الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

حصاد «السماق»

رنا قباني *

مطيعة الفتاة عريضة الابتسامة وطويلة الضفائر التي أتت لتسكن في شقتنا قبل ولادتي بأسبوع، لتصبح حارستي ومربيتي لم تكن تكبرني بأكثر من 12 سنة. كانت من مواليد ضيعة جبعدين الاثرية، المحفورة في صخر جبال القلمون كتوأم مسلم سني لـمعلولا المسيحية. 

كانت لغة المسيح الآرامية السريانية تُحكى في الضيعتين كلغة دارجة، لا كلغة دير مار تقلاالوقور وحده (ذلك الدير الحبيب على قلوبنا، الذي خرّج راهباتنا الصادقات الثوريات، اللواتي رفضن نسيان قسم الفقر الذي أقسمّنه حين واجهن عدسات تلفزة النظام الأسدي القاتل).

سكن الإنسان السوري الأول في كهوف “جبعدين”، وزيَّنها برسوم ما اصطاد من طيور وغزلان، ثم بنى أول بيوت من طينها الاشقر، وصممها لتشبه شكل ثدي الأنثى المكور المعطاء. وكانت مياه “جبعدين” الجوفية باردة مثل ثلجها، الذي هبط كل شتاء بسخاء، لينفيها عن العالم.

لم أعرف بعدها كيف أنام براحة كما كنت أنام في بيت أهل ‘مطيعة’، حين كانت تصحبني لأزور معها عندهم. فالصمت كان مدهشاً في آخر خمسينات القرن الماضي، فلم تكن هناك مواصلات ولا أخبار ولا آلات تصخب في الآذان. كنا نصحو على صوت الديك، وحده. أمينة، أم ‘مطيعة’، ربت أمي، وجدّتها ربّت جدّتي، فكانت الألفة تُتوارث عبر الأجيال، ولم تخدشها التغيرات الحادة التي أتت مع انقلاب حزب البعث ومجيء العسكر إلى الحكم. قبل هذا الحدث المأساوي في تاريخنا الحديث، كانت عائلات الشام تساعد أهل الضيع الفقيرة التي كانت صلاتها بها زراعية أو تجارية أو ودّية فقط، فتقبل من أبْ ابنته لكي ‘تتدمشق’، وتتعلم فنون الطبخ وعرض الأطباق وتزيينها وترتيب المائدة.

أهم من ذلك كان صنع ‘المونة’ السنوية، من كشك وشنكليش وقاورمة اللحم والمكدوس والبامية الملضومة كالأطواق، وغلي المربى والمعقود ونشرهما على سطوح البيوت. هذا كله كان يدرّ معاشاً هو أحيانا الضمان الاقتصادي الوحيد للعائلة القروية، وكان يضمن أيضاً الترفيع الاجتماعي لابنتها، في اختيار الأفضل بين من يتقدم ليطلب يدها للزواج.

كانت ‘مطيعة’ سريعة البديهة وصاحبة نكتة جاهزة، كما كانت تتقن تقليد جيراننا، خاصة خير الدين بيك، المتصنع الأكبر في الحارة ذات الهيبة ‘العصملية’، والذي لمحته مرة ينحني ليلتقط قطعة نصف فرنك من على الرصيف، فانفتق بنطاله دون أن يدري!

عرفت جدتي أن غرام ‘مطيعة’ الأول والأخير هو ابن عمتها الفقير، فلما جاء ابن عمها ليخطبها، وكان الشاب الاغنى في جبعدين، قلبت الدنيا لكي تجد للأول عملاً في أحد متاجر العاصمة، بحيث يستطيع أن يتزوج ‘مطيعة’ خطيفة، ويسكن معها قريباً منا.

وحتى اليوم، حين أحضّر سلطة الفتوش وأرشّ عليها «السماق»، أتذكر كيف كانت سهول “جبعدين” تعج به، وكيف كنت أساعد عائلتي الثانية بحصاده، قبل أن تصبح هذه المنطقة من سوريا محتلة من جيوش طائفية أتتنا مشحونة ومدججة من إيران والعراق ولبنان، لتحصد أرواح اطفالنا بدل «السماق».

* كاتبة سورية

المصدر: القدس العربي

التعليقات مغلقة.