أجنبي؟».

حين توفيت، ونُقل جثمانها إلى جامع في حي القصور حيث عاشت في آخر سنين عمرها، كان اليوم يوم جمعة، فقرر الخطيب المتنور التحدث عن حياة هذه الإنسانة الفريدة، التي اعتنقت الإسلام عن إيمان ومحبة، وأصبحت لا تقطع فرضاً من فروضه. فهب السامعون وحملوها على الأكتاف، وداروا بها على كل الجوامع في الطريق إلى المقبرة، ليصلى عليها مراراً قبل أن تدفن في تربة دمشق التي طالما عشقتها. حين زرتُ قبرها بعد سنين، جاء طير «حج لقلق» وحلق في السماء فوقنا، ذاك الطائر اللقلق الذي هو رمز الألزاس. فحين لمحته، قرأت لها أول آية انبثقت عفوياً ببالي: «وما تدري نفس ماذا تكسب غداً، وما تدري نفس بأي أرض تموت».

* كاتبة سورية

المصدر: القدس العربي

التعليقات مغلقة.