صقر أبو فخر *
’ديفيد معتدل‘ أكاديمي ألماني من أصول إيرانية، وهو اليوم أستاذ التاريخ الحديث في كلية لندن للاقتصاد والعلوم السياسية. وقد أكبّ هذا الباحث، عشر سنوات من العمل الدؤوب، على البحث في أكثر من 30 أرشيفًا في 14 دولة، كي يتمكّن من كتابة هذا الكتاب الذي صدر بالعربية بالعنوان “في سبيل الله والفوهرر: النازيون والإسلام في الحرب العالمية الثانية” (ترجمة محمد صلاح علي، مدارات للأبحاث والنشر، القاهرة، 2021). وكان هذا الكتاب صدر بالإنكليزية أول مرة عن منشورات جامعة هارفارد في 2014 بعنوان “Islam and Nazi Germany’s War”، وترجم إلى الفرنسية والألمانية والإسبانية والإيطالية والروسية والهولندية والتركية والفارسية، الأمر الذي يعكس أهمية الكتاب. وها هو يصدر الآن بالعربية بعد تغيير العنوان باتفاق المؤلف والناشر. وقد بلغ عدد صفحات الكتاب بالعربية 679 صفحة، منها 224 صفحة للحواشي، وثمان للصور، و20 للكشاف المختصر السقيم، و12 لمقدمة الناشر؛ فيكون متن الكتاب قد اقتُصر على 390 صفحة فقط. وقد أَثقلتْ الحواشي متن الكتاب من دون طائل، وكان في الإمكان التصرّف بها بحيث يتم التخلص من ثقلها، وتحويل النص من أطروحة تقليدية إلى كتابٍ ذي جدوى. .. ينقسم الكتاب إلى ثلاثة محاور: الأول يدور على الفكر والأيديولوجيا، وكيف كان لثلّة من المستشرقين الألمان شأن في وضع التصورات والمفاهيم عن الإسلام، أمثال “ماكس فون أوبنهايم” و”كارل بيكر” و”مارتن هارتمان”. ويدور المحور الثاني على الشأن التنفيذي، أي الإجراءات التي اتخذتها السلطات الألمانية النازية لتحقيق أهدافها السياسية والاستراتيجية. ويركّز الثالث على حملات تجنيد المسلمين، ولا سيما في القوقاز والقرم والبلقان وشمال أفريقيا، وتنظيمهم في وحدات خاصة في الجيش الألماني.
الجديد في الكتاب أنه يخلخل الاعتقاد السائد أن الاستشراق الألماني تميز بالحياد والموضوعية العلمية، وأنه لم يخضع للغايات الاستعمارية أو السياسية. وفي هذا الميدان، يعيد المؤلف النظر في تلك الفرضية ويحاول تقويضها (ص 14). ويكشف الكتاب أن المفوضية الألمانية في القاهرة دعمت جماعة الإخوان المسلمين في ثلاثينيات القرن المنصرم (ص 165)، وأن الاستخبارات الأميركية تعاونت مع سعيد رمضان تلميذ مؤسّس جماعة الإخوان المسلمين، حسن البنا، ثم صار هذا التلميذ في ما بعد زعيمًا للجماعة في أوروبا (ص 415). وللغرابة، هذا الكتاب الذي استغرق العمل عليه عشر سنوات، واستند إلى مئات المصادر والمراجع والوثائق، أغفل في مصادره المرجع الفلسطيني الأبرز في هذا الميدان، كتاب ’’عبد الرحمن عبد الغني‘‘ “ألمانيا النازية وفلسطين: 1933-1945” (مؤسسة الدراسات الفلسطينية، بيروت، 1995). وهو أطروحة لنيل الدكتوراه من جامعة هايدلبيرغ.
ومهما يكن الأمر، ستناقش المقالة كتاب ’ديفيد معتدل‘ بمجمله، لا قطعة قطعة، والغاية هي عدم الإثقال على مَن سيقرأها بإرغامه على متابعة تفصيلاتٍ لا تُحتمل على غرار حواشي هذا الكتاب.
