فيصل عكلة *
على تلة رابية غربي معرة النعمان تنتصب بلدة حاس، بلدة وادعة من ريف إدلب الجنوبي تسند ظهرها على السفح الجنوبي من جبل الزاوية و يجاورها من الغرب مدينة كفرنبل وكفروما من الشرق وتحيط بها الكثير من الآثار التاريخية كآثار الربيعة وشنشراخ من الشمال وخربة فارس الأثرية من الشرق الشمالي إضافة إلى مدينة الهناجاك الأثرية في الجنوب الشرقي، وتغطيها أشجار التين والزيتون وتزين دوالي العنب مداخل منازلها، وكان يعيش فيها قبيل الاحتلال ما يزيد عن خمسة وعشرين ألف نسمة من أهلها إضافة الى ما يقرب من عشرة آلاف نسمة من المهجرين قسريًا من محافظات الجنوب.
أهالي حاس يعملون في الزراعة وخاصة زراعة الزيتون والتين وزراعة الحبوب والخضار البعلية مثل القثاء والجبس والبطيخ، ونتيجة لقلة المياه وضعف الموارد اتجه أبناؤها نحو الدراسة لتأمين مستقبلهم حيث يوجد فيها المئات من حملة الشهادات الجامعية والدراسات العليا ومن كافة الاختصاصات.
قبل سنوات من انطلاق الثورة ظهر في البلدة توجه نحو الصناعة حيث تم افتتاح عدد من معامل البرادات وورشات تدوير البلاستيك ومعامل انتاج مواد البناء، الأمر الذي أكسب أبناء البلدة تحسنًا ملموسًا في مستوى المعيشة .
انضمت حاس إلى أخواتها في جبل الزاوية في فترة الحراك السلمي منذ بدايات الثورة وقدمت العديد من الشهداء حينئذ وكان شباب البلدة يحملون أغصان الزيتون واللافتات الملونة والمعبرة ويتوجهون إلى المظاهرة المركزية كل جمعة في معرة النعمان، ودخل جيش النظام البلدة في الشهر السابع من عام 2011 وبدأت عمليات الملاحقة والاعتقال الأمر الذي سبب هروب الكثير من الشباب وهو النزوح الأول من البلدة، وبعد تحرير البلدة بعد سنة تقريبًا من دخول الجيش بدأ قصف الطيران إضافة إلى الصواريخ التي انهالت عليها من وادي الضيف قرب معرة النعمان ومن الحامدية حيث مقر كتائب النظام، وهو الأمر الذي سبب تدمير بعض البيوت واستشهاد العديد من أبناء البلدة ومزيد من النزوح نحو المخيمات وتركيا وبقي يعيش بالبلدة الفقراء الذين لا حول لهم ولا قوة على تحمل تكاليف النزوح.
شارك الطيران الروسي إلى جانب مروحيات النظام في الهجوم على البلدة عبر الغارات الجوية المكثفة إضافة إلى صواريخ المدفعية وذلك عبر سنوات الثورة وهو ما سبب الكثير من الدمار وأرغم الآلاف من أهلها على النزوح، وكانت أكبر تلك المجازر مجزرة الأقلام في الشهر العاشر من عام 2016 والتي راح ضحيتها ما يقرب من 40 شهيدًا بين تلميذ وولي أمر ومسعف حيث استهدف طيران النظام بسبعة صواريخ محملة بالمظلات مدارس البلدة والطرق المؤدية لها أثناء الدوام وعند تواجد الطلاب على مقاعد الدرس و دمّر معظم المدارس.