ألفاظ غير مؤدبة:
في أثناء المؤتمر الصهيوني المنعقد في القدس في 21/10/2015، وقف رئيس حكومة إسرائيل السابق، بنيامين نتنياهو، ليفتري على الحاج أمين الحسيني، بقوله إنه شجّع هتلر على إبادة اليهود حينما التقاه في برلين في 21/11/1941. ولم يتورّع نتنياهو عن الكذب، حين زعم أن هتلر لم يكن يرغب في إبادة اليهود، لكن المفتي أمين الحسيني ذهب إليه، وقال له: إذا طردتم اليهود فسيأتون إلى فلسطين. فقال له هتلر: ماذا أفعل بهم إذاً؟ فأجابه المفتي: أحرقهم. وليس من هو أكذب من نتنياهو في هذا الزعم المضحك، الأمر الذي اضطره إلى التراجع عن تلك الفرية لاحقًا. وعلى غراره، ادّعى ’ديفيد معتدل‘ أن المفتي ألقى خطبة في 1/3/1944، دعا فيها إلى قتل اليهود مستشهدًا بآية “واقتلوهم حيث ثقِفتموهم” (ص 147). أما مرجعه في هذا الكلام الزائف فهو “لوكاس هيرتزوفيتش” وكتابه “الرايخ الثالث والمشرق العربي” (بالإنكليزية، تورونتو: 1966). وهذه الافتراءات وغيرها نسجها الصهيونيون والمتعاونون مع الصهيونية في الماضي، ثم دأبت الصهيونية، بإعلامها وإعلامييها، على تصوير أي مقاومةٍ للهجرة اليهودية إلى فلسطين، وأي معارضةٍ لفكرة تأسيس وطن قومي يهودي، دعما مباشرا للنازية، وأن إعاقة وصول المهاجرين اليهود أدّت إلى موتهم. والصحيح أن بريطانيا وأميركا هما من أغلق الحدود في وجه اليهود، فيما كانت فلسطين مشرعة الموانئ والشطآن أمام أولئك المهاجرين. ومن باب إنعاش ذاكرة المفترين على الحاج أمين الحسيني، أُعيد على أسماعهم وأبصارهم ما حدث في ليلة الكريستال (كريستال ناخت) في 9/11/1938 حين قُتل عشرات اليهود في برلين، واعتقل 30 ألفًا منهم، وأُتلف سبعة آلاف متجر و400 كنيس، ونُهبت المنازل التي يقطنها اليهود. آنذاك، كان المفتي يقيم تحت المراقبة الفرنسية في بلدة زوق مكايل في لبنان، غير قادر على تحريض هتلر على اليهود. وفي 30/1/1939، أعلن هتلر أمام الرايخشتاغ عزمه على إبادة اليهود، أي قبل أن يضطرّ الحاج أمين الحسيني إلى اللجوء إلى ألمانيا بسنتين. ثم إن الحاج أمين ما كان يستطيع التأثير، ولو مقدار خردلة، في الاستراتيجية الحربية الألمانية في الحرب العالمية الثانية. ولذلك، الكلام المعطوب على اتهام المفتي بحثّ الألمان على إبادة اليهود هراء بهراء.
وليس صحيحًا على الإطلاق أن المفتي هو أحد أكبر منظمي الهزائم لشعبه، بحسب الباحث اللبناني، جلبير الأشقر؛ فمصير فلسطين قرّرته السياسات الأوروبية (البريطانية بالدرجة الأولى) التي أرادت الخلاص من المشكلة اليهودية التي كانت تقضّ مضاجعها آنذاك. وفي أي حال، لم يتردّد معارضو الحاج أمين الحسيني في فلسطين في الموافقة على الكتاب الأبيض الذي أصدرته بريطانيا في 17/5/1939، ووافق عليه أيضًا بعض أنصار المفتي، أمثال جورج أنطونيوس وموسى العلمي وعوني عبد الهادي ويعقوب الغصين وعبد اللطيف صلاح وغيرهم، بعدما تعب الفلسطينيون من الإضراب الكبير والثورة (1936 – 1939)، ومال بعضهم إلى القبول بالكتاب الأبيض البريطاني. فماذا كانت نتيجة الموافقة؟ لا شيء. ولم تنفذ بريطانيا بنود كتابها ذاك. إذاً، لا معنى للكلام عن أن الحاج أمين قاد شعبه إلى الهزائم، لأنه تمترس خلف رفض جميع المقترحات البريطانية (واليهودية) مثل قرار التقسيم.
إن تصوير فلسطينيين كثيرين في صورة المتعاطفين مع النازية، وتلفيق مزاعم عن مشاركة عربية في جرائم النازية، علاوة على صوغ خرافات عن “العرب المؤيدين للنازية”، هو استغلال مبتذلٌ لتحقيق أهداف سياسية وإعلامية، وهو ما جهدت إسرائيل بقوة لترويجه، وجاراها في ذلك كتّابٌ عرب يزعمون أنهم يكتبون تاريخ تلك الأيام بحيادية أو بموضوعية. وبات مكشوفًا تمامًا، إلا لمن له عينان ولا يرى أو له أذنان ولا يسمع، أن الإسرائيليين هم مَن رسم للحاج أمين صورة شيطانية. والقصد من الكلام المتواصل على المفتي وعلاقته بهتلر هو التوصل إلى الاعتقاد بأن إبادة اليهود لم تتوقف بسقوط ألمانيا النازية، بل إنها ما برحت مستمرّة في صور ميشال عفلق وجمال عبد الناصر وياسر عرفات وأنطون سعادة وفوزي القاوقجي وقسطنطين زريق وجورج حبش. والحقيقة التي باتت ساطعة تماماً منذ زمن بعيد أن المفتي كان من دعاة الحياد بين دول الحلفاء ودول المحور في الحرب العالمية الثانية، ودعا إلى عدم اشتراك العراق في الحرب بأي ثمن، وهو ما اتفق عليه في 1939 مع العقداء الأربعة، محمود سلمان (قائد الطيران العراقي) وفهمي سعيد وصلاح الدين الصبّاغ وكامل شبيب، وهؤلاء أعدمهم الجيش البريطاني بعد فشل حركتهم الانقلابية في عام 1941.
ما كان من اللائق أن يستعمل ’ديفيد معتدل‘ ألفاظًا غير مؤدّبة في الحديث عن الحاج أمين، مثل “جلبته وزارة الخارجية الألمانية من العراق” (ص 17)، و”عميل لوحدات الحماية” (ص 18)، و”المزهو بنفسه” (ص 81)، و”خطاب الكراهية الشهير الذي ألقاه الحسيني” (ص 146)، علمًا أن وزارة الخارجية الألمانية لم تجلب المفتي من العراق، بل اضطرّ إلى الالتجاء إلى روما بعد فشل حركة أيار/ مايس 1941، وحكاية خطبة المفتي التي دعا فيها إلى قتل اليهود مجرد أكذوبة. وتذكّر لغة كتاب “في سبيل الله والفوهرر” بعبارات من العيار نفسه استخدمها جلبير الأشقر في كتابه العرب والمحرقة النازية (دار الساقي، بيروت، 2010) مثل: “مُصاب بجنون العظمة” (ص 208)، و”تواطؤ أمين الحسيني الاجرامي” (ص 208)، “أحد شياطين العصر” (ص 209)، “أحد القادة المشؤومين” (ص 211)، “أحد أكبر منظمي الهزائم (ص 232)، “انحدر إلى حضيض العار” (ص 232)، “سيئ السمعة” (ص 258). ولا نعجب إزاء هذه العبارات أي عجب؛ فنصف الحقيقة ليس الحقيقة على الإطلاق، بل هو تضليل. وواضحٌ هنا أن الانتماءات الأيديولوجية غلبت على الموضوعية تماماً، ولا يجوز في الكتابات التاريخية نحت الماضي بحسب رغبات الحاضر.