في الفترة التي سبقت النزوح من عام ٢٠٢٠ كانت الحملة الشرسة الأخيرة والتي انطلقت أواخر الشهر الرابع منه وتصادفت مع بداية شهر رمضان الكريم تعرضت البلدة كباقي ريف إدلب الجنوبي إلى موجة من قصف طيران النظام وطيران العدوان الروسي، وكانت هي الأكثف خلال سنوات الثورة، إضافة إلى قصف مدفعي من حواجز النظام القريبة والذي لا يكاد يخلو يوم من ذلك القصف، مع تواجد طيران الرشاش على مدار الساعة الأمر الذي أرغم معظم أهالي البلدة على النزوح واستمر الأمر على هذا المنوال حتى مطلع الشهر الثاني من نفس العام ٢٠٢٠ حيث احتلت قوات النظام المدعومة من الطيران الروسي مدينة معرة النعمان، وكثفت قصفها على بلدات حاس وكفرنبل وبسقلا المجاورات لها، الأمر الذي أرغم ما بقي من أهلها على مغادرتها هائمين على وجوههم نحو مخيمات ومدن الشمال، تاركين خلفهم منازلهم وكل ما فيها من ذكريات وحاملين ما وصلت إليه أيديهم، يغتنمون ساعات الصباح الأولى عندما ينام المجرمون، متسللين عبر دروب جبلية ضيقة قاصدين الحدود التركية.
شكل أهل البلدة لجنة طوارئ تساعد المجلس المحلي في مساعدة النازحين وتأمين سيارات النقل، التقينا عبد الله النجيب عضو لجنة الطوارئ في البلدة وسألناه عن تلك الساعات فقال لصحيفة إشراق: توجه أغلب أهالي البلدة في بداية الأمر إلى مخيمات الشمال في أطمة وقاح وانضموا إلى ذويهم في الخيم حيث اجتمعت ثلاث أو أربع عائلات في خيمة واحدة مما دعا إلى تشكيل لجنة طوارئ للبلدة استأجرت أرضًا بالقرب من سرمدا وأنشأت مخيم فيها حيث وصل عدد العوائل فيه إلى سبعمائة عائلة تم تأمينها إضافة إلى تزويد الخيم بالخبز والماء عبر تواصل مع المنظمات الإنسانية وما زال المخيم بحاجة إلى مدرسة ونقطة طبية . وعن حال أهل البلدة في تلك الأيام قال النجيب: الكثير من أهل البلدة والنازحين إليها- و قد وصل العدد إلى00 15 عائلة- باعوا ما سلم من متاعهم واشتروا أمتارًا قليلة في منطقة دير حسان وبنوا عليها مسكنًا صغيرًا وهو عبارة عن غرفة ومنافع مع سقف من النايلون والشادر، أما من يملك بعض المال من أبناء البلدة فقد توجه إلى مدن الشمال مثل سلقين وحارم وكبتا، ومنهم من سكن شققًا على العضم وغير مجهز، والقسم الذي اضطر البقاء في البلدة قبل وصول قوات النظام فقد عاشوا حياة قاسية وخطرة وعانوا من ظروف لا تخطر على بال، وللتذكير بتلك الأيام سألنا الأستاذ حسن الأحمد من مكتب الخدمات في المجلس المحلي فأجاب: في الفترة التي سبقت وصول قوات النظام ومع ارتفاع وتيرة القصف بقي في البلدة حوالي 100 عائلة من أهالي البلدة اضافة إلى ما يقرب من 30 عائلة نازحة آثروا البقاء لأسباب متعددة منها الفقر وغياب البديل، كما بقي عدد من شباب البلدة لحراستها من السرقة بعد أن أودعوا عوائلهم في مناطق الشمال، كانت البلدة تتعرض وبشكل يومي إلى غارات من الطيران إضافة إلى قصف مدفعي متكرر من حاجز النمر شمال خان شيخون الأمر الذي كان يلزم الناس البقاء في الملاجئ، حيث فقدت البلدة ما يزيد عن عشرين شهيدًا وعشرات المصابين وتدمير خمسين منزلًا إضافة إلى المشفى الوحيد في تلك الآونة وتوقفت حركة الحياة بشكل كامل وغدت البلدة بلدة أشباح!
قصدنا بلدتنا رغم خطورة الوضع في هاتيك الأيام وتجولنا فيها مودعين، وفي تجوالنا في أزقتها الخالية من المارة لاحظنا انتشار القطط التي كانت تموء محركة أذيالها خلف كل عابر تبحث عن من يؤنسها وقد تجمعت حول الحاج (أبو يوسف ٥٠ عاما) قرب منطقة الجبل المتطرفة عن وسط البلدة ليشرح لنا أبو يوسف عن الجهود التي يبذلها في تقديم الطعام للقطط وقال أنه يشتري يوميًا اللبن لإطعامها فلها أرواح كما لنا أرواح!