يقول جلبير الأشقر: “غالبًا ما يجري طرح افتراضين إضافيَين، مع أنهما لم يثبتا، والأرجح أنهما لن يثبتا أبدًا. ويذهب الافتراض الأول إلى أن المفتي كانت له صلات بأدولف أيخمان، ويذهب الافتراض الثاني إلى أنه زار معتقل أوشفيتز” (ص 242). ومع أن جلبير الأشقر أشار إلى أن آيخمان نفسه برّأ المفتي في أثناء محاكمته في إسرائيل، وأومأ إلى كتاب حنة أرندت الموسوم بعنوان “آيخمان في القدس” التي دحضت تلك التهمة، إلا أنه بإصراره على طرح هذين الافتراضين السخيفين يريد أن ينبش “مثالب” الحاج أمين، على الرغم من الوثائق الدامغة في هذا الأمر. وفي هذا السياق، يؤكد عبد الرحمن عبد الغني: “لم نعثر في وثائق وزارة الخارجية الألمانية، ولا في وثائق الدائرة التي كان آيخمان يرأسها، على أي إشارة إلى اتصالات رسمية أو أي تعامل بين المفتي ودائرة آيخمان” (ص 361).
لماذا إذاً يسرد جلبير الأشقر مزاعم وخرافات عن الحاج أمين الحسيني (مع إشارته الخجولة إلى أنها مزاعم لم تثبت صحتها؟). يمكن تقليد هذه الطريقة البائسة بالقول إن جلبير الأشقر التقى أريئيل شارون قبيل مجزرة صبرا وشاتيلا، ثم التقى باروخ غولدشتاين قبيل تنفيذه مجزرة الحرم الابراهيمي في الخليل، غير أن هذه الأخبار لم تثبت صحتها. والعجيب أن الأشقر يظهر في كتابه المذكور ليّنًا مع الصهيونية وإسرائيل، وقاسيًا جدًا مع الحاج أمين الحسيني وفوزي القاوقجي ورشيد عالي الكيلاني.
ألمانيا النازية والعرب:
كانت السياسة الألمانية خلال المرحلة الأولى من الحرب العالمية الثانية تقوم على إطلاق أيدي إيطاليا في إعادة هيكلة النطاق العربي. وتجنّبت ألمانيا في تلك المرحلة تشجيع الاستقلال القومي لبعض الشعوب المستعمرة، ومنها الشعوب العربية، كي لا تتضارب مصالحها مع المصالح الإيطالية في ليبيا والبلقان، ومع المصالح الاسبانية في المغرب (الساقية الحمراء ووادي الذهب)، ومع مصالح فرنسا بزعامة الجنرال بيتان وحكومة فيشي في سورية ولبنان والجزائر والمغرب وتونس، ومع السيادة الكرواتية على البوسنة والهرسك. وكان البحر الأبيض المتوسط، من جبل طارق حتى قناة السويس، قليل الأهمية الاستراتيجية للألمان، لأن المجال الحيوي الأهم هو أوروبا والاتحاد السوفياتي، فيما كان البحر المتوسط يتمتع بأهمية خاصة لدى إيطاليا؛ فهو بحيرة إيطالية، علاوة على أهميته لمستعمراتها في ليبيا وشرق أفريقيا. آنذاك، نشأت نظرية “المجالات المنفصلة والحرب المتوازية”، لكن ذلك كله راح يتغير مع هزيمة إيطاليا في شمال أفريقيا. وحتى عام 1940، لم يكن لدى القادة الألمان اهتمام حيوي ذو شأن بالعرب. لكن إخفاق الجنرال الإيطالي رودولفو غراتسياني في ليبيا، وتراجعه أمام القوات البريطانية في شمال أفريقيا والبلقان، جعلا هتلر يوافق على نشر فيلق ألماني بقيادة الفيلد مارشال رومل في شمال أفريقيا في أوائل 1941. وكان العرب يكرهون إيطاليا كرهًا شديدًا جراء ما فعلته بالشعب الليبي.
وهكذا، فإن تحالفات ألمانيا النازية مع إيطاليا موسوليني وفرنسا الفيشية وإسبانيا الفرانكوية كلفتها فقدان تعاطف جزء من العرب معها. ومنذ البدايات، رفضت الأجهزة الأمنية النازية إقامة أي علاقة بالحركة الوطنية الفلسطينية والحركة القومية العربية. ففي يناير/ كانون الثاني 1937 زار سعيد فتّاح الإمام برلين مبعوثًا من الكتلة الوطنية السورية بزعامة شكري القوتلي، والحاج أمين الحسيني، اللذين طلبا الدعم من ألمانيا للوقوف في وجه بريطانيا وفرنسا، فرفض الألمان التجاوب مع المطالب الفلسطينية والسورية، لأن ألمانيا لم تكن حينذاك ترغب في إغضاب بريطانيا، خصوصًا أن الأخيرة وافقت بصمت، بعد زيارة وزير خارجيتها اللورد هاليفاكس إلى برلين في 1937، على ضم النمسا وإقليم السوديت التشيكي إلى ألمانيا. ومعروفٌ أن محمد عزة دروزة ومعين الماضي وعوني عبد الهادي وفوزي القاوقجي تردّدوا مرّات على فريتز غروباً في بغداد في 1937 طالبين المساعدة للتحرّر من بريطانيا، وأن عوني عبد الهادي وموسى العلمي زارا برلين لهذه الغاية، والتقيا ألفرد روزنبرغ، لكن ألمانيا لم توافق على تقديم أي مساعدةٍ للفلسطينيين والسوريين والعراقيين، حتى لا تُغضب بريطانيا (راجع: عبد الرحمن عبد الغني، ألمانيا النازية وفلسطين، مصدر سبق ذكره، ص 218 و219).
لم تكن العلاقة التي نسجها المفتي مع دول المحور خيارًا سياسيًا، بل عمل قسري، لأن بريطانيا لم تكفّ عن التفتيش عنه لاختطافه أو قتله منذ غادر القدس إلى لبنان خلسة في 1937، ثم فراره إلى سورية فالعراق في 1939. وجاء سقوط العراق في أيدي البريطانيين بعد حركة مايس 1941 الفاشلة، ليرغم المفتي على اللجوء إلى إيران مؤقتًا. وغداة الهجوم السوفياتي – البريطاني على إيران، قرّر مغادرة إيران إلى تركيا، لكن تركيا منعته من دخول أراضيها، فاضطرّ إلى التسلل المدروس إلى إيطاليا، ومن هناك نسج علاقاته بدول المحور. والمشهور أيضًا أن وزير الدولة البريطانية لشؤون الهند، ليو إمري، بعث رسالة إلى وزير المستعمرات في 5/10/1940 يدعوه فيها إلى اختطاف المفتي أمين الحسيني. وناقشت هيئة الأركان البريطانية العامة فكرة الاغتيال، ووافق عليها ونستون تشرشل، لكن وزارة الخارجية تحفظت (راجع: ألمانيا النازية وفلسطين، ص 254). وأطلق الجنرال ويفل كلاً من يعقوب ميريدور ودافيد رازيئيل، وهما عضوان في الإرغون (المنظمة العسكرية القومية الصهيونية) من السجن في فلسطين، وأرسلهما إلى العراق لاختطاف المفتي أو اغتياله، لكن الخطة فشلت جرّاء مقتل رازيئيل في 20/5/1941.