مربّوا الماشية كانت معاناتهم أشد فهم بحاجة إلى أوضاع خاصة والبعض منهم بقي في البلدة آنئذ وشكا لنا سبب بقائه وهو صعوبة توفر المكان لعائلته ولأغنامه وللأعلاف، وهو أمر فوق طاقته وعليه فقد سلم أمره لله و دخل مع غنمه إلى المغارات!
طلب منا أحد شباب البلدة التوسط مع أبيه العجوز لإقناعه بالنزوح في ظهيرة أحد الأيام وفي فترة غياب الطيران خوفًا على حياته وعندما دخلنا إليه في مسجد الحارة، قرأت في عينيه رجاءً وأملًا مني وكأني به يطلب أن أقول له أن الوضع يميل نحو الهدوء ولا حاجة للنزوح، وعندما سمع ذلك مني رأيت دموع الفرح في عينيه وكأن الروح قد عادت إليه، عندها عرفت معنى التعلق بالأرض !
تتجمع سيارات النزوح قرب البلدة في الصباح الباكر كل يوم وقبل أن يظهر حربي الرشاش لتنقل ما تبقى من الأغراض إلى المخيمات، وكم هو مؤثر عندما تشاهد جيرانك يضعون في صندوق السيارة قطة البيت أو سطل الحبق الى جانب ألعاب الأطفال وترمس الماء.
نستذكر هذه اللحظات الفترة التي سبقت الاحتلال أيام موسم الخضار الصيفية في بلدة حاس، حيث ينطلق من تبقى من أهالي البلدة في الصباح الباكر إلى (المقاتي) لقطف العجور والبندورة، إضافة إلى التين والعنب وإحضارها إلى ساحة (البازار) في البلدة لبيعها للتجار في الصباح قبل سماع هدير الطيران، بينما تهدأ حركة الناس في الليل إلا من يمشي في الظلام أو على دراجاتهم النارية دون استخدام الأنوار وهو ما سبب العديد من الحوادث الأليمة مع غياب مشفى البلدة الوحيد الذي تعرض للتدمير الكلي من الطيران الروسي، حتى أطباء البلدة والصيادلة نزحوا أيضًا وبقي طبيب وحيد في البلدة رفض النزوح وأخبر من حوله أنه آخر رجل يغادر حاس، وغابت الخدمات عن البلدة وفرن البلدة كان يضطر لإحضار الخبز من أفران جبل الزاوية القريبة، كما أن هناك دكانًا للخضار يفتح أبوابه فترة الصباح الباكر ويغلق على عجل، وقد شاهدنا أحد الشباب يجلس على حجر صغير ويسند رأسه بيديه رغم صوت الطيران وبعد أن سلمت عليه قال : كما تعرف أبي وأمي( واقعين) بالأرض وعاجزين، ولا أدري ماذا أفعل وأين أذهب بهم!
ارتفعت مظاهر التآلف الاجتماعي في تلك الأيام الصعبة وتجلت في اندفاع الناس أثناء القصف، ورغم الخطورة بمعاودة القصف إلى إسعاف المصابين واستخراج الشهداء من تحت الأنقا، وأثناء إعدادنا لهذا التقرير تواردت أنباء عن احتمال توقيع هدنة ذلك ما انعكس فورًا راحة على وجوه الناس في المخيمات وفي الشتات، وراحوا يتبادلون رسائل التهنئة والمباركة ولكن صباح الخامس والعشرين من الشهر الثاني كان يومًا حزينًا وفيه دخلت جحافل قوات الأسد مدعومة من روسيا و إيران إلى البلدة لتنام حاس ليلتها الأولى حزينة وثكلى على أهلها وقد سكنها الأغراب تنتظر يومًا تشرق شمسه وقد عاد إلى حاس أهلها ليزهر الرمان و يضيئ زيت الزيتون.
* كاتب صحفي سوري
المصدر: اشراق
التعليقات مغلقة.