يؤخذ على الحاج أمين الحسيني دوره في تأسيس “أسراب الحماية البوسنية”. والحقيقة أن مسلمي تلك الديار هم الذين اتصلوا بالمفتي، مستغيثين بعد مقتل نحو مئتي ألف بوسني وهرسكي في سنجق يني بازار. فما كان من المفتي، جرّاء ذلك، إلا أن اتصل بموسوليني الذي لم يفعل شيئًا. وبناء على اقتراحات البوسنيين أنفسهم، جرى الاتفاق مع القوات الألمانية على تجنيد شبان من البوسنة والهرسك ويني بازار في وحدات للحماية، تكون مهمتها حماية النفوس والممتلكات، ولا تُكلّف أي عمل عسكري خارج بلادها. وهكذا ظهرت أسراب الحماية البوسنية المؤلفة من فرقتين: خنجر وكاما. ولم تشارك تلك الأسراب في أي عمل ضد اليهود على الإطلاق. ومعظم عناصر الأسراب انضموا إلى المقاومة اليوغوسلافية ضد الاحتلال الألماني في سنة 1944 (انظر: صقر أبو فخر، الحاج أمين الحسيني والبوسنيون: وقائع لها تاريخ، صحيفة وموقع العربي الجديد، 14/11/2015).
المفتي وتناقض المصالح مع النازية:
كانت مصالح الحاج أمين ومصالح النازية متضاربة جدًا، فبينما رأت النازية في هجرة اليهود إلى فلسطين مصلحة حيوية لها ولألمانيا، اعتبر الحاج أمين تلك الهجرة خطرًا على فلسطين، خصوصًا بعدما بدأت أخبار اتفاقية هاعَفَراه (الترحيل) بين الحركة الصهيونية وألمانيا الموقّعة في 25/8/1933 تتوارد إليه تباعًا. وسعى المفتي إلى إيقاف هجرة اليهود من دول جنوب شرق أوروبا التي خضعت في ما بعد للجيش الألماني في أثناء الحرب العالمية الثانية. أما الميل الفلسطيني إلى دول المحور، خلافًا لأطروحات ’ديفيد معتدل‘ و’جلبير الأشقر‘، فقد نشأ جرّاء سياسة بريطانيا في رعاية الحركة الصهيونية وتسهيلها الهجرة اليهودية. وبهذا المعنى، كان التعاطف الفلسطيني مع ألمانيا من طرائق التعبير عن العداء للبريطانيين. ومعظم أعلام الحركة القومية العربية في تلك الحقبة رأوا أن من شأن هزيمة الحلفاء في الحرب أن يخلّص العرب من الاستعمارين، البريطاني والفرنسي، ويوقف الهجرة اليهودية، ويمنع قيام دولة يهودية في فلسطين. والحماسة العربية لألمانيا تعود إلى زمن أقدم بكثير من زمن الحرب العالمية الثانية؛ فألمانيا كانت حليفة للدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى، وخصوم الدولة العثمانية هم الإنكليز والفرنسيون الذين مزّقوا المشرق العربي بمعاهدة سايكس- بيكو (1916). ومثلما أرادت ألمانيا تمزيق معاهدة فرساي (1919) التي قطّعت ألمانيا إلى قطع ضُمّ بعضها إلى بولندا، وبعضها إلى فرنسا (الرور)، وإلى تشيكوسلوفاكيا (السوديت)، فإن العرب أرادوا أيضًا تمزيق سايكس – بيكو. ورأى الفلسطينيون العرب تمزيق هتلر بنود معاهدة فرساي واسترجاع إقليمي السار والرور عملاً تاريخيًا هائلاً، فتطلعوا إلى الأمر نفسه، واعتقدوا أن إعادة توحيد سورية وتحرير فلسطين ومنع تدفق اليهود أمر ممكن. أما اليوم، فإن النبش في تواريخ المفتي أو رشيد عالي الكيلاني أو فوزي القاوقجي أو شكيب أرسلان هو في معظمه نبشيات غير علمية وهزيلة وذات غايات غير نزيهة. والوعي المتأخر لا يفيد في مساءلة الماضي، حتى أن يساريين تحولوا إلى الليبرالية سيتهللون غبطةً إذا اعترف الفلسطينيون بحق إسرائيل في الوجود، حتى لو لم تعترف إسرائيل بحق الفلسطينيين في تقرير مصيرهم. وهؤلاء ليسوا أصحاب أقلام، بل حَمَلة خناجر، واهتمامهم بالتاريخ ينصبّ، في بعض وجوهه، على تصيّد الفضائح لا على المعرفة. ومن علائم عدم الدقة المقصودة في كتاب “في سبيل الله والفوهرر” قول المؤلف: سلّم السويسريون الحاج أمين إلى الفرنسيين الذين منحوه دارًا للإقامة (…). وفي النهاية أطلق الحلفاء سراحه (…). وفي 28/5/1946 أقلته طائرة من باريس إلى القاهرة (ص 412). والأمور لم تجرِ على هذا النحو على الاطلاق. وكلام معتدل هنا تزوير وتضليل، وليس مجرد غلط. والصحيح أن الحاج أمين الحسيني فرّ إلى مدينة بيرن في سويسرا في 5/5/1945 بعد اكتمال هزيمة ألمانيا. لكن السلطات السويسرية رفضت السماح له بالإقامة فيها، وأنذرته بضرورة المغادرة، فحاول عبور الحدود إلى فرنسا فقُبض عليه في 19/5/1945، ووضع في الإقامة الجبرية المنزلية (ولم يمنحوه دارًا كما يزعم ديفيد معتدل). آنذاك، بدأ السفيران، البريطاني والأميركي، يطالبان السلطات الفرنسية بتسليم المفتي إلى محكمة نورمبرغ. وفي تلك الأجواء المضطربة والمشحونة، تمكن الوطنيون العرب المقيمون في فرنسا من مساعدة المفتي وتهريبه إلى القاهرة بجواز سفر معروف الدواليبي في 29/5/1946. ومعروف الدواليبي صار رئيسًا للحكومة السورية في ما بعد.
الإبادة النازية لليهود والتاريخ:
إذا كانت الإبادة النازية لليهود عارت التاريخ الأوروبي الحديث، فإن إنكارها انحطاط أخلاقي بلا ريب. كذلك فإن إدارة الظهر أو إشاحة البصر عما ترتكبه إسرائيل يوميًا في حق الفلسطينيين، وعما ارتكبته في الماضي في حق العرب في لبنان وسورية ومصر والأردن، هو عار آخر لا يقل انحطاطًا عما انحطّ إليه منكرو الإبادة النازية. نحن لا ننكر الإبادة النازية لليهود بالتأكيد، لكننا لا نتحمّل المسؤولية عنها. والمسؤول عن تلك الفظاعات هو ألمانيا النازية. والإبادة النازية لليهود ليست جزءًا من التاريخ العربي المعاصر، أو السياسات العربية، لكنها صارت جزءًا من الثقافة الإنسانية، وفي سياقها الثقافة العربية، وجزءًا من الحساسية البشرية الراقية التي ترفض جميع أشكال الإبادة والعنصرية وامتهان كرامة الإنسان أينما وُجد، وتحت أي حال. وعلى الوعي العربي العام أن يتقبل أن الإبادة النازية لليهود كانت أمراً كريهاً ومروّعًا، ويجب ألا تُلقي النكبة الفلسطينية بستائرها على تلك الحقبة الجهنمية من تاريخ البشرية؛ فالتخفيف من آلام تلك الإبادة لدى بعض الأوساط الثقافية العربية ليست فضيلةً على الإطلاق، بل انحطاط. وفي المقابل، فإن تصيد مواقف من هنا أو هناك لإدانة التاريخ النضالي العربي، ولإدانة الحاج أمين الحسيني بالتحديد، أمر كريه أيضًا.
إنكار الإبادة أمر غير صحيح وغير أخلاقي في الوقت نفسه، كأن يأتي شخص في يوم لينكر مجزرة صبرا وشاتيلا على سبيل المثال. وأكثر ما يسيء إلى الحسّ الإنساني أن إسرائيل وأنصارها حوّلوا الإبادة النازية إلى صناعة، فاليهود في ألمانيا وجوارها دفعوا ثمنًا هائلاً بلا ريب. لكن من غير المقبول أن تحتكر إسرائيل ومؤسساتها الإبادة التي طاولت اليهود بالدرجة الأولى، لكنها طاولت البولنديين والشيوعيين والغجر أيضًا. وهنا، في هذا الميدان، أرى أن ثمة معاندة غير نزيهة تتمثل في رفض مقارنة ما حلّ باليهود في أوروبا بما حلّ بالهنود الحمر في أميركا، أو بما حلّ بالفلسطينيين في فلسطين، بذريعة الفارق العددي في أرقام الضحايا. المسألة ليست قضية رقمية، بل سياسية وتاريخية وأخلاقية.
القصف الوحشي البريطاني للمدن الألمانية يجعل الفوارق بين ونستون وتشرشل وأدولف هتلر محدودة جدًا. وثمّة مأخذ مهم على كتاب ديفيد معتدل، أنه أشاح النظر عما جرى لشعوب البلقان بعد هزيمة ألمانيا، وعما جرى لمواطني الاتحاد السوفياتي، ولا سيما المسلمون، من إعدامات وترحيل إلى معسكرات الاعتقال (الغولاغ) التي أفاض الروائي سولجنستين في تصويرها، فقد طُرد ذوو الأصول الألمانية من أوطانهم بجريرة النازية، ووصلت أعدادهم إلى 11.5 مليونًا في الحد الأدنى (3.5 ملايين من بولندا، 2.3 مليون من تشيكوسلوفاكيا، مليون من الاتحاد السوفياتي، 400 ألف من المجر، 300 ألف من رومانيا، مليون من مناطق أوروبية مختلفة)، وربما وصل مجموع أعداد المرحّلين قسرًا إلى 15 مليونًا. لنتذكّر مآسي الترانسفير: ترحيل اليهود من أوروبا إلى فلسطين، ترحيل الفلسطينيين إلى الدول العربية المجاورة، ترحيل اليونانيين من تركيا إلى اليونان، ترحيل سكان القرم والقفقاس إلى مناطق روسية بعيدة، ترحيل قبائل الشيروكي من الهنود الحمر من جورجيا إلى أوكلاهوما سيرًا في صقيع الشتاء الذي قضى على معظمهم في الطريق، إبادة السكان الهنود الحمر الذين كانوا يعدّون 6.5 ملايين نسمة في عام 1500، فصاروا نصف مليون في سنة 1890، أي أن ستة ملايين هندي أُبيدوا على مراحل.
* * *
قبل أربعين عاماً، أي بعد مجزرة صبرا وشاتيلا في عام 1982، قلنا: نغفر ولا ننسى. لكن بعض اليساريين غير اليهود لا يريد أن يغفر أبدًا ما جرى في ألمانيا قبل 80 عامًا. وهذا شأنه في أي حال. أما نحن فلا نجادل في أن الهولوكوست أحد أبشع وقائع التاريخ القريب؛ إنه حدث من المحال نسيانه خصوصًا لدى اليهود. لكن الغفران أمر لا يمكن تجنبه كي تستقيم الأخلاق الانسانية. وللأسف، كثيرون لا يريدون أن ترتفع الأخلاق فوق السياسات، ويريدون الاستمرار في استحلاب ذلك الحدث الاستثنائي لتأمين مكاسب شتى سياسية وثقافية، وابتزاز تاريخ مَن يمكن ابتزازه، كالحاج أمين الحسيني الذي ما عاد موجودًا ليدافع عن نفسه. إنه تضليل وتزوير للتاريخ القريب بذريعة عدم نسيان ذلك التاريخ.
* كاتب وباحث سياسي فلسطيني
المصدر: العربي الجديد
التعليقات مغلقة.